لبنان ليس مفلساً... الدول لا تعلن إفلاسها

كلام نائب رئيس الحكومة اللبنانية «يكهرب» حكومة ميقاتي ومطالب باستقالته

قبل أيام أعلن نائب رئيس الحكومة اللبنانية سعادة الشامي، «إفلاس الدولة ومصرف لبنان المركزي»

لبنان ليس مفلساً... الدول لا تعلن إفلاسها

بيروت: وكأن لبنان لا يكفيه ما يعانيه من مشاكل اقتصادية واجتماعية وحياتية، وكأن القطاع المصرفي لا تكفيه مشاكل المودعين التي تفاقمت بعد أن طيرت الطبقة السياسية الحاكمة مشروع قانون الكابيتال كونترول ومشاكله مع القاضية غادة عون وقراراتها المسيسة وغير القانونية، وكأن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لا تكفيه مشاكله مع العهد الذي يريد إقالته أو دفعه للاستقالة لتعيين أحد أزلامه، حتى يخرج نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي بكلام من العيار الثقيل يبشرنا فيه بأن لبنان مفلس والمصرف المركزي أيضاً، ومع أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي سارع إلى تصويب كلام الشامي بقوله أن الكلام مجتزأ وهو قصد السيولة وليس الملاءة، وأيضاً استتبع بسلسلة توضيحات للشامي، الذي قال أن حديثه اجتزئ من سياقه حين كان يجيب عن سؤال حول مساهمة الدولة ومصرف لبنان في تحمل الخسائر، فاعتبر أن في إمكانهما تحمّل جزء لكن وضعهما الصعب لا يسمح بتحمل الكثير لردم الهوة.


وسأل الشامي: «من أنا لأعلن إفلاس الدولة؟ الحديث مجتزأ وأخشى أن تكون وراءه نية سيئة، ضميري مرتاح ونعمل بكل طاقاتنا لإنجاز خطة تعاف اقتصادية ولإبرام اتفاق مع صندوق النقد في أقرب وقت».


كما كان هناك كلام لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي استغرب الموضوع من ناحية قانونية وتقنية، فقال: «لستُ المرجع الصالح لإعلان أمر مماثل»، مضيفاً «نحن في وضع مالي صعب ولدينا تعثّر في سداد الديون ومشاكل أخرى نأمل معالجتها عبر خطط إصلاحية مناسبة، لكن الأمر لا يعني إعلان الإفلاس».


ومع ذلك شنت حملة قاسية على الشامي وطالبه البعض بالاستقالة لأن كلامه غير مسؤول ولأنه كاذب ودجال ومتآمر على الاقتصاد الوطني وعلى التعافي والنهوض من الانهيار.


وسأل قطب مصرفي: «إذا أفلَسَت الدولة ومصرف لبنان، هل تُحَصِّلون الأموال من الشعب الكادح؟! أفليس الأجدى البدء بالإصلاح ومعرفة مُختَلِسي المال العام والفساد، قبل أخذ جَنى عمر الناس؟!»، من دون أن يغفل الإشارة إلى أن «الوزير الشامي سبق أن عَمِل في صندوق النقد الدولي نحو 20 عاماً وهو يتبنى ذهنيّة الصندوق ومفاهيمه... ويُفاوِضه على أساس أن الدولة مُفلسة وكذلك البنك المركزي. إذا كان الاثنان مُفلسين فهل يجوز أن تُحصَّل الأموال من الشعب الكادح؟ أليس من المفترض المباشرة بالإصلاحات المطلوبة ومعرفة مَن سرق أموال الدولة وتسبَّب بالهدر والفساد... قبل أخذ أموال الناس ومعاقبة المصارف لأنها عملت طوال كل تلك السنوات ودعمت الاقتصاد وعزّزت النمو؟!


ويُضيف: «الدولة أفلست بسبب الهدر والفساد، فهل يقبَل صندوق النقد تعويض الهدر والفساد من أموال الناس الذين لا ناقة لهم ولا جَمَل، في كل ما وصلت إليه البلاد؟!  فهو جاء إلى لبنان لإنقاذه من هذه الأزمة، كما أن الخزينة الأميركية طلبت التحقيق في أموال الفاسِدين».

حاكم مصرف لبنان رياض سلامة (غيتي)

ما رأي الخبراء؟
كيف قرأت الأوساط المصرفية والاقتصادية كلام نائب رئيس الحكومة؟
«المجلة» استطلعت آراء الخبراء المصرفيين والاقتصاديين وأهل الاختصاص في القطاع الخاص وخرجت بهذه الانطباعات:

لبنان ليس مفلسا
النائب السابق لحاكم مصرف لبنان الدكتور محمد البعاصيري قال: «يبدو أن كلام الشامي فهم على غير قصد؛ لأن أية خسارة تصيب البنوك المركزية لا بد أن تطفأ عاجلا أم آجلا من قبل المساهمين، وفي حالة المصرف المركزي اللبناني فقانون النقد والتسليف يتكلم صراحة بقيام الدولة اللبنانية بإعادة تكوين الأموال الخاصة للمصرف المذكور.

الدكتور محمد بعاصيري


الدولة اللبنانية ليست مفلسة ولا يمكن أن تكون مفلسة تحت أي ظرف. المشكلة تكمن في إدارة غير جيدة وفي انعدام الحكم الرشيد وفي تجذر الفساد على مختلف المستويات.


الأزمة التي يمر بها لبنان تتمظهر في أزمة سيولة حادة وفي تفكك أسس الدولة وفي انعدام الوضوح لإرادة سياسية شاملة للنهوض بالاقتصاد والتي ترتبط بشكل أكيد بعودة لبنان إلى السيادة الوطنية والعودة به إلى الحضن العربي.


رب ضارة نافعة
بدوره النائب السابق لحاكم مصرف لبنان الدكتور مكرديش بولدقيان أشار إلى أن «كلام نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي الذي أعلن من خلاله عن إفلاس الدولة اللبنانية ومصرف لبنان أثار ردود فعل متبانية على الساحة المالية والنقدية، كما أن هذا الكلام أثار مخاوف حقيقية على وضع  الليرة وعلى قدرة الدولة على الإيفاء بالتزاماتها المالية لا سيًما إزاء موظفيها ومصاريفها الداخلية».   

الدكتور مكرديش بولدقيان

             
وكان من الطبيعي أن يقابل تصريح الشامي برد عاجل من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة المتضرر الأول من هذا الإعلان الذي يهدد ما تبقى من عناصر ثقة ولو محدودة بالليرة اللبنانية. وقد نفى الحاكم في رده «صفة الإفلاس عن المركزي مؤكدا على أن المصرف يعمل بشكل طبيعي».   

 
إن ما ورد من كلام على لسان نائب رئيس الحكومة هو كلام خطير وموضوعي في آن معاً، وخطير، كونه جاء على لسان سلطة عليا مسؤولة، ووجه رسائل سلبية مالية ونقدية إلى الخارج والى الداخل يمكن أن تزيد من أزمات لبنان المفتوحة لا سيًما على مستوى الوضع النقدي والمالي في البلاد. وموضوعية كون أن سياسة الإنكار التي امتهنتها السلطة لم تعد تجدي نفعاً إذ إن المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي بشكل خاص يدرك ويعرف تمام المعرفة حقيقة الوضع النقدي والمالي وحقيقة حجم الخسائر في مصرف لبنان وفي المالية العامة للدولة، لذلك فإن ما أدلى به الشامي ليس بالأمر الجديد أو بالأمر غير المعلوم.    

 عموماً كلام وصراحة نائب رئيس الحكومة يبقى في سياق مقاربة الواقع الصعب الذي يعيشه لبنان، وربما يوفر فرصة إيجابية للبنان من خلال دفع المجتمع الدولي إلى تسريع عمليات تقديم الدعم للدولة اللبنانية من خلال صندوق النقد الدولي أو من خلال الدول العربية الشقيقة والدول الصديقة؛ فـ«رب ضارة نافعة»، كما يقول المثل اللبناني فتترجم صراحة الشامي كعامل مساعد وإنقاذ للبنان.


على الدولة تسديد ديونها
من ناحيته، كشف كبير الاقتصاديين في بنك بيبلوس الدكتور نسيب غبريل في حديثه خطورة التصريح الذي أدلى به نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي وما تخطط الدولة لتحميل المودعين والقطاع الخاص للتهرب من دفع ديونها، فقال إن تداعيات التصريح كانت كبيرة لأنه جاء في مقابلة تلفزيونية مباشرة وجميع الناس سمعت كلام الشامي حين أعلن أن البلد مفلس والمصرف المركزي مفلس مما خلق بلبلة لم تنته ذيولها حتى الآن رغم محاولة رئيس الحكومة التخفيف بقوله إن نائبه كان يتحدث عن السيولة وليس عن الملاءة في حين أن كلام الوزير الشامي تم اجتزاؤه، بكل الأحوال صار هناك هلع عند الناس إذ اعتبروا بعد هذا الكلام أنه لم يعد هناك أي أمل باسترداد ودائعهم أو جزء من هذه الأموال وأنه لا أمل في المستقبل.

الدكتور نسيب غبريل


وأشار غبريل إلى أن المصارف تتحدث منذ فترة بأن هذه المقاربة التي أتت من مبدأ الخسائر والفجوة المالية في مصرف لبنان- وحسب الشامي هي 72 مليار دولار- هذه مقاربة خاطئة وهي مقاربة تصفية إذ عندما تقول إن الدولة مفلسة ومصرف لبنان مفلس فهذا يعني أن هناك خسائر ولا يمكن إطفاء هذه الخسائرولا يريدون سداد الدين والدولة لا تريد الالتزام بالمدفوعات المتوجبة عليها. وهي بدل أن تلتزم بتوقيعها الرسمي قامت بإطلاق النار على الذي يدينها، وعمليا مقاربة صندوق النقد يحب أن تكون هذه الديون خسائر لا يمكن دفعها وهذه مقاربة تصفية، مع أن الدولة هي استمرارية فنحن لا نقوم بتصفية شركة لإقفالها، لذا فهذه المقاربة غير صحية وهي تهرب من الدولة من مسؤوليتها فالحل الأمثل أن تتعهد الدولة رسمياً بسداد ديونها فالخسائر هي في ميزانية مصرف لبنان وهو مؤسسة عامة. وحسب قانون النقد والتسليف المسؤول عن إعادة رسملته وإعادة الملاءة للدولة اللبنانية، بينما مشروع صندوق النقد مع الحكومة اللبنانية هو تحميل الخسائر للمصارف والمودعين. من هنا تأتي مقاربة التصفية بدلاً من الاستمرارية.


وبرأي غبريل فإن الحل بسيط، وهو أن تتعهد الدولة بدفع ديونها وتسدد التزاماتها على فترات طويلة ومن دون فوائد وأن تتحمل مسؤوليتها وتتكفل بإعادة رسملة مصرف لبنان حسب القانون، هذا الحل يعيد الثقة، بينما فرض الخسائر على المودعين من خلال تحويل الودائع إلى أسهم في المصارف أو محو الرأسمال كلياً هذه إجراءات لا تعزز الثقة بل العكس ستؤدي إلى فقدانها لجيل كامل وهذا الحل غير مقبول من المصارف والهيئات الاقتصادية ومن المواطن اللبناني، هناك بعض المنظرين يقولون إن على الدولة أن تصارح الناس وتقول لهم إن الودائع طارت، هذا إذا كنا سنسلك طريق التصفية للهروب من المسؤولية مع أن الدولة هي التي تسببت بهذه الأزمة من خلال سوء استعمال السلطة وسوء إدارة القطاع العام وسوء إدارة الأزمة، فكيف يجوز أن يتحمل المودع والقطاع الخاص هذه الكلفة بدلاً من أن يتحمل المسؤولون المسؤولية. المودع لا يزال مصرأ على معرفة مصير وديعته وبأي طريقة سيستردها، وما هي المهلة الزمنية، وعندما يحصل على الأجوبة سيرتاح المودع والبلد، عندها تعود الثقة وليس أن تقول إن البلد مفلس والمصرف المركزي مفلس وهذا الكلام دفع المصرف المركزي ليقول إنه غير مفلس وهو مستمر في عمله حسب المادة 70 من قانون النقد والتسليف. لذلك هذه التداعيات لا تزال مستمرة من كلام نائب رئيس الحكومة نحن لا نتحدث عن أي شخص تحدث، إذ إن هناك فارقا بين المنظرين الساعين وراء الظهور الإعلامي وبين نائب رئيس الحكومة الذي عمل هذه البلبلة بحديثه وكان صدا مخيفا لكل الناس الذين لا يزالون ينتظرون الحلول التي تريحهم.


وقال غبريل نحن نعلم أن هناك مقاربة لصندوق النقد وهي أن لا يكون هناك ديون ترد على فترات طويلة. لسبب بسيط، الصندوق حين يقدم القروض للبلدان بالمليارات يهمه ضمن البرنامج الذي يتفق عليه بأن يكون هناك جدول زمني لسداد القروض، من أجل ذلك لا يريدون أن يكون على البلد أي ديون أخرى مستحقة. من أجل ذلك يطالب السلطة اللبنانية معرفة قيمة ديونها المستحقة للضمان الاجتماعي والمستشفيات والمقاولين صحيح أن هناك فجوة لكن مسؤولية وواجب الدولة اللبنانية أن تعيد أموال المودعين إلى مصرف لبنان حتى تتم إعادة هذه الودائع مع العلم أن هناك أموالا كثيرة تستحق بعد عشر سنوات أو أكثر وليس كل الأموال مستحقة الآن حتى تعتبر خسائر، نحن نفاوض حتى نحصل على قروض وننتظر أن نعرف هذه الشروط وعلى الوفد المفاوض أن يفسر للصندوق ما لا يمكن تطبيقه في لبنان، لأن المطلوب أن نستعيد الثقة وهذا الأمر يحصل من خلال التركيز على توسيع  حجم الاقتصاد ودعم النمو وتحسين مناخ الاستثمار وتطوير بيئة الأعمال وإصلاح القطاع العام وترشيده وتطبيق الحوكمة والإدارة الرشيدة ومكافحة الفساد والتهريب والتهرب الضريبي والضرائبي والجمركي حتى نستعيد الثقة وليس بعملية تصفية فقط حتى تتهرب السلطة من المسؤولية لتحيلها إلى المودعين والقطاع الخاص.

الدول لا تعلن إفلاسها
بدوره خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد الدكتور محمد فحيلي، علق على ما يتم تداوله على المواقع الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي عن إفلاس الدولة اللبنانية ومصرف لبنان المركزي قائلاً «إعلان دكتور سعادة الشامي، نائب رئيس الحكومة اللبنانية، عن إفلاس الدولة ومصرف لبنان المركزي، يفتقد إلى المنطق لأن الدول لا تعلن إفلاسها، لأن هناك دائما خيار تأميم الممتلكات الخاصة، وطباعة العملة لتمويل الإنفاق لتفادي الوقوع في الإفلاس. ويتعارض مع خطة السلطة الرامية إلى إنشاء صندوق سيادي للاستثمار الذي يعتمد في تكوينه على موجودات الدولة».

الدكتور محمد فحيلي


 وأضاف: «أما في قراءة النوايا، فقد جاء الجواب في تتمة التصريح والذي يؤكد أن الكلام عن إفلاس الدولة هو مقدمة ساقطة وفاسدة وفاشلة للحديث عن توزيع الخسائر بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف والمودعين. وهنا كان من الضروري على السلطة السياسية الفاسدة إعلان إفلاسها حتى تعطي ذاتها براءة من تَحَمُل أي جزء من الخسائر. وبما أن مسؤولية الدولة إعادة رسملة مصرف لبنان المركزي لتمكينه على إدارة القطاع المالي والمصرفي وإعادة الحياة والحركة الطبيعية له، فإعلان إفلاس الدولة ومصرفها المركزي يؤكد نوايا الطبقة السياسية إلى رمي مسؤولية الخسارة كلها على القطاع الخاص: مصارف ومودعين».


وأخيراً، الحديث عن أن الخسارة وقعت بسبب سياسات لعقود، هو رفض مبطن من قبل الحكومة بأن الحكم استمرارية ويفرضون إبراء ذمتهم من أخطاء من سبقهم في الحكم. ولا بد هنا من لفت النظر إلى أن من يحكم ويتحكم بالبلاد اليوم هي المكونات السياسية ذاتها التي حكمت لأكثر من خمسة عشر عاما متتالية.


إنه كلام من وحي الشيطان ويهدف إلى تسجيل ما تيسر من مكاسب سياسية عشية الانتخابات النيابية؛ هذا إذا حصلت!

ارتطام كبير
الخبير المالي والاقتصادي الدكتور بلال علامة اعتبر أن «كلام نائب رئيس الحكومة عن إفلاس لبنان يؤشر لما هو قادم اقتصاديا»، حيث سيبدأ الارتطام الكبير وستنعدم قدرة الدولة على تأمين المتطلبات الأساسية وسيبدأ مسلسل تحريك موضوع الذهب، تمهيدا لعرضه للبيع وبالتالي سيفقد لبنان ما تبقى لديه من موارد احتياطية وسيصبح لقمة سائغة أمام أي طروحات مستقبلية قد تكون تغييرا في الكيان والمعادلة الإقليمية وربما تغيير وجه لبنان.

الدكتور بلال علامة
font change