هجرة المشاهير من روسيا... بين الأمس واليوم!

«مدعو الوطنية» أثاروا الدهشة المفعمة بالكثير من السخط والأسى

آلاف الروس يتظاهرون ضدّ غزو أوكرانيا في موسكو وسان بطرسبرغ في 24 فبراير 2022 (أ.ف.ب)

هجرة المشاهير من روسيا... بين الأمس واليوم!

موسكو: ما يتابعه العالم اليوم من حالات الهجرة الفردية عن الساحات الروسية، ثقافية كانت أو سياسية أو رياضية، لا يمكن أن ينطبق عليها في غالبها الأعم، أي من المفاهيم العلمية أو الأكاديمية لمثل هذه الظاهرة العالمية. فما نشهده من حالات فردية لعدد من أبرز مشاهير الأوساط الفنية والثقافية، لا يمكن مقارنته بما سبق وشهدته الإمبراطورية الروسية وبعدها الاتحاد السوفياتي السابق من موجات هجرة صار من الممكن تأصيل تاريخها نظريا، وتقنين موجاتها التي ثمة من يقول إنها بلغت أربع موجات كانت آخرها تلك التي ارتبطت بالهجرة التي تلحفت بشعارات دينية هي أقرب إلى القومية، وهي الهجرة اليهودية التي سرعان ما اتخذت السياسة شعارا، وعرفها العالم المعاصر تحت اسم «هجرة اليهود السوفيات» اعتبارا من سبعينات القرن الماضي.

هجرة اليهود من الاتحاد السوفياتي بشكل جماعي في أواخر الثمانينات


وكانت أوساط الكرملين تناولت بالشرح والتعليق ما يتناثر من أحاديث وأخبار حول هروب، أو هجرة، أو سفر بعض المشاهير من ممثلي الأوساط الثقافية والفنية من روسيا، بتأكيد أن لا داعي للقلق من جراء مثل هذه الأخبار. ونقلت المصادر الرسمية عن ديمتري بيسكوف المتحدث الرسمي باسم الكرملين ما قاله حول أن «النجوم الذين غادروا روسيا بعد بدء العملية العسكرية الخاصة (الحرب) لا يؤثرون على المستوى العام للمرحلة الروسية». وأضاف بيسكوف أن «بعض الفنانين الذين رحلوا عن روسيا لا يستطيعون التكيًف مع الطقس، ولا ينبغي إضفاء طابع المأساة على مغادرتهم». ومضى الناطق باسم الكرملين ليقول إنه يعتقد في أن «المواهب لا تسيء إلى روسيا. ولا يمكن للنجم الراحل أن يصنع الطقس العام».


غير أن هناك من يعتبر الرحيل المتسرع، وما قد نسميه «الهروب الكبير» لبعض الفنانين والأدباء، ومن يسمونهم بتجار الثقافة والفنون، مع أفراد عائلاتهم، تجاوزا في حق الوطن وأبنائه ممن لم يبخلوا عليهم بكل ما هو غالٍ ونفيس. وكان هؤلاء وعلى مدى سنوات طوال «تمرغوا» في كنف ما أغدقت به الدولة عليهم من امتيازات وأوسمة وميداليات، تقديرا وفخرا واعتزازا، ليتحول البعض منهم إلى مباغتة عشاقه ومريديه بالتضحية بكل ذلك التاريخ، مع أول «انعطافة طريق».


وكانت الساحة الروسية توقفت بالمزيد من الدهشة المفعمة بالكثير من السخط والأسى، إزاء ما وصفه البعض بـ«النزوح الجماعي»، لبعض هؤلاء من «مدعي الوطنية» ممن لم يلتفتوا إلى شيء، وكانوا أعدوا العدة منذ سنوات طوال، للرحيل تحت شتى الذرائع. ولكم تابع بسطاء المواطنين في روسيا أخبار هؤلاء النجوم وتكالبهم على امتلاك القصور واليخوت واكتناز الثروات بين ربوع خصوم الوطن، وفي غالبية الأحيان تحت سمع وبصر السلطة والقائمين على توفير احتياجاتهم المادية والمعنوية، دون أن يعيروا اهتماما إلى ما صدر من تعليقات ونداءات لطالما أطلقها الرئيس فلاديمير بوتين تحذيرا وإنذارا لضرورة توخي الحذر وتوقع مختلف الكوارث. وها هي هذه الكوارث تداهمهم لتنتزع منهم أموالهم وودائعهم، وما يمتلكونه من عقارات وثروات كانوا قد قاموا بنقلها أو تهريبها إلى الخارج استعدادا ليوم «مشهود».


وبعيدا عن أسماء مشاهير الأوليغاركيا ومنهم رومان إبراموفيتش، وعلي شير عثمانوف وميخائيل فريدمان، تعلقت الأنظار بأسماء على غرار آللا بوجاتشوفا أشهر المطربات، التي سبق وأشرنا إليها في حديث سابق، ولا سيما ما كان يتعلق بما بذلته من جهود وما بحثت عنه من وساطات، لكي يوقع الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف مرسوم منحها لقب «فنانة الشعب للاتحاد السوفياتي» قبيل رحيله عن السلطة في أواخر عام 1991. السيدة بوغاتشوفا المعروفة بهواية الاقتران بمن يصغرونها بعشرات السنوات، سافرت مع زوجها ماكسيم جالكين الفنان الساخر الشاب إلى إسرائيل بحكم انتمائه القومي، وحيث يقيم الملايين من أبناء وطنها السوفياتي السابق. وتقول الأنباء الواردة من إسرائيل إنها في سبيلها إلى تقديم برنامج تلفزيوني تستعيد من خلاله أخبار الصبا والشباب.


وفي الوقت الذي رفض فيه المايسترو الروسي العالمي، الأوسيتي القومية فاليري جيرجييف الاستجابة إلى شروط الكثيرين من المسؤولين الأوروبيين عن نشاطه الفني وحفلاته في الخارج سواء في ألمانيا أو غيرها من كبريات البلدان والمدن الأجنبية، حول إدانة ما وصفوه بـ«حملة بوتين العسكرية ضد أوكرانيا»، مقابل السماح له بالاستمرار في عمله ونشاطه، أعلنت السوبرانو الروسية العالمية أنّا نيتريبكو عن «إدانتها» لهذه العملية العسكرية الروسية، وهو ما سارعت السلطات الروسية المسؤولة في عدد من مسارح روسيا إلى الرد عليه بإلغاء تعاقداتها السابقة.

العزو الروسي على أوكرانيا أعاد ملف الهجرة إلى الواجهة (غيتي)


وفي هذا الصدد ثمة من يقول اليوم «ما أشبه الليلة بالبارحة»، في إشارة إلى الكثير من أوجه الشبه بين ما جرى ويجري من حالات نزوح جماعية أو فردية من روسيا، ليس هربا من الحرب وويلاتها، بقدر ما هو محاولة للاحتفاظ برغد العيش، بعيدا عن احتمالات المضايقة أو المعاناة في الداخل الروسي، وبين ما سبق وشهدته روسيا من حالات مماثلة على مدى تاريخها الطويل، الإمبراطوري والقيصري والسوفياتي، وحتى تسعينات القرن الماضي. غير أن الواقع يقول إنه «شتان بين الأمس واليوم».

فماذا يقول التاريخ في هذا الشأن؟
يعرف التاريخ أسماء الكثيرين من مشاهير الثقافة والفنون ممن ارتبطت أسماؤهم وإبداعاتهم الفنية بكل من الداخل في روسيا القيصرية أو السوفياتية، أو في الخارج القريب منه في أرجاء القارة الأوروبية، أو البعيد فيما وراء المحيط سواء في الولايات المتحدة، أو مع القلة التي اختارت أميركا اللاتينية موطنا دائما لهم ولأحفادهم. ولم يكتف هؤلاء بما سجلوه من أعمال فنية مكتوبة ومسموعة عما نجم عن مأساة «الخروج الاضطراري» بعيدا عن حدود الوطن، بل ومضوا إلى ما هو أبعد من خلال ما جرى تصويره من أفلام سينمائية وشرائط تسجيلية يتناقلها الورثة وأبناء الوطن ومعهم كل عاشق للفن والأدب، أينما كانت انتماءاته الوطنية أو العرقية.


الواقع الراهن قد يعيد إلى الأذهان القول المأثور حول أن التاريخ يعيد نفسه، وإن كان هناك من يتذكر النصف الثاني من هذا القول التاريخي حول أنه «يعيد نفسه تارة على نحو المأساة، وأخرى على نحو الملهاة».


المؤشرات تقول إننا قد نكون أقرب إلى متابعة الملهاة المطرزة بدانتيلا الملهاة، فيما نشهده من خلال هجرة نتابع مجرياتها التي تتوالي على نحو يتسم بقدر كبير من الارتباك المعنوي والإعلامي. ولكم تبدو روسيا محظوظة بتطهرها ممن سارعوا إلى السفر استجابة لدعوة السفير الأميركي الأسبق في موسكو (2012-2014) ماكفول الذي راح يحذر من «احتمالات المأساة التي قد تلحق بالروس ممن صار مكتوبا عليهم العيش في عزلة تامة عن بقية العالم، دون أن يمتلك سيارة أو هاتفا محمولا أو أي من الأجهزة الإلكترونية الأجنبية المستوردة، ودون أن يستطيع أي منهم الحصول على دعوة إلى الخارج للمشاركة في أي من المؤتمرات الخارجية»، على حد تعبيره.


لكن هناك ما قد يخفف من وقع مثل تلك المأساة. وذلك ما يتمثل في خلو قائمة الهاربين أو الراحلين أو المسافرين، من أسماء يمكن أن يدنو تاريخها من تراث الأسلاف ممن يظل يذكرهم العالم بكل الاعتزاز والتقدير، فيما يواصل الوطن تخليد ذكراهم أينما كانت «عناوين مقابرهم»، داخل الوطن أو خارجه.

نجوم المهجر
ومن هؤلاء، يتوقف الكثيرون أمام أسماء على غرار فلاديمير لينين زعيم ثورة البلاشفة في روسيا عام 1917، وعدد من رفاقة من فلاسفة ورجال تلك الثورة ممن قضوا ردحا غير قصير في المهجر استعدادا للعودة إلى روسيا وإعلان قيام روسيا الاشتراكية التي سرعان ما التفت حولها جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. وبعيدا عن السياسة نتوقف عند الكثيرين من نجوم الفنون والثقافة االروسية العالمية. ومن هؤلاء نشير إلى فيدور شاليابين أحد أشهر فناني الأوبرا الروس والعالميين، ابن مدينة قازان التتارية الروسية، الذي لطالما عرفته مسارح روسيا وبرلين ولندن ونيويورك قبل أن توافيه المنية في باريس.


ومنهم أيضا سيرغي رخمانينوف الموسيقار الروسي، أحد أعظم عازفي البيانو في روسيا والعالم الذي بوغت بخبر اندلاع ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الاشتراكية في عام 1917، ليقرر البقاء في الولايات المتحدة حيث كان يقدم عروضه وحتى لحظة وفاته في عام 1943 في كاليفورنيا، وحيث يستقر رفاته في نيويورك.


ومن نجوم الأدب نتوقف عند إيفان بونين أول أديب سوفياتي يحصل على جائزة نوبل للأدب عام 1933. وكان ولد في فورونيج الروسية في 1870 وظل بين الحل والترحال في روسيا والعديد من البلدان الأوروبية حتى تاريخ وفاته عام 1953 في باريس.


وهناك أيضا أديب الثورة ومؤسس المدرسة الواقعية الاشتراكية في الأدب الروسي ألكسي بيشكوف الذي يعرفه العالم تحت كنيته الشهيرة ماكسيم غوركي (المُرْ) في إشارة إلى الطابع شديد المرارة للكثير من إنتاجه الأدبي، ومنها «الأم» تلك الرواية التي لطالما خلدت بطولات ثورة البلاشفة، وقيام النظام الاشتراكي ونضال الطبقة العاملة. ورغم ارتباطه بالوطن وطبقته العاملة، فقد كان ماكسيم غوركي كثير التردد على جزيرة كابري القريبة من نابولي الإيطالية لأسباب صحية، رغما عن أنه لم يعرف في حياته لغة أجنبية واحدة بما في ذلك الإيطالية. وبهذه المناسبة نشير إلى أن إقامة غوركي الإيطالية لم تقطع صلاته بالوطن، ولا بزعيمه فلاديمير لينين الذي طالما استجاب لكل مبادراته الأدبية ومنها تأسيس دار الأدب العالمي . وكان غوركي توفي ودفن في موسكو.


الأسماء كثيرة لا تعد ولا تحصي، وهي في غالبها الأعم ذات قيمة أدبية رفيعة المستوى، عظيمة التاريخ شكلا ومضمونا. لا وجه للمقارنة بين رموز الأمس، ومن تتردد اليوم أسماؤهم شديدة الهشاشة شكلا ومضمونا ممن اكتسبوا نجاحاتهم وشهرتهم من الارتباط برموز السلطة والتغني بأمجادها وإنجازاتها، الحقيقية منها وغير الحقيقية. أما عما اكتنزوه من أموال، فإن الكثيرين من بسطاء الشارع الروسي يعرفون أن الجزء الأعظم منها أقرب إلى أن يكون بقايا «رذاذ غسيل الأموال» التي حاول ممثلو الأوليغاركيا ومن يدور في أفلاكهم من «صبية وفتيات الحانات»، توزيعها خلال الحفلات الخاصة التي كانت حديث العامة والخاصة في موسكو إبان تسعينات القرن الماضي وما بعدها. فضلا عن تلك الحفلات التي كانوا يقيمونها في الخارج من خلال ممثليهم ووكلائهم في العواصم الأوروبية حسب الإعلانات التي كانت تنشرها الصحف والمجلات الناطقة بالروسية في الداخل والخارج.
العودة إلى تاريخ الأمس قريبة وبعيدة، تقول إن حرية انتقال وإقامة المرء حيثما يشاء، حق تكفله له كل المواثيق والدساتير، لكن ما لا يكفله ميثاق أو دستور، أو عقل أو ضمير، هو ما يتابعه اليوم الكثيرون من استفزاز للبسطاء من أبناء الوطن، ممن يتأوهون تحت وطأة انتقاد «الهاربين» لأوضاع وسياسات الوطن جلوسا في الخارج بين أحضان من يشاطرونهم الرأي والموقف. لكن المهم ليس في ذلك، بقدر ما سوف يكون.
أما عما يمكن أن يكون، فثمة ما يشير إلى احتمالات عودة هؤلاء إلى سابق مواقعهم دون خجل أو حياء، مجللين بمباركة البعض في أروقة السلطة والنظام، لاستئناف ما سبق من مسيرة لم تكن تخلو من سلبيات. وفي هذا الشأن هناك من يقول إن ذلك يمكن أن يكون أيضا حقا لا أحد يستطيع انتزاعه، ما دام صاحبه لم يرتكب ما يخالف القانون. ويا أيها القانون.. كم من الجرائم تُرْتَكب باسمك!

متظاهرون في المدن الروسية يحملون لافتات «لا للحرب» (غيتي)


قد يكون ذلك صحيحا. لكن الأكثر منطقية وعقلانية، قد يتمثل في أوزان وثقل ومكانة أولئك الراحلين ومدى قدراتهم وقيمة ما يملكون من مواهب وقدرات، يمكن أن تكون تكئة مناسبة للعودة إلى أرض الوطن واستئناف سابق نشاطهم واتصالاتهم. على أن هناك من يقول وانطلاقا من أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، إنه من الممكن توقع أن تشهد الفترة القادمة ظهور من يمكن تسميتهم بأبناء المرحلة ممن يمكن أن يفرضوا وجودهم بما يستطيعون معه مواجهة العائدين بقولهم: «إنك لم تكن هنا. أين كنت؟». وعلى العائدين أن يقبلوا بالأمر الواقع.

لكن.. ماذا يقول التاريخ عن هجرات الأمس
يقول التاريخ بضرورة البحث بين أضابير الماضي، وبين سجلات الراحلين من مشاهير الوطن والعالم، عما قد يكون مجديا في الحاضر من تجارب ودروس. وذلك ما قد يبدو في السير الذاتية للكثيرين من أعلام الماضي ومشاهيره، وما يستوجب ضرورة تتبع بدايات تاريخ الهجرة الروسية منذ سنوات القرن السادس عشر، أي منذ سنوات حكم إيفان الرهيب، وما بعدها حتى القرن السابع عشر بما شهده من حركات انشقاق ساهمت في ظهور أولى تجمعات المهجر من النبلاء الشباب الذين أرسلهم القيصر بوريس غودونوف إلى أوروبا للدراسة ، لكنهم لم يعودوا إلى روسيا.
وقفزا فوق تاريخ هذه الحقبة، صوب عودة سريعة إلى الماضي القريب تحملنا إلى أشهر رموز ذلك الزمان من المهاجرين الروس في فترة ما قبل ثورة أكتوبر ومنهم جيرتسين، وتورجينيف (فرنسا وألمانيا- 1847- 1883)، ومينشنيكوف (باريس- 1888- 1916)، وبيروجوف، ولينين، وغوركي، وآخرون، اعتبارا من مطلع القرن العشرين. ومع هؤلاء نتذكر ما تقوله الأدبيات الروسية حول أن «الهجرة كمفهوم قانوني، كانت غائبة عن التشريعات الروسية قبل الثورة، التي كانت تنص على حظر نقل الروس إلى جنسية أخرى  وحددت فترة الإقامة بالخارج بخمس سنوات، وبعد ذلك كان من الضروري التقدم بطلب لتمديد هذه الفترة. وإلا فقد الشخص جنسيته وتعرض في حالة عودته للاعتقال والنفي الأبدي؛ ويتم نقل ممتلكاته تلقائيًا إلى مجلس الأمناء. ابتداءً من عام 1892، تم السماح للهجرة فقط فيما يتعلق باليهود. ولكن في هذه الحالة، تم منعهم بشكل قاطع من أي شكل من أشكال العودة إلى الوطن».


ونشير أيضا في هذا الصدد إلى أن عمليات التسجيل والإحصاء اقتصرت على حاملي جوازات السفر الشرعية ممن كانوا يعبرون حدود الإمبراطورية بشكل قانوني. وكانت حالات الهجرة حتى منتصف القرن التاسع عشر، شبه معزولة. ولم تتغير الأوضاع على النحو الملموس إلا بعد إلغاء نظام العبودية في عام 1861، وما شهدته الأعوام التالية من ظواهر الهجرة الجماعية من منطقة القوقاز ولا سيما من ممثلي القوميات القوقازية ومنها الشركسية والأبخازية (الإباظية) والداغستانية والشيشانية إلى أراضي الإمبراطورية العثمانية، ومنها إلى الكثير من البلدان العربية ودول أخرى في الشرق الأوسط وأوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية.


وتراوحت موجات الهجرة، من السياسية التي ارتبطت في معظمها بالقارة الأوروبية، إلى الهجرة الاقتصادية التي ارتبطت في الأساس بالإمبراطورية العثمانية، فضلا عن الهجرة الدينية التي كانت شعارا تدفقت تحت راياته ما يسمي الهجرة اليهودية إلى إسرائيل.

البريسترويكا وهجراتها المختلطة
شأن الكثير من ملامح فترة البريسترويكا التي كان الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف شعارها، اتسمت حركات التنقل والهجرة بالكثير من عدم الانضباط، وشابها العديد مما قد يندرج في خانة الفساد وبيع الذمم والضمائر وخيانة الأوطان. فبداية من الهجرة اليهودية التي تدفقت على إسرائيل مع أواخر ثمانينات ومطلع تسعينات القرن الماضي، التي ضمت بين صفوف المهاجرين اليهود، من هم من العلماء والصفوة من غير اليهود من مواطني الاتحاد السوفياتي السابق، وحتى الهاربين بعد استنزاف كل موارد الدولة وسرقة ثرواتها تحت ستار «الخصخصة سيئة السمعة»، خرج الملايين من أبناء الوطن غير آسفين على تاريخ أو مقدرات مادية أو روحية، لتترك الوطن فريسة للطامعين والمحتالين ممن استنزفوا موارده تحت ستار قرارات «الخصخصة»، قبل أن يقرروا الرحيل حاملين معهم كل ما اكتنزوه عن غير حق من أموال وثروات.    


ولكم من الممكن أن تثير أسماء المشاهير الذين لاذوا بالفرار، الكثير من مشاعر الدهشة المفعمة بالكثير من السخط والغضب.. ولا سيما من كان منهم وراء إصدار قرارات الخصخصة التي اعترف لاحقا بأنها «كانت أُقِرّت خصيصا من أجل أن تكون آخر مسمار في نعش الشيوعية». وكان الرئيس بوتين كشف صراحة في أحد مؤتمراته الصحافية السنوية الأخيرة أن هؤلاء كانوا يعملون على مقربة من ضباط المخابرات المركزية الأميركية ممن كانوا «موظفين رسميين في الحكومة الروسية» حتى مطلع القرن الجاري. أما عن الهاربين أو النازحين، أو من غادروا روسيا خلال الأسابيع القليلة الماضية، فتطول قوائم أسمائهم ومنهم أناتولي تشوبايس المسؤول المباشر عن سياسات الخصخصة الذي تنقل بين مختلف أسمى المناصب ومنها نائب رئيس الحكومة ورئيس ديوان الكرملين ورئيس مؤسسة الطاقة الكهربائية (راو إي إس) وغيرها من كبريات المؤسسات الحكومية. وسبقه إلى ذات الطريق منذ سنوات طوال أندريه كوزيريف أول وزير خارجية لروسيا الاتحادية الذي كان إلى جانب يلتسين ناصحا ومستشارا له لدى توقيع معاهدة إنهاء وجود الاتحاد السوفياتي السابق مع رئيسي أوكرانيا وبيلاروسيا، وانتهى به الحال وكيلا لإحدى شركات الأدوية الأميركية قبل هجرته عن روسيا إلى الولايات المتحدة التي يقيم بها منذ منتصف تسعينات القرن الماضي. ومعهما ألفريد كوخ الوزير الأسبق في أول حكومة روسية الذي استقر منذ سنوات في ألمانيا. وتضم القائمة أيضا سيرغي ابن الزعيم السوفياتي الأسبق نيكيتا خروشوف وكان من كبار علماء الصواريخ هاجر إلى الولايات المتحدة مع أواخر سنوات البريسترويكا حيث وافته المنية هناك منذ سنوات قلائل، في وقت مواكب تقريبا لهجرة الشاعر السوفياتي ذائع الصيت يفجيني يفتوشينكو الذي انضم بدوره إلى قافلة «الغاضبين» للعمل بين أحضان خصوم الأمس، تحت ستار تدريس الشعر والأدب في إحدى الجامعات الأميركية. وتشاء الأقدار أن يقضي هناك نحبه، ليجري نقل جثمانه في وقت لاحق لدفنه بين «ربوع الوطن».

 

font change