الحرب الأوكرانية العبثية

الحرب الأوكرانية العبثية

الحروب بمجملها عبثية وهذا الأمر ينطبق بشكل أساسي على اجتياح روسيا لأوكرانيا. كل الأسباب التي عددها بوتين لتبرير اجتياح بلاده لأوكرانيا تكاد تكون مضحكة، كمحاربة واقتلاع النيونازية الأوكرانية التي تشكل تهديدا للأمن القومي الروسي. أو تهديد الناتو لبلاده إذا ما قرر الحلف ضمّ أوكرانيا.

ليس هناك أي تبرير لفعلة بوتين سوى أنه ظن أن بإمكانه اليوم مع تراجع  النفوذ الأميركي في أكثر من مكان، ضم الدول التي كانت تشكل قوة الاتحاد السوفياتي السابق بالعنف والإخضاع إلى مملكة ينشئها قضمة بعد أخرى: جورجيا، القرم، أوسيتيا، أبخازيا، دونباس، لوغانسك، كازاخستان، واليوم أوكرانيا، قضمها بشكل أو بآخر من دون أن يعترض الغرب فعليا على أعماله العدائية، بعض العقوبات الخجولة والتي لا تقارن مع تلك التي يفرضها الغرب والأوروبيون، خاصة اليوم، على بوتين، ردا على اجتياحه الجار القريب.

أوكرانيا بلد لا يشكل خطورة على روسيا، وموضوع انضمامه لحلف الناتو كان يمكن أن يعالج بالمفاوضات من دون الركون إلى الحرب والعنف والقتل وتدمير البنى التحتية الأوكرانية، خاصة وأن الناتو لم يبرهن يوما جدواه أو لم يقم يوما بدور هجومي على أي بلد آخر، وغالبا ما تفادى المواجهات كما عند النزاع التركي الروسي في سوريا مثلا، حيث اكتفى بالتضامن مع بلد عضو يتعرض للهجوم.

وكان يمكن تفادي هذا الغزو من خلال المفاوضات؛ فالغاز هذا السلاح الذي يهدد به أوروبا كان حتما سيكون حجة مقنعة لمفاوضيه بغض النظر عن انضمام الأوكرانيين لحلف الناتو إذا كان هذا هو السبب الفعلي لدى بوتين لهذا الاجتياح. وحتى في حال انضمام أوكرانيا لحلف الناتو كان يمكن لبوتين كرد على هذه الخطوة محاولة قلب النظام الأوكراني مثلا- و قد فعلها سابقا- وإعادة إنتاج رئيس موالٍ للكرملين على شاكلة يانوكوفيتش. كان لديه أكثر من خيار قبل أن يدفع بشبابه للقتال في بلد يرتبط ثقافيا ودينيا وعائليا بروسيا.

 ثم رفضه أن يكون لدول الناتو حدود مع روسيا يثير السخرية، إذ إن ألاسكا الولاية الأميركية على حدود روسيا، كما أن تركيا العضو في حلف الناتو هي الأخرى قريبة جدا من روسيا. حجج بوتين لا تصمد أمام التمحيص والتدقيق. بوتين، الذي يجلس على طاولة طويلة جدا يضع على أحد أطرافها زائريه، عنده الكثير من جنون العظمة.

يبدو أن بوتين يريد أن يكون جزءا من موازين القوى التي بدأت تتشكل اليوم على ضوء الوقائع الجديدة، ولكن ليس لأنه يملك التكنولوجيا التنافسية، أو القدرة الاقتصادية العالمية. بوتين يريد أن ينضم لهذا النادي لأنه يملك رؤوسا نووية فقط.

لا مجال هنا لمقارنة روسيا بالصين من حيث القدرات؛ فالأخيرة تنافس الولايات المتحدة الأميركية في مجالات التكنولوجيا أو تتفوق عليها مثلا في موضوع الجيل الجديد لـ«5-G»، وهي أيضا في الطليعة بمجالات الصناعة، تملك القوة العسكرية والقدرة المالية وأصبحت الحكومات تتعامل مع الصين على أنها قوة عظمى، لها استثماراتها في أفريقيا وآسيا، ولها استراتيجية توسعية تركن إلى مكامن القوة التي عددناها.

هذا لا ينطبق على بوتين وروسيا الذي بالكاد يضاهي اقتصادها اقتصاد بلد كأسبانيا بالرغم من كونه أكبر بلد من حيث المساحة في العالم. أما في عالم التكنولوجيا فقوته تنحصر برعايته جيشا من القراصنة يوجههم تارة للتدخل في انتخابات دول الغرب وتارة أخرى لقرصنة بيانات شركات أو هيئات حكومية. وهذا أصلا سيف ذو حدين، إذ إن هناك قراصنة نجحوا في اختراق مواقع حكومية روسية مع بدء الحرب على أوكرانيا. في المجال الأمني يعتمد بوتين على مجموعة فاغنر الإرهابية التي تتواجد في أكثر من بلد كسوريا وليبيا ومالي وغيرها من البلدان ويشاركون في حروبها الأهلية ويعملون بتوجيه من سيد الكرملين دون أن يكون لهم ارتباط علني  أو مباشر به.

هل تمنحه تلك الأدوات مقعدا في نادي القوى العظمى؟ هل ترضخ أوروبا لابتزازه هذا؟ أين ستقف شهية بوتين إذا ما رضخ العالم لضمه أوكرانيا أو جزءا منها؟ هذا لا يبدو نهج الأوروبيين حتى الساعة ولا ينعكس على تصريحات قادتها ولا على قراراتهم والعقوبات المفروضة على روسيا بالرغم من الانتقادات التي تتعرض لها تبدو قاسية وسيكون لها ارتداداتها على البلد بشكل كبير.

مبادرة روسيا العسكرية من دونها مخاطر، فهل يمكنها مثلا فرض سيطرتها على الدول التي تعتبرها حيوية لها؟ هل تواجه نوعا من تمرد على أدائها من قبل الشعوب التي تفرض عليهم سيطرتها؟ هل تغرق روسيا في مستنقع أوكراني؟ هل تتشجع الشعوب التي تناهض روسيا إلى التمرد على سلطتها من خلال رفض الذين يعينهم بوتين في تلك البلاد؟ ثم ماذا عن الداخل الروسي؟ أسئلة كثيرة لا نملك الإجابة عنها اليوم.

فقد يربح بوتين المعركة الأوكرانية ولكنه سيصبح معزولا بسبب العقوبات التي يعرض بلاده لها. فها هي المجالات الجوية تقفل بوجه الطيران الروسي، وها هي بعض المصارف تخرج من نظام سويفت، الروبل يخسر من قيمته، الشركة المشغلة لنورد ستريم أعلنت إفلاسها. هذا لا يعني أن الأوروبيين لن يعانوا أيضا من هذه المواجهة، ولكنهم يبدون على استعداد لدفع ثمنها. في المحصلة النتيجة التي كان يتوقعها بوتين من تمكين سيطرته على الدول المجاورة قد تضعفه وستدفعه العقوبات إلى اللجوء والاعتماد على الصين بشكل أكبر وليس أبدا على قدم المساواة. بل سيكون مدينا لها من أجل استمرار حكمه.

و في مجال آخر فإن أداء العالم تجاه اجتياح بوتين لبلد آمن سيكون موضوع متابعة من قبل الصين وتايوان، فإن فشلوا في جعله يدفع ثمنا لا يمكن أن يتحمله جراء غزوته، فهذا سيعني أن تايوان قد تكون مقبلة على مصير مشابه.

من هنا يدرك الأوروبيون أهمية مواجهة أحلام بوتين التوسعية. فهل ينجحون؟

 

 

 

 

font change