العرب وإسرائيل: السلام غير مستحيل

العرب وإسرائيل: السلام غير مستحيل

اعتاد العرب والإسرائيليون التأريخ لصراعهما من منطلق الحروب التي دارت بينهما، وعمليات الاغتيال التي تبادلا القيام بها ضد بعضهما البعض، وكأن المواجهات الدامية هي قدرهما الوحيد، متجاهلين أنه منذ اندلاع الصراع والمساعي المختلفة تبذل، والعديد من العقول تجتهد لبلورة مبادرات والقيام بمحاولات لتجنيب المنطقة المزيد من الدمار وإراقة الدماء، ولإرساء أسس سلام عادل، دائم وشامل يضمن حقوق كافة الأطراف.

فإذا كانت المنطقة قد عاشت أربع حروب شاملة ومدمرة، وعدة مواجهات دموية محصورة الرقعة الجغرافية كانتفاضة الحجارة سنة 1987، وحرب سنة 2006 بين إسرائيل وحزب الله اللبناني؛ فإنها في المقابل كانت مسرحا لمبادرات سلام عديدة تباينت أهدافها وقوتها القانونية، واختلفت طبيعة الواقفين وراءها بين منظمات دولية وإقليمية وشخصيات سياسية وفكرية، وتجمعات مدنية هاجسها الأكبر تفادي ويلات الصراع، وإرساء أسس تعايش سلمي مشترك.

لقد بدأت جهود المجتمع الدولي قبل اندلاع أول صراع مسلح بين الطرفين، جسّدها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الخاص بتقسيم أرض فلسطين إلى دولة يهودية أعلن عن قيامها في 15 مايو (أيار) 1948 تحت اسم إسرائيل ودولة عربية لم تنشأ، وإنما ضمت أراضيها إلى سيادة الأردن. وقد توالت هذه الجهود بعد الحرب الأولى لتسفر مساعي الوسيط الأممي رالف بانش عن إبرام اتفاقيات للهدنة في أبريل (نيسان) 1949 صمدت لبضع سنوات قبل أن تتجاوزها الأحداث في عدوان السويس سنة 1956، ثم حرب يونيو (حزيران) 1967.

أمام تجذر العداء بين الطرفين، والتعنت الذي ميز مواقفهما، كان منتظرا تعثر معظم الاتفاقيات وتراجع الكثير من المبادرات. ومع ذلك لم تفتر جهود الأمم المتحدة، وظلت متواصلة عبر إيفاد مبعوثين وإصدار قرارات لوقف الأعمال العدائية، واحتواء الخلافات ومحاولات تسويتها مثلما تبين في قرار مجلس الأمن 242 سنة 1967، والقرار 338 سنة 1973، وكلاهما ينص على ضرورة تهيئة الأجواء للوصول إلى سلام عادل ودائم يضمن الأمن للجميع؛ وذلك من خلال رفض الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، وتكثيف الوساطة الدولية لتأمين مواصلة جهود تحقيق تسوية سلمية ومقبولة.

إن مساعي المجتمع الدولي لن تظل الوحيدة على الساحة، فبعد الاختراق السلمي الحاصل في الصراع بالوصول إلى معاهدة سلام مصرية إسرائيلية تبلور تيار عربي معتدل استطاع أن يعطي لتوجهه طابع إجماع عربي رسمي جسده مشروع الأمير فهد الصادر عن قمة فاس سنة 1982. وقد تأكد هذا التوجه بعد مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر (تشرين الأول) 1991 في مبادرة السلام العربية الصادرة عن قمة بيروت 2002.

ولم تقتصر جهود السلام في الشرق الأوسط على المساعي الرسمية فقط، ولكنها برزت أيضا في اجتهادات شخصية لسياسيين ومفكرين متعددي الجنسية، كان أبرزها مشروع أنطوني إيدن رئيس وزراء بريطانيا الأسبق الداعي سنة 1955 إلى تقديم تنازلات متبادلة، والسعي إلى صيغة تسوية بين الموقفين العربي المصري على العودة لحدود التقسيم، والموقف الإسرائيلي المتشبث بحدود هدنة 1949.

وبعد عشر سنوات في أبريل 1965 سيبرز اقتراح الرئيس الحبيب بورقيبة الذي تقدم بمشروع تسوية يعكس واقعية تحليل الزعيم التونسي لأبعاد الصراع، إذ اقترح عودة إسرائيل لحدود التقسيم وإقامة دولة فلسطينية يعود إليها اللاجئون من مناطق الخط الأخضر بدلا من الإصرار على عودتهم إلى مناطق سنة 1948.

وعلى عكس الاستنكار العربي الشديد الذي قوبل به، فإن مشروع الرئيس التونسي الأسبق لقي ترحيبا مبدئيا من رئيس وزراء إسرائيل آنذاك ليفي أشكول الذي بلور بدوره مشرع سلام عرضه في مايو 1965 مؤكدا فيه على إجراء مفاوضات مباشرة بين بلاده والدول العربية التي أبرمت اتفاقيات الهدنة لتجاوز الأوضاع المرحلية إلى اتفاقيات سلام دائمة تراعي الأوضاع الترابية الجديدة مع تعديلات طفيفة، وتسمح بالاستفادة من مزايا السلام  كحرية التنقل والتجارة والملاحة وغيرها.

ورغم نبل مساعي السلام المختلفة، فإنها هي الأخرى دفعت ضريبة دم غالية، وفاتورة تشهير وتشنيع وتشريد غير إنسانية سددها أناس ذنبهم الوحيد إيمانهم بإمكانية السلام، وسعيهم من مواقعهم الوظيفية إليه أو الترويج بأقلامهم لمنافعه.

في هذا السياق يعتبر اغتيال الوسيط الدولي الكونت برنادوت، من طرف عصابة شتيرن في سبتمبر (أيلول) 1948 أول ضريبة دم يدفعها أنصار السلام رغم أن مشروعه كان يسعى لترسيخ قيام الدولة العبرية، وإقناع الدول العربية بتحقيق السلام معها؛ فيما يعد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين أشهر ضريبة دم سددت في سبيل السلام، إذ لم يشفع لرابين لا إيمانه الصهيوني ولا ماضيه العسكري، فجرى اغتياله سنة 1995 بعد تبادله الاعتراف مع منظمة التحرير الفلسطينية، وتوقيعه اتفاق غزة أريحا أولا.

وقد دفع كثيرون من دعاة السلام أيضا فاتورة غالية تمثلت في التشهير بالبعض، وبتشريد آخرين وحرمانهم من مصادر لقمة عيشهم، كما حصل لأعضاء من «التحالف الدولي من أجل السلام العربي الإسرائيلي»، الذين تحلوا بشجاعة إصدار إعلان كوبنهاغن سنة 1997، كأول وثيقة ترى أن «السلام من الأهمية بمكان بحيث لا يترك للحكومات فقط، وأن الصلات بين الشعوب أمر حيوي لنجاح جهود السلام في المنطقة»، التي ما لم تقف وراءها قاعدة شعبية فإنها ستتراجع.

 

font change