«توظيف الأموال» مسلسل يتواصل لنهب مدخرات المصريين البسطاء

رغبة الفرار من الفقر دفعت الناس للجوء إلى «المستريح»

تجمهر أهالي منطقة الشرفاء، بعد هروب مستريح السيارات «طاهر الحصاوي»

«توظيف الأموال» مسلسل يتواصل لنهب مدخرات المصريين البسطاء

القاهرة: في حقبة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي تفشت ظاهرة شركات توظيف الأموال في مصر حيث كان الهدف جمع ثروات الناس بدعوى استثمارها مقابل إغرائهم بعائدات شهرية أو سنوية كبيرة، سرعان ما انكشف أنها عمليات نصب لبيع الوهم ضاعت على أثرها مليارات الجنيهات.
وكأن التاريخ يعيد نفسه في ظل قانون لم يحسم منع هذه الشركات، غابت عن الأذهان الذكريات المؤلمة التي عاشها المصريون من ضحايا شركات الريان والسعد وهدى عبد المنعم (المرأة الحديدية) وغيرهم في فترة الانفتاح بالثمانينات الذين جمعوا المليارات من الناس ثم انتهى بهم الأمر في السجون، لتعود ظاهرة النصب مجددا مع تعثر الحالة الاقتصادية للمواطنين وضعف الفائدة البنكية ورغبة المواطنين في الثراء السريع والفرار من الفقر.


وبعدما اختفت هذه الظاهرة لفترة بسيطة عادت من جديد باسم جديد (المستريح) الذي يطلق على كل نصاب في مجال توظيف الأموال. و«المستريح» هو الشخص الذي يظن أنه صاحب عقلية تجارية عبقرية وقادر باللعب على مشاعر ورغبات ضحاياه بوهمهم بالأرباح العالية من أجل الاستيلاء على أموالهم.


خلال الأيام القلية الماضية سقط  نصاب أو «مستريح» جديد في مدينة أسوان جنوبي مصر حيث استطاع جمع حوالي 500 مليون جنيه من الأهالى بدعوى استثمارها في تجارة المواشى... على الرغم من أن نفس الشخص سبق وسجن قبل فترة ليست ببعيدة في قضية سرقة ونصب.

النيابة المصرية أمرت بحبس «مستريح أسوان» الذي باع الوهم للمواطنين وجمع منهم ملايين الجنيهات


لقد لبس مصطفى البنك ثوب الورع والتقوى بعد خروجه من السجن، وانطلق من أسوان حاملا شعار رجل الأعمال والمستثمر الأمين ليجمع من الأهالي عشرات الملايين من الجنيهات ثم اختفى هاربا بمنطقة جبلية متاخمة لمركز إدفو جنوبي مصر. وأمام البلاغات المتلاحقة من الضحايا قامت الشرطة بعمليات مداهمة لكثير من الأوكار حتى تم القبض عليه بعد مطاردة راح ضحيتها ضابطا شرطة واثنان من المجندين إثر انقلاب سيارتهم في عملية المطاردة.


مستريح أسوان ليس الأول من نوعه خلال السنوات الأخيرة، فهذا المسلسل العجيب من قضايا توظيف الأموال كانت له أصداء واسعة وردود فعل غاضبة عرفها المجتمع منذ بداية عصر الانفتاح الاقتصادي في فترة السبعينات بالقرن الماضي.  


ربما تكون شركات الريان والشريف والسعد هي الأشهر لأنها كانت السباقة في كشف هذا الدهليز بجمعها مليارات الجنيهات من ملايين الناس البسطاء الذين كانوا يأملون في الحصول على نسب أرباح كبيرة... لكن في النهاية ضاعت الثروات وسجن معظم هؤلاء النصابين وهرب آخرون، لكن المسلسل لم ينته بل ما زال مستمرا وبأوجه مختلفة.


ومن أهم القضايا التى تم الكشف عنها أواخر عام 2020 مستريح الشرقية  المدينة التي تقع أيضا بدلتا مصر، ويطلق عليه (مصطفي-أ) وهو من المبدعين في تنويع مصادر نصبه حيث نجح في جمع أكثر من مليار جنيه بدعوى استثمارها في مشاريعه التجارية. وبالفعل أنشأ بعض المراكز لإغراء زبائنه ومريديه بأرباح كبيرة، قبل ان تتكشف الحقيقة.


وخلال عام 2000 وفي مدينة الفيوم ظهر رجل أعمال يدعى (بركات-س-ج) يدعو الناس لمشاركته في مركز تجاري تم بناؤه بالفعل، وبالفعل نجح في جمع نحو 130 مليون جنيه، لكنه ادعى إفلاسه رافضا رد المبالغ أو أي أرباح عنها. والقضية ما زالت أمام المحاكم.  


وليس الرجال وحدهم هم الذين يجيدون النصب، فخلال العام الماضي ظهرت سيدة جامعية في مدينة سوهاج بصعيد مصر (أ-أ) تدعي أنها تملك شركة استثمار وتوظيف أموال ومتخصصه في مجال تجارة المستلزمات الطبية ومستحضرات التجميل وخلال عام واحد جمعت حوالي 100 مليون جنيه. وفجأة اختفت قبل أن يثور الضحايا ويتم القبض عليها.


كما تم القبض على الشقيقتين بدور، ورانيا، وهما من سيدات الأعمال في الإسكندرية الذين جمعوا ملايين الجنيهات من أجل توظيفها في تجارة المفروشات وإدارة المطاعم... ثم ادعتا تعرضهما للخسارة ورفضتا صرف أي أرباح أو رد المبالغ للضحايا وغالبيتهم من النساء. وقد تم القبض على واحدة منهما وجاري البحث عن الثانية.


وقبل ايام قليلة وفي ظل الحديث عن مطاردة مستريح أسوان كانت هناك قضية كبرى أخرى في مدينة الزقازيق بدلتا مصر بطلتها سيدة معروفة باسم بوسي وأحيانا ميرفت جمعت ملايين الجنيهات من أهالي مدينتها والقرى المحيطة بدعوى استثمارها في بيع الأجهزة الكهربائية بالقسط مقابل نسبة عالية من الأرباح، لكنها رفضت دفع أي أرباح أو رد الأموال لأصحابها ليتم القبض عليها.

ظاهرة عدم وضع الأموال في البنوك متجذرة في المجتمع المصري (غيتي)

المعالجات الأمنية لا تكفي
الدكتور عادل عامر رئيس مركز المصريين للدراسات الاقتصادية يرى أن ظاهرة المستريح لن تتوقف بالمعاجات الأمنية والقضائية فقط.. بدليل أن هذه العمليات موجودة ومستمرة منذ فترة طويلة تتعدى الأربعين عاماً.


ورغم تكرارها وصدور أحكام كثيرة في قضاياها إلا أنها لا زالت موجودة ومنتشرة حتى أصبحت ظاهرة يصعب القضاء عليها..


لذلك يجب أن تتجه المعالجات الثقافية والاجتماعية.. بالإضافة إلى توعية البسطاء بكيفية استثمار أموالهم بشكل آمن يتفق مع ثقافة البعض الذي يرفض الاستثمار في البنوك.


أيضاً علينا الاتجاه لإنشاء شركات تطرح أسهما للاكتتاب على أن يكون لها جانب وطني كما حدث في مشروع قناة السويس الجديدة لأن أموال الاستثمار في شركات توظيف الأموال مبالغ كبيرة وضخمة ويكفي أن تعرف أن حجم الأموال التي استولى عليها النصابون المستريحون في الثماني سنوات الأخيرة تزيد على مليار جنيه.


المستشار الاقتصادى وائل النحاس خبير أسواق المال يرى أن توظيف الأموال تحول إلى وسيلة للنصب والاستيلاء على الأموال التائهة في أسواق الاستثمار.. كل فترة نجد أشكالاً متنوعة لجذب هذه الأموال.. تتجدد حسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية.. ولكل فترة رجالها وأساليبها.
ولجذب هذه الأموال وحماية صغار المستثمرين المودعين علينا إنشاء شركات متخصصة في إدارة الثروات تضمن الحفاظ على أموال صغار المستثمرين ونجاح إدارة هذه الأصول خاصة أن هناك الكثير من الناس لا يعرف كيفية إدارة أمواله.


وعن الحل، قال: يجب زيادة عائد فوائد البنوك، وإنشاء شركات استثمارية يمولها الأهالى.. وقد رأينا نجاحاً لهذه الفكرة عندما تهافت المصريون لإيداع أموالهم بالبنوك لتمويل إنشاء قناة السويس الجديدة لارتفاع فوائدها.

لا تخدعكم الأرباح
يرى اللواء أمين عز الدين مساعد وزير الداخلية لأمن الإسكندرية الأسبق في حديث لـ «المجلة» أن الطمع هو العامل الرئيسي لوقوع البسطاء.. بل منهم المثقفون وأصحاب المراكز الاجتماعية.. بالإضافة للعائدين من الخارج من العمال والمدرسين.
وأوضح أيضاً أنه رغم النشر عن وقائع النصب المتعددة التى يتعرض لها مثل هؤلاء... إلا أن الكثيرين يسعون وراء هؤلاء النصابين ويسلمونهم أموالهم.. وهنا نرى أن البنوك يجب عليها استقطاب هؤلاء المودعين بزيادة الفوائد المقدمة لهم.


وأشار إلى أن بلاغات ومحاضر الضحايا غالباً ما تنتهي إلى قضية ولا يستطيع الكثير منهم استرداد أموالهم.. أما الجناة فيتم ضبطهم وعرضهم على النيابة التي تتولى التحقيق وتقديم المتهم إلى المحاكمة بعد وصف القضية وقيدها إن كان نصب أو توظيف أموال.


وعن أساليب النصابين للإيقاع بالضحايا فهي عبارة عن واجهة لشركة وهمية أو تجارة زائفة لتكون ستاراً لخداع الضحايا.. في البداية يدفع الأرباح.. وتكون من أموال مودعين آخرين.. وعندما يفشل في جذب ضحايا جدد من سداد أرباح المودعين.. ينكشف أمره فيهرب بأموال المودعين.
أما اللواء طارق حسونة مساعد وزير الداخلية لأمن الغربية الأسبق فيرى أن من أهم وسائل الاحتيال والخداع التى يلجأ إليها النصاب هي الالتزام في بداية نشاطه بسداد الأرباح.. ليضمن أن المودعين لديه من هؤلاء يصبحون خير دعاية له ليجندهم للترويج لنشاطه.. بالإضافة إلى الفوائد الكبيرة التي يقدمها لهؤلاء.. خاصة أنه يدفع لهم من أموال المودعين الجدد.


وأشار إلى أن البسطاء يتجهون إلى الاستثمار في هذه الشركات الوهمية لوجود شبهة في أموالهم.. وفي ظل الإجراءات البنكية للاستعلام عن المبالغ المودعة لديهم فيضطر هؤلاء لإيداع أموالهم لدى المستريح لتوظيفها وبربحية أكبر.


ويرى اللواء طارق حسونة أن العقوبة موجودة لكن الوعي غائب.. والقوانين المعمول بها في قضايا توظيف الأموال تعد رادعة ولا تحتاج إلى التغليظ.. حيث إن العقوبة فيها تصل إلى السجن 15 عاماً.. وعلى وسائل الإعلام أن تسعى لنشر الوعي ومخاطر الاستثمار لدى هذه الشركات الوهمية.. والمهم أيضاً أن يعرف الجميع أن البلاغات هي التي تكشف هؤلاء.. فيجب على الضحايا الإبلاغ فوراً عند تعرضهم لمثل هذه الوقائع.. ليس هم فقط بل إن سمعوا بمن يمارس نشاطاً مثل هذا.

العقوبة رادعة.. ولا تحتاج إلى تعديل

وعن الناحية القانونية يوضح الدكتور محمد بخيت المستشار القانوني لـ«المجلة» أن جريمة النصب تختلف عن جريمة توظيف الأموال. الأولى، تكون بالاستيلاء على المال بطرق غير مشروعة عن طريق إيهام الضحية بمشروع وهمي.. وعقوبتها الحبس ثلاث سنوات كحد أقصى. والثانية، جمع المال من الجمهور دون تعاقد قانوني لتوظيفها مقابل أرباح ثم يتم الامتناع عن صرف الأرباح أو رد الأموال وهو أمر يعاقب عليه بالسجن المشدد وإلزام المتهم برد الأموال.


وأضاف بخيت: «لا يجب الخلط بين تهمتي توظيف الأموال والنصب، يجب فحص ودراسة كل حالة على حدة قبل تحديد وصفها وقيدها قانونياً وهذا من صميم عمل النيابة».


في النهاية أشار إلى أن عقوبة جريمة توظيف الأموال رادعة ولا تحتاج إلى تغليظ، لأن الأهم هو التوعية قبل وقوع الناس في الفخ.
أما الدكتور فتحي قناوي أستاذ كشف الجريمة بالمركز القومي للبحوث الجنائية فيرى أن الطمع هو المحرك الرئيسي لضحايا هذه الجريمة التي يقودها النصاب... إنه يدرس ضحيته جيداً ويعرف نقاط ضعفه ويلعب عليها جيداً ليوقعه في شباكه. ويوضح: «النصاب لا يعمل وحده بل يقوم بتكوين شبكة عنكبوتية من المعارف والعلاقات المتعددة لإغراء الضحايا من البسطاء فضلاً عن الهالة التي يحيط بها نفسه للترويج لنفسه على أنه رجل ثقة ومستثمر ناجح».


وقال قناوي: «مشكلة هذه القضايا أن المعلومة تصل دائما للمختصين بعد وقت متأخر، الأشخاص الذين سقطوا في الفخ لا يتقدمون ببلاغات في كثير من الأحيان، على أمل أنهم قد يستطيعون استرداد أموالهم.. وعندما يفقدون الأمل أو يتزايد عدد الضحايا تبدأ البلاغات، لكن عندها يكون المستريح قد هرب بالثروة».

عقوبة جريمة توظيف الأموال رادعة ولا تحتاج إلى تغليظ

تكرار الظاهرة شيء يحتاج دراسة مجتمعية
يقول الدكتور أحمد عبد الله أستاذ علم النفس والاجتماع بجامعة الزقازيق: «توظيف الأموال ظاهرة موجودة ومتكررة... النصاب يبدأ ببث الثقة لأنها ركن الزاوية في مشروعه. من هنا يبدأ الدعوة لجلب المال وطرح إغراءات الأرباح المرتفعه على زبائنه. إنه يستغل ضعف النسب التي تمنحها البنوك الرسمية، فيتم الترويج للأوعية الادخارية الأهلية التي هي في النهاية وهم».


ويشرح الدكتور عبد الله سمات شخصية المستريح  متخصص قضايا توظيف الأموال ويقول: «إنه في الغالب يتمتع بشخصية جذابة تبدو عليه مظاهر الثراء ليؤكد لعملائه أن تجارته رابحة ولا يحتاج لأموال المودعين... كما أنه يجيد الكلام لاكتساب ثقة الناس عن طريق عرض مشاريعه الوهمية على أنها حقيقة قائمة، وتقديم صورة زائفة عن أرباح نشاطه».


أما الدكتورة هالة منصور أستاذة علم الاجتماع فتؤكد أن من يذهب بأمواله إلى المستريح ثلاث فئات، الأولى: أشخاص لا يؤمنون بفوائد البنوك لأسباب دينية ويبحثون عن طريق آخر لاستثمار أموالهم. والثانية: التي تتطلع لنسبة الفائدة الكبيرة بحثا عن الربح السريع وهي الفئة الأكثر جاذبية للنصابين. والثالثة: أناس لا تفضل أن يكون حسابها البنكى مكشوفاً للآخرين وتريد استثمار أموالها بعيداً عن الرقابة.


وعن طرق علاج هذه المشكلة قالت: «يجب اتخاذ عدة خطوات أولها، السماح لبيوت الخبرة الاقتصادية الأهلية بفرصة للمنافسة مع البنوك ووضع قوانين لضبط عمل هذه الكيانات، وتوافر الحماية اللازمة للمتعاملين مع هذه الكيانات.
 

font change