مصر تواجه أزمة الدولار... تقليص الاستيراد وترشيد الاستدانة الخارجية

القرارات تهدف إلى تعظيم الصناعة الوطنية

قد يستمر البنك المركزي المصري في خفض الفائدة على مدار العام المالي الجاري (غيتي)

مصر تواجه أزمة الدولار... تقليص الاستيراد وترشيد الاستدانة الخارجية

القاهرة: تتخذ الحكومة المصرية، حاليًا، خطوات حثيثة نحو الحفاظ على العملة الصعبة وحماية احتياطياتها النقدية، بتحجيم الاستيراد من الخارج، وترشيد الاقتراض الخارجي، وتعميق التصنيع المحلي، وجذب استثمارات مباشرة بدلا من الأموال الساخنة التي تسبب أزمة في خروجها المفاجئ باحثة عن مكاسب أفضل بأسواق أخرى.


أوقفت مصر استيراد بعض السلع غير الأساسية، بينما علقت هيئة الرقابة على الصادرات والواردات قيد نحو 800 شركة من الشركات والمصانع في سجل المستوردين بعد تفعيل قرار إنشاء سجل للمصانع والشركات مالكة العلامات التجارية المؤهلة لتصدير منتجاتها إلى مصر، والذي لا يجيز الإفراج عن البضائع بقصد الإتجار، إلا إذا كانت من إنتاج المصانع المسجلة أو المستوردة من الشركات مالكة العلامات، أو مراكز توزيعها موجودة في سجل الهيئة.


وقد أجرت نيفين جامع، وزيرة التجارة والصناعة المصرية، في مارس (آذار) الماضي، تعديلات على القواعد المنظمة لتسجيل المصانع المؤهلة لتصدير منتجاتها لمصر، وبدأ سريانها في أبريل (نيسان) ليتم تعليق استيراد منتجات شهيرة مثل «يونيليفر» العالمية، و«لونا»، و«إن آند آوت» للأثاث، و«موباكو» للملابس، و«المراعي» و«نادك» السعودية، و«ماكرو» للمستحضرات الطبية، و«باجاج» الهندية. بينما تم إبقاء تداول منتجاتها محلية الصنع في مصر كالمعتاد.

هناك مخاوف من أن تؤدي القواعد الجديدة إلى ارتفاع في الأسعار


وتخلت وزارة التجارة والصناعة بمصر عن دورها في إصدار قرارات السماح بالاستيراد ومنح ذلك الدور لهيئة الرقابة على الصادرات والواردات وإلغاء الاستثناءات ووضع ضوابط للسوق المحلية، خاصة أن غالبية تلك الشركات لديها منتج محلي ويتم استيراد شبيه له من الخارج.
وأصدر البنك المركزي قرارًا خلال فبراير (شباط) الماضي، بوقف التعامل بمستندات التحصيل في كافة العمليات الاستيرادية والعمل بالاعتمادات المستندية بدلاً منها، بالتزامن مع تفعيل منظومة التسجيل المسبق للشحنات التي بدأ تطبيقها بصورة إلزامية بداية مارس الماضي.
وقبل إصدار البنك المركزي قراره، كانت الشركات تتعامل بمستندات التحصيل والتي يكون التعامل فيها بين المستورد والمصدر بشكل مباشر، ويكون البنك وسيطًا في هذه العملية، أما التعامل بالاعتمادات المستندية فيعني أن التعامل سيكون بين البنك المستورد والبنك المصدر، وهو ما ينظم عملية الاستيراد لكن قد يتضمن تأخيرًا لإجراءاتها في الوقت ذاته.

ضبط الاستيراد
قال أشرف غراب، الخبير الاقتصادي، إن قرارات ضبط الاستيراد هدفها تعميق المنتج المحلي وتعظيم الصناعة الوطنية، كما تعمل على تقليل الضغط على الميزان التجاري، وتقليص الطلب على العملة الصعبة، مضيفًا أن شطب شركات أجنبية تنشط في تصدير الأغذية والملابس الجاهزة والمنسوجات والصناعات المعدنية والألبان والسيراميك والعصائر، يرجع إلى بدائل محلية لهذه المنتجات بمصر، كما يقلل من مزامنة المنتج المحلي في السوق.
وأضاف أن ترشيد الاستيراد يتيح للمُصنع المصري فرصة تسويق منتجه وزيادة إنتاجه والتوسع في مشروعاته وزيادة فرص العمل، لكن الأمر يحتاج أيضًا إلى تشديد الرقابة على المصانع المصرية لتطبيق معايير الجودة على المنتج المحلي ليصبح عالي الجودة ينافس المنتج العالمي.


وأوضح أن مركز تحديث الصناعة بوزارة التجارة والصناعة وضع قائمة تتضمن 131 منتجًا مستوردا لتصنيعها محلًيا من خلال مصانع القطاع الخاص بمصر تتخطى 14 مليار دولار سنويا، وذلك لخفض قيمة الواردات، والوصول إلى أكبر قدر من الاكتفاء الذاتي للسلع المصنعة.
وأكدت لجنة التجارة الداخلية بالشعبة العامة للمستوردين بالاتحاد العام للغرف التجارية أن الدولة اتخذت مجموعة من الإجراءات لضغط الاستيراد. والاتجاه نحو التصنيع المحلي وتحجيم الطلب على الدولار مع وقف 200 شركة ومصنع مصدر إلى مصر. وكذلك منع دخول ما يزيد على 131 سلعة تشجيعًا للتحول إلى التصنيع المحلي، ما يمثل اتجاهًا للصناعة المحلية وتشجيعها.


واشتكى متى بشاي، رئيس اللجنة، من صعوبات كبيرة يواجهها المستوردون سواء في مستلزمات الإنتاج أو السلع تامة الصنع، نتيجة للبطء الشديد في فتح الاعتمادات المستندية الخاصة بالعمليات الاستيرادية، مضيفًا أن هناك تكدسا شديدا في الموانئ نتيجة لصعوبة عمليات الإفراج الجمركي.
وطالب بشاي الحكومة والوزارات الاقتصادية المختصة والبنوك بضرورة فتح حوار مجتمعي مع المستوردين والصناع ورجال الأعمال لإيجاد حلول مناسبة لمواجهة توفير مستلزمات الإنتاج والإفراج عن البضائع، وبحث المتغيرات العالمية خاصة بعد حدوث خلل واضح في سلاسل الإمداد والتوريد بعد الأزمة الروسية الأوكرانية، وما نتج عنها من تأثيرات طالت كل دول العالم، ومصر جزء منها.


وأصدر البنك المركزي في فبراير الماضي قرارًا بوقف التعامل بمستندات التحصيل عند إجراء العمليات الاستيرادية والتعامل فقط بالاعتمادات المستندية، وسمح «المركزي» للبضائع السابق شحنها قبل صدور هذا القرار بالتعامل معها من خلال مستندات التحصيل بناء على طلب العميل، كما تم استثناء فروع الشركات الأجنبية وكذا الشركات التابعة لشركات أجنبية من ذلك القرار في نطاق عمليات الاستيراد من الشركة الأم ومجموعاتها فقط.


واستثنى البنك المركزي من تطبيق هذا القرار الشحنات الواردة بالبريد السريع، والشحنات حتى مبلغ 5000 دولار أميركي أو ما يعادلها بالعملات الأخرى، بالإضافة إلى الأدوية والأمصال والكيماويات الخاصة بها بالإضافة إلى عدد من السلع الغذائية الرئيسية.
وتبنت مصر سياسة لترشيد الاستيراد نجحت في تراجع فاتورته إلى 53 مليار دولار في 2020 مقابل متوسط بنحو 75 مليار دولار قبلها، وسط توقعات بتقلص الأرقام بشكل أكبر مع تطبيق قرار في مارس الماضي بمنع دخول بضائع لا تتماشى مع مقاييس الجودة الأوروبية لمنع انتشار بضائع ومنتجات رديئة الجودة في الأسواق المصرية.

تنظيم الاقتراض
تعتزم الحكومة تفعيل لجنة لتنظيم الاقتراض الخارجي والحد منه، الذي صدر قرار بتدشينها قبل أربعة أعوام من أجل ضبط النفقات العامة، والحيلولة دون انفلات ملف الدين بعدما تجاوز الدين الخارجي 145 مليار دولار بنهاية الربع الثاني من العام المالي الحالي وبارتفاع بنحو 6 في المائة تعادل 8.1 مليار دولار، بحسب بيانات البنك المركزي، الصادرة في 19 أبريل (نيسان) الحالي.


وطالبت لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، بقياس مدى الحاجة للمشروعات التي يتم الاقتراض من أجلها قبل البدء في إدراجها في خطة الدولة وقياس الآثار الاقتصادية والاجتماعية المترتبة عليها، والمردود الناجم عنها في حالة الاستقرار عليها، وإعداد دراسات الجدوى الاقتصادية التي تسبق تنفيذ المشروعات الاستثمارية التي تم الاستقرار على تنفيذها سواء الممولة من الخزانة العامة أو من القروض والمنح، ووضع خطط مستقبلية للتعامل مع المشاكل التمويلية والتنظيمية والإدارية التي قد تطرأ أثناء عمليات التنفيذ.


كما دعت أيضا لإعطاء الأولوية عند وضع الخطة الاستثمارية لتنفيذ المشروعات الجاري استكمالها وتدبير الاعتمادات اللازمة لها، واتخاذ وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية لجميع الإجراءات التي تكفل من عملية الرقابة على تنفيذ المشروعات وبالأخص الممولة بقروض ومنح، ووضع برنامج زمنی معتمد للقيام بالزيارات الميدانية للمشروعات للتحقق من انتظام سير العمل في تنفيذها ومدى التقدم في تحقيق أهدافها وفقا لمؤشرات قياس الأداء.
وخلال تسع سنوات، ارتفعت قيمة الديون الخارجية على مصر بما يزيد على 100 مليار دولار، إذ قفزت من مستوى 34.4 مليار دولار في 2012 مقابل 147 مليار دولار في نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2021، بينما يقول الدكتور صلاح فهمي، أستاذ الاقتصاد، إن موارد مصر الدولارية تأثرت بسبب انخفاض معدلات السياحة الوافدة إلى مصر بفعل الحرب الأوكرانية لروسيا وأوكرانيا كانتا أكبر مورد للسياحة في جنوب سيناء، بجانب ارتفاع أسعار السلع الأساسية التي تستوردها من الخارج، وارتفاع أسعار النفط التي كبدت الموازنة العامة المزيد من الضغوط.


وأضاف فهمي أن مصر اضطرت أيضا لمنع تصدير منتجات أساسية للخارج للحفاظ على احتياجات السوق المحلية مثل البقول والأرز ومصنعات الدقيق، ما قلص موردا للعملة الصعبة يتمثل في عائد التصدير إلى الخارج، مضيفًا أن الدين الخارجي مقلق لكن الاقتصاد المصري ما زال مستقرا ويحافظ على تصنيفه الائتماني، وآخرها تثبيت «فيتش» تصنيفه عند «بي موجب» مع نظرة مستقبلية مستقرة، بجانب تقارير صندوق النقد الدولي الذي تحدث عن تنفيذ الإصلاحات الهيكلية؛ لاستدامة تحقيق الاستقرار المالي، والنمو الاقتصادي الغني بالوظائف وتعزيز مظلة الحماية الاجتماعية.
وقالت مديرة صندوق النقد الدولى، أخيراً، إن الصندوق سيظل يقدم كل الدعم لمصر لاستكمال تجربته الناجحة معها فى الإصلاح الاقتصادي، وأنه يجري حاليًا التواصل مع الفريق المصري للتنسيق حول البرنامج الجديد لمصر الذي يستهدف دعم الإصلاحات الهيكلية للاقتصاد المصري.

استثمار محلي وأجنبي
وقد أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال حفل إفطار الأسرة المصرية، الثلاثاء، تكليفًا للحكومة بعقد مؤتمر صحافي عالمي لجذب الاستثمارات في مجالات البنية التحتية والطاقة والسياحة والتطوير العقاري، والاهتمام بتعميق الإنتاج المحلي، وهي مبادرة تلقفها اتحاد الصناعات المصرية الذي أكد جاهزية واستعداد المصنعين والمستثمرين المصريين لاستغلال الفرص الاستثمارية في القطاعات الصناعية المختلفة والاستفادة من مبادرات الصناعة لتلبية احتياجات السوق المحلية والتصدير للخارج خاصة في ضوء المزايا التنافسية والجغرافية والاقتصادية المختلفة التي تتمتع بها مصر.
يأتي ذلك وسط تغير توجه الحكومة أخيرا نحو الاستثمار المشترك عربيا وأجنبيًا عبر صناديق الاستثمارات، خاصة صندوق الاستثمارات العامة السعودي، من أجل تأسيس كيانات مشتركة تتمكن من الوصول للإقليمية والعالمية، إذ يستهدف صندوق مصر السيادي الاستثمار في قطاعات التكنولوجيا المالية والشمول المالي في السعودية وتعزيز التعاون يستهدف خلق جسور بين صندوق مصر السيادي وصندوق الاستثمارات العامة السعودي.

الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال حفل إفطار الأسرة المصرية، كلّف الحكومة بعقد مؤتمر صحافي عالمي لجذب الاستثمارات


وتتضمن الاتفاقية مع صندوق الاستثمارات العامة السعودي، البحث عن قطاعات معينة التقت فيها رؤية الجانبين لتأسيس كيانات ناجحة إقليمية وعربية تصل إلى العالمية، ويشمل ذلك البنية الأساسية، ومجال الصناعات الغذائية والدوائية والاقتصاد الأخضر، والتعليم والرعاية الصحية، ومجال الشمول المالي والتكنولوجيا المالية لخلق كيانات ناجحة في القطاعات المالية.


وتم توقيع اتفاق أيضا مع صندوق أبوظبي يشمل مجموعة من الحصص للشركات المدرجة في البورصة ووضع محفظة استثمارية موجهة للسوق المصرية محددة المعالم يتم تنفيذها، بجانب توقيع اتفاقية مع شركة مالطة للاستثمارات الحكومية وبنك فرنسا للاستثمار العام لتدشين «مؤسسة صناديق الثروة السيادية في أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا» في مالطة، وهي حجر أساس لشبكة تعاون بين دول المُتَوَسِطِ.


وقال المهندس أحمد الزيات، عضو جمعية رجال الأعمال المصريين، إن الدولة المصرية لديها توجه نحو المنتجات والسلع محلية الصنع لخفض فاتورة الاستيراد ورفع حصة الصناعة بالسوق والتي تمثل 18 في المائة من حجم السوق، بجانب الوصول لفرص ضخمة لنمو الصادرات والنفاذ إلى الأسواق الأفريقية، خاصة في ظل خطة الدولة لزيادة الصادرات إلى 100 مليار دولار.

يربط البعض بين توقيت تطبيق القرار، ومخاوف الحكومة من تناقص احتياطياتها من النقد الأجنبي (رويترز)


لكن الزيات طالب بالمزيد من الدعم الحكومي لمواجهة أزمة سلاسل الإمداد ونقص الخامات ومستلزمات الإنتاج وارتفاع الأسعار وتكاليف الإنتاج على مستوى العالم والمحلي، وإعادة تفكير الحكومة في كيفية تشجيع تنمية الصناعة ورفع كفاءتها وزيادة الإنتاج والتعامل مع الصناعة باعتبارها قاطرة النمو، وتوفير البيئة لاستثمار قوي من قبل الشركات الشابة في العديد من القطاعات الإنتاجية ومنها صناعات المواد الغذائية وصناعة الإلكترونيات.

font change