ولع فرنسي بمصر وروابط وثيقة عبر المتوسط

المئوية الثانية لفك رموز حجر رشيد

فرنسا تحتفل بـ«شامبليون» في ذكرى فك رموز حجر رشيد

ولع فرنسي بمصر وروابط وثيقة عبر المتوسط

باريس: في قلب الانشغال الفرنسي المبرمج سلفًا بالانتخابات الرئاسية، وفي ظل إلحاح شديد لتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، لم تنس فرنسا معلمًا من المعالم التاريخية المهمة في علاقتها بجنوب المتوسط، فأحيت ذكرى المئوية الثانية لفك رموز حجر رشيد تحت شعار: «عام شامبليون». وقد انطلقت الاحتفالية من المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس (بدءًا من 12 أبريل/نيسان 2022 حتى 24 يوليو/تموز المقبل) مع معرض يسلط الضوء على النبوغ الفكري للعالم الشغوف باللغات جان فرنسوا شامبليون المولع بمصر القديمة. وقد نجح شامبليون في 1822، في فك ألغاز الهيروغليفية، وألف قاموسًا ووضع قواعد لغوية للكتابة الفرعونية. وبعد العودة من مصر قام شامبليون بالتدريس وتولى مسؤولية الآثار المصرية في اللوفر.

 

انطلقت الاحتفالية من المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس

 

بدأ فرنسيًا وأصبح متبادلًا!

يحمل الاحتفال دلالات سياسية وثقافية كبيرة بالنسبة لعلاقات وثيقة لم تضعف تأثيراتها الكبيرة فترة جفاء أعقبت العدوان الثلاثي على مصر (1956)، ولم تدفعها إلى زوايا النسيان. روبير سوليه مؤلف الكتاب الشهير «مصر ولع فرنسي»، يصف تأثيرات العلماء الفرنسيين الذي رافقوا جيش نابليون بونابرت (الحملة الفرنسية على مصر- 1798) بالقول: «إنها مساهمة هائلة لا تقدر بثمن بلا شك»، فهؤلاء العلماء أنجزوا عملًا كبيرًا بتشجيع من نابليون نفسه، ونشرت نتائجه في كتاب ضخم طبع تلك الحقبة التاريخية، وهو موسوعة «وصف مصر» الذي يوثق اكتشافات لا حصر لها بين عامي 1798 و1801. وهذا العمل غير المسبوق «أرسى أسس علم المصريات وترك بصمة في تاريخ العلم»، بل إن سوليه يعتبر أن علماء بونابرت كشفوا عن مصر للعالم ولنفسها، «لأن المصريين في ذلك الوقت لم يكونوا مهتمين بماضيهم الفرعوني، بل ورفضوا ذلك الماضي باعتباره حضارة وثنية». وهذا أطلق الهوس بمصر، وهو جزء من روح عصر التنوير كما يوضح مؤلف كتاب «المغامرة الكبرى في علم المصريات» (2019).

وفي الحقيقة فإن الولع بدأ من طرف واحد: ولع فرنسي بمصر، وانتهى ولعًا مُتبادلًا بين بلدين كبيرين يتشاركان الإطلال على بحر كان ذات يوم «قلب العالم» القديم والناقل الأكبر لمكتشفات الحضارة ومنتجاتها بين القارات الثلاث المحيطة بسواحله. وخلال الفترة التي تلت الانسحاب العسكري الفرنسي من مصر في 1801 عادت فرنسا مرة أخرى بقوة طوال عهد محمد علي باشا (مؤسس الدولة الوطنية الحديثة)، وكان النموذج الفرنسي يداعب خياله بقوة، وظلت باريس طوال عهده قبلة البعثات العلمية التي أرسلها إلى الغرب ليؤسس نخبة «مدينية» لإدارة دولته. وفي الاتجاه المقابل عبر فرنسيون كثيرون البحر جنوبًا إلى مصر، لعل أشهرهم سليمان باشا الفرنساوي، وإليه ينسب الفضل في تأسيس جيش مصري حديث.

ويأتي الاحتفال الفرنسي الكبير في ظل مرحلة من التحول الثقافي والمجتمعي الفرنسي الكبير تجاه وجود العرب والمسلمين الكبير في فرنسا، فالبلد الذي كان طوال العصر الحديث كله تقريبًا يسعى لمد الجسور جنوبًا تجاه شعوب جنوب المتوسط يواجه توترات كبيرة نجمت عن انتقال «الشرق» فعليًا إلى «الغرب». وفي مشهد من مشاهد دهاء التاريخ تحتفي فرنسا بالدور الثقافي الذي لعبته في التاريخ العربي الحديث، والتراث الثقافي الكبير الذي يبدأ بشامبليون، شهدت الأشهر التي سبقت الاحتفالية مباشرة مزايدات سياسية كبيرة خلال الانتخابات الرئاسية كان القسم الأكبر منها يدور حول بناء الأسوار بينها وبين مواطنيها ذوي الأصول العربية، بدلًا من الجسور. 

 

قرنان من التفاعل

خلال القرن التاسع عشر كله تقريبًا كانت الفرنسية- لغة وثقافة- سائدة بقوة في الشرائح المتعلمة من النخبة المصرية، وبعض أشهر مثقفي القرن التاسع عشر ومبدعيه شكلت الفرنسية رافدًا رئيسيا في تكوينهم الثقافي من رفاعة رافع الطهطاوي إلى رائد المسرح المصري الحديث توفيق الحكيم. ولم يكن مفاجئًا أن يكتشف المصريون أن نوبار باشا الأرمني الذي لعب دورًا كبيرًا في تأسيس دولة محمد علي كتب مذكراته بالفرنسية، وكذلك فعل الخديوي عباس حلمي الثاني (1892- 1914) عندما دون مذكراته تحت عنوان «عهدي».

ومن الناحية الثقافية/ السياسية كانت فرنسا- على قاعدة عدو عدوي صديقي- وجهة عدد كبير من المثقفين والسياسيين الذين اعتبروها الحليف الطبيعي لبلد تحتله بريطانيا العظمى، وفي عاصمتها تبلورت الملامح الأولى للحركة القومية العربية المعاصرة، وبقي العام 1913 علامة تاريخية على ارتباط وثيق بين فرنسا والحركات القومية الحديثة في العالم العربي، ففي العام المشار إليه انعقد «المؤتمر العربي الأول» في باريس. وفي قسم كبير من الأدبيات المؤسسة للثقافة العربية الحديثة (ثقافة المطربشين) أصبحت الثورة الفرنسية، وكذلك الحملة الفرنسية على مصر، نقطة تأسيس للعصر الحديث، ولحظة التحاق مصر به. وفي إطار هذا الولع بالتأثير الفرنسي في الثقافة المصرية المعاصرة هذه نشب خلاف ثقافي قبل ما يقرب من عقدين في مصر حول الاحتفال بذكرى الحملة الفرنسية على مصر، وقد تكرر الجدل نفسه في العام 2008!

 

 

الجدل حول الاكتشاف

إحدى المفاجآت التي سبقت الاحتفالية الكبيرة لم تكن في النزاع حول الدلالات الثقافية أو التاريخية لما قام به شامبليون، بل حول مدى دقة نسبة الاكتشاف إليه (!!)

فقبل أشهر قليلة من الاحتفال صدر في العاصمة الفرنسية باريس عن دار نشر «لارماتان» وبالتحديد في سبتمبر (أيلول) 2021، كتاب عنوانه «الكابتن بوشار: المجهول الذي اكتشف حجر رشيد» (194 صفحة)، ويقول مؤلفه واصفًا دور بوشار: «لم يكن لعلم المصريات أن يكون له تاريخ لولا الحدس الإلهي للملازم بيير فرانسوا كزافييه بوشار». مؤلف الكتاب أحمد يوسف، عضو المجمع العلمي المصري والمدير التنفيذي لمركز دراسات الشرق الأوسط في باريس، وكتابه أول دراسة تاريخية فرنسية حول المكتشف المجهول. وقد ألقى المؤلف محاضرة عن الكتاب في قاعة جيزو التاريخية بجامعة السوربون، في فبراير (شباط) 2022، فضلًا عن احتفاء المركز الثقافي الفرنسي في القاهرة بصدور الكتاب.

وبحسب كتاب الأستاذ الدكتور أحمد يوسف، فقد لعب حدس الضابط الفرنسي دورًا بارزًا في قصة الاكتشاف الشهير، ففي أعمال تحصينات عسكرية لقلعة قايتباي، تسمى في الدراسات الفرنسية (حصن جوليان)، بقيادة بوشار اكتشف حجر رشيد، وأغفل التاريخ ذكره طوال ما يزيد على 200 عام.

ولد بيير فرانسوا بوشار في قرية في جنوب شرقي فرنسا، عام 1771 وتزامن تقديم بوشار للمجتمع الفرنسي مع احتفال فرنسا العام الماضي بالمئوية الثانية لوفاة نابليون بونابرت، واحتفال مصر وفرنسا معا هذا العام بالمئوية الثانية لاكتشاف شامبليون أسرار الكتابة المصرية القديمة وتتزامن أيضًا مع المئوية الثانية لوفاة بوشار نفسه. وبعد الكشف عن دوره نظمت فرنسا مؤخرًا أنشطة ثقافية حول دوره، أما مسقط رأسه (مدينة أورجوليه) فقررت وضع نصب تذكاري عملاق في مدخل المدينة يمثل حجر رشيد بحجم أكبر 20 مرة من حجم الحجر الأصلي كرمز للمدينة. وقد أدرك بوشار أنه وضع يده على كنز وتم إبلاغ الخبر إلى  المجمع العلمي في القاهرة.

وهنا جاء دور جان فرانسوا شامبليون (1790- 1832) الذي نشأ في جنوب غربي فرنسا، وكان الابن الأصغر بين 7 أطفال لأب فقير. وفي سن مبكرة عرف اليونانية واللاتينية والعبرية والعربية والأمهرية والسنسكريتية والسريانية والفارسية والكلدانية والقبطية. كان شقيقه الأكبر من اكتشف عبقريته وشغفه باللغات.

* باحثة علوم سياسية- مصر.

------------------------------

حجر رشيد

 

حجر رشيد لوح يبلغ ارتفاعه حوالي 4 أقدام وعرضه قدمان ونصف القدم، وسمكه قدم. كان المنقوش على واجهة الحجر 3 نصوص منفصلة: النص العلوي بالهيروغليفية المصرية، يتكون من 14 سطراً. (وربما كان حوالي ضعف هذا الطول في الأصل؛ وانقطع الجزء العلوي منه). وكان النص الأوسط، مكونًا من 32 سطراً، مكتوباً بخط آخر، لم يتعرف عليه أحد (يُدعى الديموطيقية واتضح أنه نوع من الاختزال المشتق، في نهاية المطاف، من الهيروغليفية). النص السفلي، المكون من 53 سطراً، كان باللغة اليونانية القديمة، وهي لغة كان يستخدمها كثير من علماء حملة نابليون، وكان يتم تعليمها في المدرسة. وقد ذكرت الكتابة اليونانية صراحة أن نصها هو نفسه نص النقشين السابقين. وقد أدرك بوشار ما يعنيه ذلك: النص اليوناني، إذا كان يطابق بالفعل الآخرين، سيسمح لهم بترجمة الهيروغليفية، وبالتالي، في النهاية، جميع النصوص الهيروغليفية الأخرى التي كانت تحير الناس. ولم يكن اكتشاف حجر رشيد سرًا، ونقلت جريدة «كوريير دي إيجبت» وهي صحيفة البعثة الفرنسية الخبر بعد شهرين، وتم إرسال نسخ مقلدة من الجبس إلى علماء في أكسفورد، وكامبريدج، وإدنبرة، ودبلن.

 

حجر رشيد من الأمام

 
font change

مقالات ذات صلة