كيف نجحت أنقرة في «استدراج» موسكو إلى وساطتها مع أوكرانيا؟

استئناف المباحثات الروسية الأوكرانية محاولة لإحياء الدور التركي في المنطقة

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين

كيف نجحت أنقرة في «استدراج» موسكو إلى وساطتها مع أوكرانيا؟

موسكو: عروض الوساطة السياسية بين روسيا وأوكرانيا لم تتوقف منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في 2014 وما أعقبها من أحداث مأساوية تبلغ ذروتها هذه الأيام، بما يتابعه العالم من أحداث حرب ضروس، تسميها موسكو «العملية العسكرية» التي لا أحد بعد يمكن أن يتوقع موعدا لنهاياتها، وإن كشفت مباحثات إسطنبول عن بوادر ضوء في نهاية النفق. توالت هذه العروض من مختلف البلدان الشرقية والغربية، وتباينت بقدر تباين علاقات هذه البلدان مع الطرفين المتصارعين. ومنها كانت الصين وقازاخستان في الشرق، وتركيا وفرنسا وألمانيا وبولندا في الغرب، ومعها بلدان أخرى كثيرة، منها إسرائيل التي أعلنت عن نفسها، بمباركة أوكرانية كشف عنها الرئيس فلاديمير زيلينسكي عبر مناشدته للكنيست الإسرائيلي، وندائه إلى «يهود العالم» الذي أطلقه في الأيام الأولى للحرب الروسية الأوكرانية.

أنقرة تنشد صداقة وتعاون موسكو، في الوقت نفسه الذي تمد فيه كييف بالطائرات المسيًرة، وتدرب قواتها المسلحة بما في ذلك علي ما جرى ويجري استخدامه من أسلحة ومعدات حديثة تدفقت عليها من بلدان الناتو دعما وتأييدا وحفزا لها في مواجهاتها مع روسيا. وها هي تركيا تعود ثانية لتؤكد أنها تبدو الأجدر بتولي ملف إعداد الموقع المناسب لإجراء الوساطة بين الجانبين الروسي والأوكراني، وأنها تظل الأكثر ملاءمة موقعا ودورا لاستئناف المباحثات المشتركة بينهما، بما قد يكون أكثر جدوي على أرضية مماثلة. ورغم أن الرئيس فلاديمير بوتين لم يكشف بعد عن موافقته على الجلوس إلى مائدة المفاوضات وجها لوجه مع نظيره الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، فقد أعرب عن استعداده للتفاوض، دون أن يحدد ماهية المشتركين في قوائمها، وقبل إحراز ما قد يكون مقدمة مناسبة للنتائج المرجوة.

وبعد مد وجزر، ومشاحنات واتهامات متبادلة، كان الجانبان الروسي والأوكراني استهلا مباحثاتهما في بيلاروس التي استضافت الجولات الثلاث الأولى من هذه المباحثات، قبل أن يتحولا إلى مفاوضاتهما عبر الفيديو كونفرانس، وحتى قبولهما بعروض تركيا، ومنها ما جمع وزيري خارجية البلدين الروسي سيرغي لافروف، ونظيره الأوكراني ديمتري كوليبا في أنطاليا مطلع مارس (آذار) الماضي، وقبل أن تعود لتستأنف ما سبق وطرحته من اقتراحات للوساطة بين كل من روسيا وأوكرانيا على مدى السنوات القليلة الماضية منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في عام 2014، باستضافة المباحثات الأخيرة التي جرت في إسطنبول يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين.

استؤنفت المفاوضات بين موسكو وكييف في 14 مارس الماضي

 

استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية

كانت العروض كثيرة، ومنها ما أعلنه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من كييف خلال زيارته الأخيرة التي قام بها للعاصمة الأوكرانية في مطلع فبراير (شباط) الماضي، وجاءت في أعقاب أخرى سبق واصطدمت برفض قاطع من جانب الكرملين، ثمة من عزاه إلى غضب مكتوم تجاه القيادة التركية. أما عن أسباب هذا الغضب والاحتجاج غير المعلن تارة، والصارخ تارة أخرى، فمنها ما يعود إلى سياسات التعاون في مختلف المجالات بما فيها العسكري بين أنقرة وكييف، امتدادا لتاريخ مشترك، واعتمادا على العديد من الروابط الاقتصادية والإنسانية لطالما جمعت بين البلدين منذ سنوات الإمبراطورية العثمانية.

وكان الرئيس التركي إردوغان كشف خلال زيارته الماضية لكييف قبيل اندلاع المواجهة العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، عن دعوته لعقد لقاء ثلاثي يجمعه مع الرئيسين الروسي بوتين والأوكراني زيلينسكي في تركيا، وهو ما سارع زيلينسكي إلى قبوله، معربا عن شكره لوساطة نظيره التركي «على طريق الجهود الرامية إلى إنهاء الحرب. من أجل السلام في أوكرانيا، ومؤكدا استعداده لفعل كل ما هو ممكن على جميع المنصات وبجميع الأشكال»، على حد تعبيره.

على أن ذلك وحده، وبموجب دلائل ومؤشرات كثيرة، لا يمكن أن يكون الدافع الوحيد لما تبديه تركيا من اهتمام بأوكرانيا المجاورة خلال السنوات القليلة الماضية. إذ يذكر التاريخ القريب أن تركيا كانت من أولى الدول التي انتقدت انضمام شبه جزيرة القرم لروسيا، وترفض حتى اليوم الاعتراف بها جزءًا من الأراضي الروسية، في الوقت الذي لا تعلن فيه صراحة عن اعتبار القرم أرضا أوكرانية، تحسبا ليوم يمكن أن تعلنها فيه أرضا تركية، اضطرت الإمبراطورية العثمانية إلى التنازل عنها بموجب نتائج حرب القرم الثانية بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية في سبعينات القرن الثامن عشر إبان سنوات حكم الإمبراطورة كاترينا الثانية.

وكانت السنوات الماضية كشفت عن تصاعد طموحات القيادة التركية صوب استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، وما واكب ذلك من مخاوف لدى الأوساط السياسية والاجتماعية الروسية تجاه تجدد المخططات الرامية إلى استعادة أمجاد الإمبراطورية التي لم تقتصر وحسب على فضاء آسيا الوسطى والمناطق المتاخمة، بل وتجددت أيضا تجاه عدد من مناطق شمال وجنوب القوقاز، ومنها شبه جزيرة القرم، فضلا عن أراضٍ أخرى في أعماق الأراضي الروسية، ومنها مقاطعة ألطاي التي ظهرت ضمن خرائط التوسعات المأمولة من جانب تركيا. ويذكر المراقبون ما جرى من أحداث ومعارك بين أذربيجان وأرمينيا المجاورتين، وما بذلته تركيا من جهد ودعم لأذربيجان التي ترتبط معها بالكثير من الأواصر التاريخية والأصول المشتركة، في توقيت مواكب لما كشفت عنه أنقرة من طموحات تجاه استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، وما كان يربطها من أواصر تاريخية مع بلدان الأسرة الطورانية.

وعلى الرغم من سابق رفض موسكو للكثير من عروض الوساطة التي تعددت مصادرها بما فيها أنقرة كما أشرنا سلفا، فقد عادت لتقبل بدور محدود تمثل في استضافة أنطاليا لأول مباحثات مباشرة على مستوى وزيري خارجية البلدين لافروف وكوليبا، تحت رعاية نظيرهما مولود جاويش أوغلو في مطلع مارس الماضي. ولم يمض من الزمن الكثير حتى عاد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى سابق اتصالاته مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين الذي فاجأ العالم بإعلانه عن قبوله اقتراح إردوغان حول استضافة إسطنبول للمباحثات الأخيرة بين الوفدين الروسي والأوكراني بديلا لبيلاروس التي سبق واستضافتهما خلال الجولات الثلاث الأولى من هذه المفاوضات. وذلك ما كان مقدمة لإعلان إردوغان حول أن بلاده ستواصل تعزيز السلام بين روسيا وأوكرانيا. ونقلت المصادر الرسمية التركية عن إردوغان ما قاله حول أنه «شدد على ضرورة إقامة هدنة وسلام بين روسيا وأوكرانيا في أسرع وقت ممكن، وكذلك لتحسين الوضع الإنساني في المنطقة». وأضاف قوله «إن تركيا ستواصل المساهمة في هذه العملية».

 

ثقة مبالغ فيها

أما عن الأسباب التي قالت المصادر الرسمية ذات الصلة المباشرة بموسكو إنها تقف وراء قبول اختيار تركيا كمنصة للقاء، فتلخصت في كونها غير مدرجة في القائمة الروسية للدول غير الصديقة، فضلا عن أنها لم تفرض عقوبات علي روسيا. ونقلت صحيفة «كومسومولسكايا برافدا» الصحيفة الروسية الأوسع انتشارا عن مراد بشيروف  المسؤول عن قناة Politjoystick Telegram ورئيس الوزراء السابق لجمهورية لوغانسك تصريحاته حول أنه يمكن للمرء أن يقول بجواز ذلك بالنسبة لفرنسا أو سويسرا على سبيل المثال، لكنهما من البلدان التي فرضت العقوبات ضد روسيا. وبالتالي لن يكون من المنطقي إجراء مفاوضات على أراضي هذه الدول. بيد أن تركيا، ومنذ بداية هذه العملية، كانت أعلنت أنها مستعدة لأن تصبح مفاوضًا. وهذا على الرغم من حقيقة أنهم يواصلون بيع الأسلحة لأوكرانيا. وذلك ما قالوا إنه قد يساعد على احتمالات أن يكون الأتراك أصحاب تأثير على الأوكرانيين.

ومن اللافت في هذا الصدد، ما أشار إليه بشيروف رئيس حكومة جمهورية لوغانسك السابق حول أن المفاوضات المباشرة الأخيرة قد تكون نتاج شعور مشترك بأنها يمكن أن تكون سبيلا إلى إحراز بعض التقدم. وأضاف بشيروف أنها قد تكون أيضا تعبيرا عن إرادة خلصت إليها الأطراف المعنية بعد زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للاتحاد الأوروبي. وأضاف قوله «أعتقد أنه تم منحهم ممرات أوسع للمفاوضات». ومضى الخبير السياسي إلى ما هو أبعد، بإعلانه أن الممرات الواسعة فرصة لمناقشة قضايا لم تكن محل ثقة من قبل. وهذا لا ينطبق فقط على قضايا السلامة الإقليمية لأوكرانيا، ومنها ما يتعلق بقضايا وقف الأعمال العدائية واستسلام بعض التشكيلات المسلحة في الشرق.

على أن ذلك كله، يظل ورغما عن أهميته من حيث التوقيت والمضمون، مجرد إضافة لمتن علاقات الأطراف المعنية على الأصعدة كافة. وتشير المصادر في هذا الصدد إلى واردات تركيا من أوكرانيا في مجالات  الفحم، والحديد والصلب، وكذلك منتجات الصناعة الكيماوية، إلى جانب صادراتها إليها من المنتجات الصناعية والمنسوجات والمواد الغذائية. واستضافتها للعديد من الشركات والمطاعم والمحلات التجارية التركية. وثمة من يشير إلى ما يقفز إلى صدارة العلاقات الثنائية من تعاون عسكري نشيط  يتمثل في  المناورات البحرية المشتركة، وإمداد تركيا لأوكرانيا بالطائرات المسيرة، من طراز « Bayraktar TB2»، التي اتفق الطرفان في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي على توريد 48 طائرة منها، إلى جانب الإنتاج المشترك للطرادات وطائرات النقل العسكرية من طراز An-178، فضلاً عن إمكانية افتتاح مصنع في أوكرانيا لإنتاج الطائرات المسيرة.

وإضافة إلى ذلك، تُظهر أنقرة عبر ما يصدر عنها من تصريحات تنم عن ثقة مبالغ فيها، أنها وعلى الرغم من تطلعاتها إلى أن تكون قوة عالمية، ليست على دراية كاملة بمدى وأبعاد مثل تلك المسؤولية، في الوقت نفسه الذي تسترشد فيه في المقام الأول برغباتها وتطلعاتها وأهدافها، وليس بحسن النوايا في التعاون، حسب تقديرات روسية كثيرة.

ولعل ذلك هو ما تمثل في تصريحات صدرت عن مصادر أوكرانية وروسية كثيرة تقول إن الاتفاق لا يزال بعيدا، وإن ظل الضوء في نهاية النفق ينذر باحتمالات التوصل إلى مثل هذا الاتفاق. وكان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان كشف عن معلومات تفيد بأنه تم الاتفاق على أربع من أصل ست قضايا رئيسية بين أوكرانيا وروسيا، ومنها ما جرى إعلانه على وجه خاص بشأن التخلي عن عضوية الناتو والاعتراف بالروسية كلغة رسمية ثانية للدولة.

ومن اللافت في هذا الصدد ما استبق به الجانب الأوكراني المباحثات الأخيرة في إسطنبول من توقعات اعترف من خلالها بزيف مواقف الكثير من القوى الدولية التي تواصل محاولاتها لإطالة أمد المواجهة مع روسيا لاستنزافها والاستفادة من الموقف الراهن لخدمة مآرب ذاتية. وننقل عن موقع «الوقت الراهن» الإلكتروني الأوكراني ما صدر من تصريحات عن إيليا كوسا، «الخبير في السياسة الدولية» لدى المركز التحليلي التابع لمعهد «المستقبل» الأوكراني، ومنها ما كاله إلى الولايات المتحدة من اتهامات حول استمرارها في محاولات الاستفادة من فرصة المشاركة في إعادة توزيع سوق النفط والغاز، من أجل التحول إلى أكبر مصدر للغاز المسال إلى أوروبا مع حلول عام 2024. وقال ما نصه: «أرى أنهم يريدون من روسيا أن تضعف على المدى الطويل. إنهم يستهدفون جعل هذه العملية طويلة، بحيث تمتد لبعض الوقت. فكلما طالت مدة مشاركة روسيا في الحرب في أوكرانيا، تخضع لعقوبات، أو تخسر الأموال، على سبيل المثال، نتيجة لانخفاض دورها في أسواق النفط والغاز، تزداد من وجهة نظر المصالح طويلة الأجل في الولايات المتحدة، إلى جانب خروج روسيا تدريجياً من صفوف المنافسين الجيوسياسيين».

 

أما عن الوساطة التركية، فقد قال إيليا كوسا: «هناك وسيطان يحاولان بنشاط تنظيم مفاوضات بين روسيا وأوكرانيا: إسرائيل وتركيا. هذان هما الوسيطان الأكثر نشاطا. لا تزال فرنسا لديها محاولات، لكن وفقًا لتصريحات إيمانويل ماكرون، لم يتفقوا على أي شيء مهم مع بوتين خلال الماراثون الهاتفي».

ومضى الخبير الأوكراني ليضيف أنه «من الواضح أن نجاح المفاوضات لا يعتمد على مكان أو جو هذا المكان أو أي شيء آخر. المفتاح هو ما ستتفق عليه الأطراف، وما هي التنازلات التي سيكونون أو لن يكونوا مستعدين لتقديمها. الوسيط يلعب فقط دورًا في تنظيم هذه المفاوضات. وهنا تعتبر تركيا أحد الوسطاء الطبيعيين، لأن لديها علاقات وثيقة مع كل من أوكرانيا وروسيا وعلاقات جيدة على المستوى الشخصي بين إردوغان وزيلينسكي وبين إردوغان وبوتين».

وثمة من يقول بذات الصدد إن تركيا قد تكون على بعد نصف خطوة من اتخاذ مبادرة لإنشاء تحالف على غرار التحالف الذي جرى الإعلان عن قرب تشكيله بين أوكرانيا وبولندا وبريطانيا  للتعاون العسكري السياسي. بل وصدرت توقعات تقول أيضا باحتمالات انضمام عدد من دول منطقة البحر الأسود إلى مثل هذا التحالف. وقالوا إنه من الممكن الانتقال من اتفاقية التجارة الحرة إلى تحالف عسكري. وإنشاء كتلة صغيرة من شأنها أيضا ردع روسيا عن المزيد من العدوان، على حد تعبيرهم.  

وحول الدور الذي يقوم به الرئيس التركي إردوغان، قال فخر الدين ألتون رئيس قسم العلاقات العامة في ديوان الرئاسة التركية، إن إردوغان عرض التوسط بين روسيا وأوكرانيا، «حيث لدينا علاقات قوية مع البلدين». وبحسب قوله، فإن أنقرة فعلت كل ما في وسعها على المستوى الدبلوماسي لمنع الوضع الحالي. تم تجاهل دعواتنا لإصلاح نظام الأمم المتحدة ورأينا العواقب الوخيمة لذلك في الأزمة الأخيرة. كان من الممكن تجنب هذه الحرب لو تم الاستماع إلى دعواتنا. لقد طالبنا مرارًا وتكرارًا بحل دبلوماسي، ولكن الآن الحرب هي مواجهتنا كواقع. الافتقار إلى وحدة المجتمع الدولي في عدد من القضايا الإقليمية والعالمية كان مشكلة خطيرة كما كانت خلال الأزمة الروسية الأوكرانية.

وأشار المسؤول التركي إلى ما يواجهه العالم من مآسٍ، أشار منها الي اثنتين، الأولى تتعلق بالبعد الإنساني للصراع، الذى قال إن بلاده سوف تبذل كل ما هو ضروري من أجل معالجته مثلما كان الحال إبان سنوات النزاعات الإقليمية الأخرى. أما عن المأساة الثانية فقال إنها تتعلق بما يرتكب من تجاوزات إعلامية، وتزييف للحقائق وهو ما قال بشأنه: «هذه هجمات لا هوادة فيها على الحقيقة. نحن ندرك أيضا أننا نعمل على مواجهة حملات التضليل والمعلومات المضللة في هذه الحرب الإعلامية، وسندافع عن الحقيقة بغض النظر عن مصدرها». وأضاف فخر الدين التون: «هناك العديد من التكهنات والتعليقات حول سياسة تركيا، وتحركاتها الدبلوماسية»، قبل أن يخلص إلى القول: «إن تركيا تؤمن بالقوة البناءة والإبداعية للدبلوماسية وتحاول الاستفادة القصوى من جميع الفرص الدبلوماسية في كل أزمة». وفي ذلك تلخيص لأهداف ومضمون ما قامت وتقوم به أنقرة على مدى الأعوام الطويلة التي تبوأ خلالها رجب طيب إردوغان سدة الحكم في تركيا. وما دام الشيء بالشيء يُذكر، فإنه يمكن القول إن هناك من الأهداف التي يبتغيها إردوغان دون اعلان مباشر، ما يمكم إدراجه على قائمة المصالح الذاتية التي تعني ضمنا ترتيب أوضاع الداخل، من منظور تنامي شعبيته على وقع تصاعد الأعمال القتالية على مقربة من الحدود التركية، بما يزيد من أهمية تدخل إردوغان لتحقيق أقصى ما يمكن من المكاسب الذاتية على الصعيدين العام والخاص.

 

أوكرانيون يفرون من مدينة إربين شمال غربي كييف ويعبرون نهرًا قرب جسر مدمّر في 13 مارس 2022 (أ.ف.ب)

 

نتائج المباحثات تقترب من الإيجابية

 

وقد جاءت نتائج اليوم الأول من المباحثات الروسية الأوكرانية في إسطنبول لتخدم هذه المصالح على نحو غير مباشر بما حققته من نتائج تقترب من الإيجابية، وهو ما أعلنه فلاديمير ميدينسكي رئيس الوفد الروسي في هذه المباحثات. قال ميدينسكي: «إن موسكو خطت خطوتين باتجاه التقارب مع أوكرانيا»، مشيرا إلى أنهما تخصان الشقين السياسي والعسكري. أكد المسؤول الروسي في معرض استعراضه للشق السياسي إمكانية عقد لقاء بين الرئيس فلاديمير بوتين ونظيره الأوكراني فلاديمير زيلينسكي ليس بعد التوصل إلى اتفاق بين البلدين بكل تفاصيله، لكن بالتزامن مع توقيع وزيري خارجية البلدين عليه بالأحرف الأولى. أما في الشق العسكري فتحدث عنه العضو الآخر في الوفد الروسي، ألكسندر فومين نائب وزير الدفاع، الذي أعلن عن قرار خفض النشاط العسكري بشكل جذري على محوري كييف وتشيرنيغوف (شمال أوكرانيا) بهدف تعزيز الثقة المتبادلة وتهيئة الظروف المناسبة لمواصلة التفاوض والتوصل إلى الاتفاق المنشود كما كشف ميدينسكي عن أن الجانب الأوكراني قدم مقترحات خطية تؤكد سعي أوكرانيا لأن تكون دولة محايدة وخالية من الأسلحة النووية، مع التخلي عن إنتاج ونشر جميع الأنواع من أسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك الكيماوية والبكتريولوجية بالإضافة إلى حظر وجود القواعد العسكرية الأجنبية والقوات الأجنبية في أراضيها». ونشر الموقع الإلكتروني لقناة «روسيا اليوم» الناطقة بالعربية حزمة من المقترحات الخطية قال ميدينسكي إنه حصل عليها من الوفد الأوكراني خلال المفاوضات، تتضمن ما يلي:

1. إعلان أوكرانيا دولة حيادية وغير نووية وقائمة خارج أي تحالفات على أساس دائم بموجب الضمانات القانونية الدولية، وسيتم تقديم قائمة بالدول الضامنة.

2.  لا تنطبق الضمانات الأمنية على أراضي شبه جزيرة القرم ودونباس، أي إن أوكرانيا تتخلى عن محاولة استعادتها بالوسائل العسكرية. وهنا أشار ميدينسكي إلى أن هذا الطرح يعكس موقف كييف ولا يتوافق مع موقف موسكو، علما بأنها لا تعتبر القرم ودونباس جزءا من الأراضي الأوكرانية أصلا.

3. أوكرانيا ترفض الانضمام إلى التحالفات العسكرية، ونشر قواعد ووحدات عسكرية أجنبية واستضافة تدريبات عسكرية دون موافقة الدول الضامنة، بما في ذلك روسيا.  

4. روسيا لا تعارض انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي.

5. أوكرانيا تطلب صياغة القرار نهائيا في اجتماع بين رئيسي البلدين.

وعلى الرغم من مسحة الأمل والتفاؤل التي يمكن أن تبدو من وراء ما أعلنه ميدينسكي من تصريحات وإيضاحات، فإن هناك ما قد يبدو على النقيض من ذلك فيما صدر عن الجانب الأوكراني وتفسيرات. وذلك ما أعرب عنه سيرغي كيسليتسا المندوب الدائم لأوكرانيا في مجلس الأمن الدولي فيما قاله حول أنه لا يمكن توقيع اتفاقية بشأن الضمانات الأمنية لأوكرانيا إلا بعد عودة القوات الروسية إلى مواقعها السابقة بتاريخ 23 فبراير (شباط) 2022. وأكد كيسليتسا على أن طرفي المباحثات الروسية الأوكرانية سيواصلان المشاورات بشأن إعداد اتفاق بشأن توفير ضمانات أمنية لأوكرانيا، مشيرا إلى أن الأمر يتعلق بآلية تطبيق نظام وقف إطلاق النار، وانسحاب القوات والتشكيلات المسلحة الأخرى، والتشغيل الآمن للممرات الإنسانية بشكل مستمر، وكذلك تبادل القتلى، وإطلاق سراح أسرى الحرب، والمدنيين. وخلص المندوب الأوكراني الدائم إلى أن الطريق لا يزال طويلا لنقطعه نحو وقف إطلاق نار مستدام ووقف شامل للتصعيد. ورغما عن كل ذلك فإن ما توصل إليه الجانبان من نتائج يظل قابلا للبناء عليه بما قد يكون مقدمة لمرحلة من الوفاق والاتفاق، ثمة من يشير إلى أن الرئيسين بوتين وزيلينسكي مدعوان إلى تحديد ملامحها وتوقيتات تنفيذها.

font change

مقالات ذات صلة