اللاجئون السوريون في لبنان وتركيا... ورقة للصراع السياسي

توظيف سياسي واقتصادي لقضية إنسانية

التحريض على اللاجئين السورين في تركيا يصل إلى مراحل خطيرة

اللاجئون السوريون في لبنان وتركيا... ورقة للصراع السياسي

باكو: ظروف إنسانية قاسية... غياب عن حضن الوطن... العيش في المخيمات... انتهاكات حقوقية مستمرة. كل تلك العبارات وغيرها تعبر عن حالة اللاجئين في العالم الذين يزداد عددهم يوما بعد يوم نتيجة الصراعات والحروب سواء داخل كل دولة أو بين الدول بعضها وبعض. ورغم تماثل الموقف القانوني لهؤلاء اللاجئين في مختلف دول العالم امتثالا لنصوص الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تضع منظومة متكاملة من الحقوق المتصلة بضمان الحفاظ على مقومات حيواتهم ومعايشهم اليومية؛ من مأكل ومشرب وصحة وتعليم وخلافه، إلا أن التطبيق العملى لهذه النصوص القانونية يشهد تباينا واضحا بين حالات وأوضاع هؤلاء اللاجئين، حيث نجد هناك تباينا في كيفية معاملة الدول المستضيفة لهؤلاء اللاجئين، فهناك دول تقيم معسكرات وخياما مستقلة ومنفصلة عن المناطق التي يعيش فيها المواطنون على غرار ما قامت به تركيا ولبنان في تعاملها مع ملف اللاجئين، فتكون لهم مناطق محددة يمكثون فيها ويقضون فيها حياتهم. على الجانب الآخر، هناك دول أخرى تعامل هؤلاء اللاجئين معاملة مواطنيها بما لهم من حقوق على غرار ما يجرى في مصر والسعودية في تعاملهما مع ملف اللاجئين السوريين على وجه الخصوص، حيث تم دمجهم في المجتمع بشكل كامل وتوفير كافة المتطلبات لضمان هذا الدمج.


وغني عن القول أن التباين في التعامل مع ملف اللاجئين لا يقتصر على المقارنة بين سياسات الدول بعضها مع بعض، وإنما يمتد هذا التباين أيضا داخل الدولة الواحدة من فترة إلى أخرى، ففي فترات معينة يكون هناك اهتمام واضح بهؤلاء اللاجئين وتقديم التسهيلات والمساعدات إليهم جميعا. ولكن في فترات أخرى، تتبنى ذات الدولة موقفا سلبيا حيال هؤلاء اللاجئين.


ومن هذا المنطلق، يمكن القول أن التعامل مع ملف اللاجئين بصفة عامة يغلب عليه البعد السياسي في كيفية توظيفهم لخدمة أهداف سياسية ومصالح اطراف نافذة في النظام السياسي للدولة بحيث يُمكنهم الوضع من حصد النتائج المرغوبة وتحقيق الإنجازات المطلوبة، إذ يرتبط موقف الدولة من قضية اللاجئين بما يمكن وصفه بـ«لحظية الموقف» وسياقاته، وهذا ما يمكن أن يرصده التقرير من خلال إلقاء الضوء على أوضاع اللاجئين السوريين في كل من تركيا ولبنان، ارتباطا بما يشهده البلدان من استحقاقات سياسية (انتخابات رئاسية ومحلية في تركيا العام القادم 2023- انتخابات نيابية فى لبنان تم إجراؤها منتصف مايو/ أيار الجارى)، وذلك من خلال المحورين الآتيين:

اللاجئون السوريون في تركيا
في واقع مؤلم لم يغب عن المشهد السياسي التركي منذ اندلاع الأزمة السورية، ومحاولات جميع الأطراف السياسية التركية توظيفه لتحقيق مصالحها، تأتي قضية اللاجئين السوريين كمحور للنقاش والجدل الذي يبرز على السطح بين الحين والآخر مع كل حدث سياسي تشهده الساحة التركية أو مع كل استحقاق انتخابي يقترب موعده، وهو ما يتجدد اليوم مع قرب الاستحقاقات التركية في العام القادم 2023، حيث تصاعد الخطاب السياسي بين الحكومة وأحزاب المعارضة بشأن كيفية التعامل مع هذا الملف الذي يحمل أبعادًا عدة؛ سياسية واقتصادية وديموغرافية وأمنية. ففي الوقت الذي تحاول فيه المعارضة التأكيد على إخفاق الحكومة التركية ليس فقط في إدارة مثل هذا الملف وإنما في سياستها بصفة عامة بما يمثل من خطوة مهمة في سبيل  زعزعة هيمنة النموذج الإردوغاني على مفاصل الدولة التركية، ويقود هذا التوجه حزب الشعب الجمهوري الذي يأخذ من قضية اللاجئين بصفة عامة واللاجئين السوريين على وجه الخصوص مدخلا لتوجيه الانتقادات إلى الحكومة التركية، مستندًا إلى مجموعة من المبررات التي تدعم وجهة نظره، من بينها:
أن سياسة الهجرة واللجوء التي تبنتها الحكومة كانت خاطئة وغير مخطط لها، وغير محسوبة، ولم يتم إجراء دراسة جدوى جيدة، وهو ما فتح الأبواب أمام كل هذا العدد الهائل من اللاجئين والمهاجرين تحت شعارات تلائم خطاب حزب العدالة والتنمية وتوجهاته، الذي أخفق في إدارة الملف ليصل الأمر في نهاية المطاف إلى فوضى يعاني منها المجتمع التركي اليوم.

مخاوف من تغير سياسة تركيا تجاه اللاجئين السوريين


أن اللاجئين السوريين لا يرون أي مستقبل لهم في تركيا، بل ويسعون للهجرة إلى الدول الأوروبية إذا ما سمحت لهم الظروف، مستندين في ذلك على تقرير أعده الحزب في هذا الخصوص عبرت عنه النائبة جامزه أكوش إلجيزدي، ممثلة الحزب في البرلمان التركي بقولها: «التقرير الذي أعددناه يشير إلى أن السوريين يريدون الذهاب إلى الدول الغربية.. وإذا فتحت تركيا حدودها، فإن 90 في المائة من السوريين هنا سيتجهون إلى الغرب»، وهو ما يعني من وجهة نظر الحزب أن ما تحملته تركيا في هذا الخصوص إنما ترك تأثيراته على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تشهد مزيدا من الأزمات بسبب جائحة كوفيد-19 خلال العامين الماضيين وتفاقمت أبعادها مع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا التي بدأت في الرابع والعشرين من فبراير (شباط) هذا العام (2022).


على الجانب الآخر من المشهد يأتي الموقف الحكومي معضدًا توجهاته في هذا الملف من زاوية أن البعد الإنساني كان يحتم على الدولة التركية أن تقف إلى جوار الشعب السوري في مواجهة سياسة القمع والتنكيل التي انتهجها نظام بشار الأسد. فضلا عن أن هؤلاء اللاجئين قد دعموا الاقتصاد التركي بكفاءتهم وخبراتهم وجهدهم، حيث أصبح عدد كبير من السوريين جزءاً من نظام الإنتاج والتوظيف في تركيا.

الكثير من اللاجئين، ليسوا متحمسين للبقاء بشكل دائم خارج بلادهم. لكن لديهم مخاوف بشأن التغير الثقافي والتمييز ضد أبنائهم.


ولكن في خضم تصاعد الأزمة التي يواجهها النظام التركي اليوم والتي تمثل خصمًا من رصيده السياسي في الاستحقاقات القادمة، دفع ذلك الرئيس رجب إردوغان إلى ضرورة أن لا يترك ملف اللاجئين السوريين خطابًا في يد المعارضة تستغله ضد حزبه، فجاء تصريحه الأخير معبرًا عن رؤيته بشأن التعامل مع هذا الملف بقوله إنه «يُحضّر لعودة مليون سوري إلى بلدهم على أساس تطوعي، من خلال تمويل استحداث ملاجئ وبنى مناسبة لاستقبال سوريين في شمال غربي سوريا، بمساعدة دولية»، وتشمل هذه الرؤية وفقًا لما أعلنه الرئيس أيضًا إنشاء نحو 250 ألف وحدة سكنية، في 13 منطقة في الشمال السوري، فقد ورد على لسانه أن «المشروع الذي سننفذه مع المجالس المحلية لثلاث عشرة منطقة مختلفة، وعلى رأسها أعزاز، جرابلس، الباب، تل أبيض ورأس العين، اكتمل تماماً.. وأن المشروع يشتمل على التجهيزات اللازمة للحياة اليومية؛ من السكن إلى المدرسة والمستشفى، وكذلك الزراعة والصناعة».


والحقيقة أن هذا التوجه الحكومي رغم أنه لم يكن وليد اللحظة الراهنة، إذ سبق أن قامت الحكومة التركية منذ بدء عملياتها العسكرية في سوريا عام 2016، بإعادة حوالي 500 ألف سوري فيما أنشأته من مناطق آمنة في الشمال السوري، إلا أنه في الوقت ذاته يواجه تحديات عدة في التطبيق، سواء تعلقت هذه التحديات بموقف السوريين المتواجدين على الأراضي التركية، إذ تشير عديد التقارير إلى أن كثيرا من اللاجئين السوريين في تركيا، يرفضون العودة إلى بلادهم، بعد أن أسسوا حياة مستقرة في تركيا، كما أن كثيرين منهم يرون أن الأسباب التي دفعتهم لمغادرة سوريا لم تتغير بعد، كي يعودوا لها من جديد، في ظل وجود نفس النظام السياسي الذي فروا منه في سدة الحكم، أو تعلقت هذه التحديات بقدرة الحكومة التركية التي تواجه أزمة اقتصادية طاحنة من أن تتمكن من توفير التمويل اللازم لإنشاء هذه الوحدات السكنية ببنيتها الأساسية وخدماتها اللوجستية في 13 منطقة، وإن رأى البعض أن التقارب التركي الأخير مع كل من الإمارات العربية والسعودية يمكن أن يساعد في تمويل مثل هذه الخطة، وإن كان الأرجح أن هذا الرأي غير دقيق في ظل تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية التي تواجهها مختلف دول العالم بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية.

أردوغان: 500 ألف سوري عادوا إلى المناطق الآمنة التي وفرتها تركيا منذ عام 2016 (الأناضول)


وغني عن القول إن إدراك الحكومة التركية لمثل هذه التحديات والصعوبات هي التي دفعت الرئيس التركي رجب إردوغان إلى أن يُزيل توجهه بعبارة «تطوعي»، فشرط الطواعية تحمل في طياتها عديدا من علامات الاستفهام التي تمنحه فرصة للوقوف في منتصف الطريق سعيا لتوظيف هذه القضية في المنافسة الانتخابية القادمة التي يواجه فيها تحديات حقيقية، إذ إنه يعلم أن إعادة هؤلاء اللاجئين إلى بلدهم (سوريا) يحقق له هدفًا سياسيًا في تفريغ خطاب المعارضة السياسية ومضمونه، إلا أنه في الوقت ذاته يفرض عليه تبعات قد لا يقدر على تحملها سواء اقتصاديا أو سياسيا، وهو ما يجعل من مواقفه في هذا الملف أقرب إلى المواقف الرمادية التي تحمل التوجهين بشكل غير قطعي.

اللاجئون السوريون والاستحقاق النيابي في لبنان
على وقع أزمة معقدة الأبعاد ومتشابكة الفواعل ومتداخلة العوامل، يحاول اللبنانيون رسم مستقبلهم السياسي عبر استحقاق نيابي جرى في الخامس عشر من مايو (أيار) الجاري (2022)، لم يفرز إلا برلمانًا مفككًا يضيف عبئا جديدًا على الدولة اللبنانية التي تعاني من تضخم شديد ومدمر؛ اقتصاديًا، حيث فقدت الليرة اللبنانية 90 في المائة من قيمتها كما انتشر عجز على نطاق واسع في الكهرباء والأدوية والوقود، ووصل معدل الفقر الآن إلى أكثر من 80 في المائة من السكان.

يستضيف لبنان أكثر من مليون لاجئ سوري (أ.ف.ب)


وسياسيًا، حيث تشهد الساحة صراعًا حقيقيًا بين الكتل والقوى السياسية التى أخفقت جميعها في أن تقدم روشتة إنقاذ للدولة، بسبب غلبة المصالح الشخصية والفئوية من جانب، وتعميق الارتباطات والتحالفات الإقليمية والدولية من جانب آخر.


في ظل هذا الوضع المأساوي الذي وصلت إليه لبنان، لم تكن مفاجأة أن تُوجه بعض أصابع الاتهام إلى اللاجئين السوريين البالغ عددهم ما يزيد على 1.5 مليون لاجئ، وكأنهم هم أسباب المشكلة التي تواجهها الدولة اللبنانية اليوم، وإن كان صحيحًا أن هؤلاء اللاجئين يمثلون عبئا على الدولة وميزانيتها، إلا أنه من الصحيح أيضًا أنه يمكن الاستفادة من خبراتهم ومعارفهم إذا ما أُحسن توظيفها بعيدًا عن الصراعات السياسية والخطابات العاطفية التي تستهدف حصد الأصوات في عملية انتخابية تُمكّن أحد الأطراف من الوصول إلى السلطة ليعيد إنتاج ذات الأزمات والمشكلات. فما شهدته الانتخابات النيابية اللبنانية الأخيرة أعطت نموذجًا حقيقيًا للتوظيف السياسي لملف اللاجئين السوريين واستخدامه من جانب الحكومات لتبرير إخفاقاتها على غرار ما جاء على لسان وزير العمل اللبناني مصطفى البيرم، بأن اللاجئين السوريين «باتوا عبئا، ولبنان لم يعد قادرا على أن يكون شرطيا لمصالح الدول الأخرى... وإنه من غير المقبول أن يدفع اللبنانيون ثمن الصعوبات الاقتصادية من كيسهم، بينما يتلقى السوريون مساعدات مباشرة بالدولار»، ولكن ما يثير الدهشة أن هذا الخطاب تجاه اللاجئين السوريين لم يجد له صدى ملموسًا في برامج الأحزاب اللبنانية باستثناء التيار العوني الذي يتحدث مرشحوه دومًا عن ضرورة إعادة السوريين إلى بلدهم، وهو ما يعني أن الأطراف اللبنانية ليس لديها خطة واضحة لكيفية التعامل مع هذا الملف الشائك الذي يقتصر أهميته على تبرير الإخفاق ومنح حجة للقائمين على الأمر بأن وجود السوريين واحد من الأسباب الرئيسية في زيادة الأزمة التي يعيشها لبنان اليوم.


خلاصة القول إن قضية اللاجئين السوريين سواء في لبنان أو تركيا على وجه الخصوص تُعد قضية ذات بعدين متعارضين: الأول، أن البلدين لم يستطيعا أن يغلقا الباب في وجه هؤلاء اللاجئين الذين يواجهون الموت بسبب الأزمة التي تعيشها سوريا منذ ما يقرب من عقد. ومن ثم فالوجود السوري بحكم الجوار الجغرافي يمثل وجودًا حتميًا إلى جانب أنه وجود إنساني على غرار الأزمة التي أثيرت على الحدود البولندية مع روسيا البيضاء، وكذلك ما يجرى حاليًا في الجوار الأوكراني. الثاني، رغم هذا الوجود الحتمي إلا أن الحكومات ترى أن هذا الوجود يمثل عبئا لا بد من التخلص منه، تخفيفا للأزمات التي تواجهها البلدان، اقتصاديًا وسياسيًا، وهو ما لم تستطع أن تتخذ بشأنه سياسات قاطعة أو إجراءات رادعة، بل يظل الأمر يدور في إطار من الخطاب الإعلامي الذي يفتقر إلى خارطة طريق واضحة يمكن أن تتبناها حكومتا البلدين في تعاملهما مع هذا الملف. وأن كل ما يمكن أن يقوما به هو محاولات توظيف هذا الوجود؛ سياسيًا على مستوى الداخل مع كل استحقاق سياسي لحصد الأصوات. واقتصاديًا على مستوى الخارج لحصد المزيد من الأموال من الجهات المانحة والداعمة، وهو ما يعني إجمالًا أن قضية اللاجئين السوريين في كل من تركيا ولبنان ستظل تدور في حلقة التوظيف السياسي والاقتصادي لصالح الأطراف المتنافسة للوصول إلى السلطة، دون أن يكون لديهم حلول حقيقية لإنهاء هذا الملف الذي أضحى واحدًا من الملفات المطروحة بشكل دائم على مائدة أية صراعات سياسية أو إبرام أية صفقات اقتصادية.

font change