ذكرى «13 نيسان»... 47 عاماً من المآسي بين ميليشيات «البندقية والجوع»

«ندوب» أهالي المخطوفين والمفقودين لم تتبلسم

«جدارية» أسماء المفقودين من صنع الأهالي في «بيت بيروت»

ذكرى «13 نيسان»... 47 عاماً من المآسي بين ميليشيات «البندقية والجوع»

بيروت: دمغت «بوسطة عين الرمانة» طريق لبنان بالدم، منذ أن انفجرت، لتطال بشظايا «الخراب» البشر كما الحجر، فبوصلة الحرب الأهلية بدّلت وجهة بلد السلام، ليتحوّل منذ 13 أبريل (نيسان) 1975 إلى مسرح لجولات اقتتال ودمار، كما «تدمير» ممنهج، بإشراف قادة نجحوا، منذ تلك الحقبة السوداء وحتى اليوم، من مضاعفة حجم معاناة اللبنانيين المستمرة من 47 عاماً على انطلاق شرارة الاقتتال.

سَكَت صوت الرصاص والقذائف منذ انتهاء الحرب عام 1990، من دون إغفال أنها تصدح بين الحين والآخر بحكم السلاح غير الشرعي، إلا أن الحرب التي لا تزال حيّة بقسوتها وفظاعتها في ذاكرة اللبنانيين، كما بنتائجها السلبية الملموسة التي أسفرت عن مقتل أكثر من 120 ألف شخص وفقدان عشرات الآلاف، بالإضافة إلى عدد كبير من الجرحى والمعوقين والمشردين والنازحين.

وبين العبرة من الماضي والعبور من الحاضر المأزوم نحو المستقبل المجهول، يحيي لبنان الذكرى في ظل أزمات غير مسبوقة تجعلهم يعيشون فصولاً أشد قسوة من تلك التي خبروها في تلك المرحلة، حيث كانت جميع احتياجاتهم متوافرة.

«بأيام الحرب ما عشنا هالشي وما جعنا وكان فيه مصاري»، هي جملة يُردّدها كل من عايشوا تلك الحقبة ببندقيتها ومآسيها، ويختبرون اليوم جهنّم الحالية التي يعيش فيها كل اللبنانيين الذين طرق الجوع أبوابهم جميعاً من دون تمييز، إذ إنه مع انهيار الأوضاع المعيشية، باتوا يعانون من خطر أكبر بكثير مما كانوا عليه على جبهات الاقتتال بين الأحزاب والفصائل المسلحة إبان الحرب، حيث كان الغذاء والدواء وحتى الدولار متوفرين أكثر من اليوم.

وبين نعيم الحرب وجحيم تاريخ الذكرى مع صعوبة العيش، يترحّم اللاهثون وراء لقمة عيشهم على زمن الميليشيات والمشاركين في الحرب، حيث كان الجميع يستطيعون تأمين كل احتياجاته من طعام وشراب، في واقع مرير لكارثة تكشف عورة دولة تتصرف كميليشيا بحق أبنائها العاجزين عن الحصول على أبسط مقومات العيش الكريم.

 

من أرشيف الحرب، صرخة الأمهات رفضاً للاقتتال

 

لأخذ العبرة من «يوم النكبة»

رموا بندقياتهم عن أكتافهم، بعد ندم على ما اقترفته أيديهم، وقرروا خوض حرب من نوع آخر، بالكلمة لا بالدم، مع تأكيد على أهمية أن يبقى تاريخ 13 أبريل عالقاً في الذاكرة «كي لا ننسى».

تخاصموا وتقاتلوا على المحاور ومتاريس الحرب، وتلاقوا بـ«صحوة ضمير» من أجل أن يبقى لبنان، فانتقلوا من ضفة القتال إلى ضفة المحاربة لترسيخ السلام، انطلاقاً من مبدأ يرفعه المنضوون ضمن جمعية «محاربون من أجل السلام» وهو: «نحن نتاج ماضينا.. لكن ليس علينا أن نكون أسرى له».

خلص «المحاربون الجدد»، بعد قراءة تجربة الاقتتال نقدياً، إلى دعوة المقاتلين الجدد أن يدركوا، كما فعلوا متأخرين، أن هناك أيادي عدة تستفيد من الشحن السياسي والمذهبي وتعمل على التفرقة والاقتتال، لذلك يجب على الجميع تغليب لغة السلم والحوار والمحبة على القتل والحقد.

تُعنى الجمعية بتفكيك ما أنتجه زمن الحرب، انطلاقاً من أن نهايته لا تكون مع توقف إطلاق النار، ولكن حين تحل ثقافة السلام بما تعنيه من نبذٍ للعنف بوصفه وسيلة لتغيير الواقع أو لرد الظلم والتعبير عن الاحتجاج، ووفق ما أكده عضو في الجمعية أحمد مطر لـ«المجلة»، فإن المسيرة مستمرة لنحقيق الهدف ونشر الوعي بين كل الفئات، لافتاً إلى أن «الذكرى هي الشرارة التى ولّدت الحرب التي خلّفت الكثير من الدمار على مستوى الحجر والكثير من المآسي على مستوى البشر حيث العديد من اللبنانيين يعانون، خصوصاً لجهة أهالي المفقودين الذين لا يزال حتى الآن مصيرهم مجهولاً».

وقال: «بالنسبة لنا نحييه ليس من باب الاحتفال، بل نتعاطى معه بمثابة يوم نكبة نسعى للاستفادة من العبر والأخطاء التي مرت وللتذكير بويلات الحرب ومآسيها».

تختلف الذكرى هذا العام عن السابق بحسب مطر الذي أكد أنه «على الرغم من مرور 47 عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية، توقّف فيها إطلاق النار وسكتت المدافع، لكنها مستمرة وإن كان بأشكال أخرى، خصوصاً لجهة الأزمات المتناسلة التي تعصف بالبلد على مختلف المستويات المالية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي باتت تُكلّف المواطن اللبناني الكثير من صحته وماله من جهة، ومن جهة ثانية فإن اتفاق الطائف الذي فتح الكثير من الآفاق، إلا أنه لم يُطبّق كما يجب، والتطبيق الاستنسابي له فاقم الأمور».

واعتبر أنه «في هذه المرحلة المصيرية التي تمر بها البلاد، نحن اليوم على مشارف استحقاق أساسي، ألا وهو الانتخابات النيابية، التي إن حصلت، فهي تشكل من حيث المبدأ المدخل من أجل تجديد السلطة والحياة السياسية في البلاد».

وتوجه مطر برسالة إلى اللبنانيين دعاهم فيها إلى «عدم الانجرار والوقوع في أفخاخ الشحن المذهبي والطائفي كي لا تتجدد الحرب الأهلية من جديد، والعمل جدياً على تكريس السلم الأهلي لأنه يُشكّل الضمانة لعدم تكرار ما حصل».

وجزم بأن «الطبقة السياسية هي المسؤولة أولاً وأخيراً عما وصلت إليه البلاد في هذه المرحلة»، متوجهاً إلى كل المسؤولين عشية الذكرى، على الرغم من أنه لا يُعوّل كثيراً على تلك الطبقة التي لا تهتم سوى بمصالحها، بالقول: «البلاد على مفترق طرق عودوا إلى ضمائركم، فماذا يفيدكم إن ربحتم الخارج وخسرتم لبنان، عودوا إلى محيطكم واهتموا بمصلحة اللبنانيين».

 

اللبنانيون «أسرى» الأزمات

لم تقتصر خسائر الحرب الأهلية على الحجر، فنيرانها فتكت بالبشر فقضت على أرواح نحو 150 ألف شخص، و300 ألف جريح ومعوق، و17 ألف مفقود.

47 عاماً مضت على «ندوب» لم تستطع السنوات بلسمتها في قلوب أهالي المخطوفين والمفقودين الذين ينتظرون عودة أحبائهم من المعتقلات أو معرفة مصيرهم المجهول، وشعارهم «حقنا نعرف»، في ظل استمرار معاناة بـ«نكهة تعذيب» لا مبالاة من السياسيين.

حملت وداد حلواني قضية لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان التي شكّلتها بعد اختطاف زوجها، وتمكنت اللجنة من انتزاع القانون 105/2018 بعد عقود من النضال، ليكون خطوة  مفصلية وضعت القضية على سكّة العدالة.

نجحت اللجنة، التي تحيي ذكرى الحرب بـغصّة مزدوجة كل عام، في تأسيس الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً في 18 يونيو (حزيران) 2020، لتصبح رسمياً مكلّفة بالتحقيق في مصير المفقودين والمخفيين قسراً وجمع المعلومات عنهم، واستطاعت مواجهة تحديات عدّة بالتحالف مع منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، في مجابهة السياسيين الذين لم يُحرّكوا ساكناً لدعم قضية تلك الشريحة.

أكدت رئيسة «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان» وداد حلواني لـ«المجلة» أن «الهدف من إحياء الذكرى هو للقول (تنذكر وما تنعاد)، وليس كما الوضع الراهن الذي يريده المسؤولون عن البلد أي لا يريدون أن نذكرها ولكن من الممكن أن تعاد»، مشددة على أن «الوقفة السنوية للأهالي هي لتأكيد أن الحرب لم تنته بعد وإن توقفت القذائف وأصوات الرصاص، والدليل على ذلك أن مفقودينا لم يعودوا ولم نعرف عنهم أي خبر أو معلومة».

ولفتت إلى أن «17 ألف مفقود في لبنان نتيجة الحرب يشكلون نسبة كببرة من عدد سكان لبنان، كما أن هناك جزءاً منهم من المقيمين غير اللبنانيين فُقدوا أيضاً في تلك المرحلة، ونحن نعتبر أنه لا يمكن أن نعبر إلى سلام حقيقي من دون إيجاد حلّ لما نتج عن تلك الحرب، ولا يمكن أن نقبل بغير ذلك، بدليل ما حصل من تفجيرات والضحايا الذين سقطوا، وآخرهم في انفجار 4 أغسطس (آب)، وهذا يؤشر إلى أن الحرب لم تنته»، مشيرة إلى أن «ما يعاني منه الشعب اللبناني من جوع وأزمات معيشية واجتماعية يُظهر أن الحرب لا تزال على كل المستويات، وهذا نتيجة عدم معالجة نتائج الحرب ومن أشدها قساوة قضية المفقودين».

ولقتت حلواني إلى أنهم «حققوا إنجازاً كبيراً من خلال انتزاع القانون الذي كرّس حق كل عائلة في معرفة مصير مفقودها، وفرض تطبيقه لا يُخفّف فقط معاناة أهالي المفقودين، بل يُشكّل الممر الإلزامي للولوج إلى بناء السلام الحقيقي وليس السلام الهشّ منذ  التسعينات وحتى اليوم».

وأكدت أن «مصلحة ومسؤولية كل اللبنانيين، وليس فقط أهالي المفقودين، والوقوف في هذا اليوم أي ذكرى الحرب الأهلية هو من أجل الضغط  لتطبيق هذا القانون».

 

«جدارية» مصنوعة بخيوط من ذهب.. و«ألم»!

كما كل عام، أحيت اللجنة الذكرى الـ47 للحرب في لبنان تحت عنوان «تنذكر تما تنعاد»، في بيت بيروت، في بادرة تأكيد على أنه «حتى الماضي ما يتكرر لازم ما ننسى نتذكر».

عبر أسماء محفورة في القلوب ووجوه راسخة في القلوب، جسّد الأهالي صمودهم بـ«جدارية» مصنوعة بدموع وحرقة، ومطرّزة بأياديهم بخيوط ذهبية «شبكت» حروف أسماء «الأعزّاء»، في لوحة ملوّنة بالصبر حتى تحقيق العدالة، مشددين على أن رحلة النضال لمعرفة مصير أحبائهم لن تتوقف.

يُدرك الأهالي أن المشوار طويل، لكنهم «مكمّلين» لتطبيق القانون 105/2018، ولتفعيل مهام الهيئة الوطنية للكشف عن مصيرهم «كلّن يعني كلّن»، لأنه وبحسب ما يرددون «حقنا نعرف مصير أولادنا لتبرد نار قلوبنا بعد سنوات من العذاب».

 

 

font change

مقالات ذات صلة