«الإرهاب الأشقر»... نظرية سامة وبندقية ومطاردة أشباح

نهاية خرافة وصم شعوب وثقافات بعينها

دوافع «الإرهاب المحلي» هو نوع من أيديولوجية تدعو إلى «تفوق البيض» (غيتي)

«الإرهاب الأشقر»... نظرية سامة وبندقية ومطاردة أشباح

القاهرة: خلال أقل من عشرة أيام كانت الولايات المتحدة الأميركية مسرح عدة عمليات إطلاق نار أسفرت عن قتلى وجرحى، في 12 أبريل (نيسان) أول الحوادث في محطة لقطارات الأنفاق بنيويورك، وفي 16 أبريل، أصيب عدة أشخاص في إطلاق نار بمجمع تجاري في كولومبيا بولاية ساوث كارولينا الأميركية، وفي 17 أبريل شهدت مدينة بيتسبرغ الأميركية حادث إطلاق نار، وفي 22 أبريل وقع إطلاق نار قرب مدرسة بواشنطن العاصمة. الرئيس الأميركي وصف ما حدث بـ«الإرهاب المحلي»، وأضاف أن «أي عمل إرهابي محلي، وضمن ذلك أي عمل يرتكب باسم آيديولوجيا قومية بيضاء بغيضة، يتعارض مع كل ما ندافع عنه في أميركا»، وشرَّع بايدن قيودًا على ما يسمى: «الأسلحة الشبح». لكن سهولة شراء الأسلحة في البلاد تشكَّل جانبًا واحدًا فقط من مشكلة معقدة تشهد تفاقمًا، ما يجعل من الموضوعي الحديث عن «فك الارتباط» الذي جرى ترويجه لعقدين كاملين بين الإرهاب وبين شعوب وثقافات معينة، فضلًا عن موضوعية ومشروعية الحديث عن «إرهاب أشقر»!

 

اليمين المتطرف في ألمانيا يشكل أخطارا إرهابية (رويترز)

 

كازينسكي المؤسِّس وبريفيك الـمُلهِم

كان العالم يتعثر في ذيول حرب باردة انتهت للتو عندما دارت ماكينة تنميط هائلة للعرب والمسلمين بوصفهم المصدر الرئيسي للمنخرطين في ظاهرة الإرهاب، وكانت اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) قمة هذا الترويج الدعائي لوجود ارتباط جغرافي/ ثقافي بين أمم بعينها وبين الظاهرة التي ازداد تأثيرها في العلاقات الدولية، وكان أحد الفصول الأكثر خطورة سعي البعض لتحميل دول بعينها وزر ما حدث في الواقعة التي بقيت بصماتها واضحة في خطاب وسلوك عديد من القوى الدولية لسنوات.

وكان التركيز على لون بشرة الإرهابيين وأصولهم يعني إهمال ظواهر إرهابية لا تقل خطورة وشراسة، لكنها توجه أصابع الاتهام إلى من اعتادوا تصنيف البشرية كلها وإصدار قرارات الاتهام وصكوك البراءة وتسييسها. وبحسب دانييل بنجامين الباحث في جامعة دارتموث، منسق جهود مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأميركية في الفترة من 2009 إلى 2012، فإن «إرهاب المؤمنين بتفوق العرق الأبيض لم يحظَ بالاهتمام الذي يحظى به الإرهاب الإسلامي». وقد أضاف دانييل: «حوّل مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الأمن الداخلي الأميركية، انتباههما إلى تهديد الجهاديين وتركا خطر جماعات تفوق البيض». ووفقاً لتقرير صادر عن مركز ستيمسون في واشنطن، أنفقت الولايات المتحدة 2.8 تريليون دولار بين عامي 2002 و2017 من أجل مكافحة الإرهاب.

وكانت الواقعة الأكبر حجمًا والأوقع تأثيرًا في مسار «الإرهاب الأشقر»، قصة الأكاديمي الأميركي الذي لُقِّب بـ«مفجر الطائرات والجامعات». وقد تصدرت صورته غلاف عدد أبريل 1996 من مجلة «التايم»، وهو تيد كازينسكي، وكان العنوان الذي اختارته المجلة لقصته: «ملحمة العبقري المجنون». كازينسكي كان أول الذئاب المنفردة، والتحق بجامعة هارفارد في سن الـ16، وحصل على الدكتوراه في الخامسة والعشرين وكان من المتوقع أن يصبح أهم علماء الرياضيات في عصره. وخلال ثمانية عشر عامًا نفذ العديد من العمليات الإرهابية لإنقاذ الأميركيين من «حضارة الصناعة». وفي عزلة تامة في حياة بدائية وضع كازينسكي أُسس فلسفته القائمة على مناهضة التكنولوجيا. ومنذ عام 1978، عندما وضع أول قنبلة يدوية الصنع في إحدى الجامعات وحتى القبض عليه، نفذ 16 تفجيراً منفصلاً، وكانت مطاردته الأطول، والأكثر تكلفةً، في تاريخ مكتب التحقيق الفيدرالي الأميركي. وقد انتهت الملهاة بأن نشر بيانًا من 35 ألف كلمة (نشرت ترجمته العربية في كتاب، الكويت، 2018)، وقد نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» تحت عنوان: «المجتمع الصناعي ومستقبله».

وفي العام 2011 كانت النرويج على موعد مع الهجوم الأكثر دموية في تاريخ البلاد بعد الحرب، وهو هجوم مزدوج نفذه يميني متطرف وأوقع 77 قتيلًا. ووقعت الجريمة على يد أنديرس بيرينغ بريفيك الذي تنكر في زي شرطي قام بهجوم مزدوج، وفي الذكرى العاشرة للجريمة قال أمين عام حلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، وكان رئيساً للوزراء حين وقوع المأساة، إن بريفيك واحد من أولئك «الذين يعتقدون أن لديهم الحق في القتل من أجل تحقيق أهدافهم السياسية... لا يهمّ إن كانوا من اليمين أو اليسار على المستوى السياسي، وسواء كانوا يعتبرون أنفسهم مسيحيين أم مسلمين»، وقد كانت تلك الكلمات أحد معالم التحول في الخطاب الغربي عن الإرهاب، وبخاصة لجهة الاعتراف بوجود «إرهاب أشقر»!

 

آيديوجيا الدم من نيوزيلندا إلى أميركا

ما فعله بريفيك في النرويج تحول مع مرور الزمن إلى نموذج ملهم. وأولى الجرائم التي كشفت التحقيقات أنها تستلهم ما فعله بريفيك كان الهجوم الدموي على مسجدي كرايست تشيرش في نيوزيلندا في العام 2019. وقد نبّهت الاستخبارات النرويجية في العام الماضي إلى أن «أفكار اليمين المتطرف التي كانت الدافع وراء الهجوم ما زالت تشكل قوة محركة لمتطرفي اليمين على المستويين الوطني والعالمي، وشكلت عاملًا مؤثرًا لشن هجمات إرهابية عدة خلال السنوات العشر الأخيرة». وكان من الوقائع التي تحمل نذيرًا لمدى انتشار هذه الأفكار تعرض نصب تكريمي لأول ضحية لجريمة قتل عنصرية ارتكبها النازيون الجدد عام 2001 (بنيامين هيرمانسن)، للتخريب مع كتابة عبارة: «بريفيك كان على حق».

الهجوم العنصري المسلح الذي أوقع عشرة قتلى من الأميركيين السود في مدينة بوفالو الأميركية، كان واقعة خطيرة على نحو خاص، وقد ندَّد به الرئيس الأميركي ووصفه بـ«الإرهاب المحلي»، واصفًا آيديولوجيا «تفوق البيض» بأنها «سم.. سُمح له بالتقيّح والنمو أمام أعيننا»، وفقاً لـ«واشنطن بوست». بايتون جندرون مطلق النار في بوفالو (18 عامًا) قاد سيارته من بلدته كونكلين على بعد أكثر من 320 كيلومترًا، وقبل ارتكاب الجريمة نشر وثيقة عنصرية من 180 صفحة تربطه، بدعاة تفوّق العرق الأبيض، وعرف القاتل نفسه بأنه فاشي وعنصري، ويؤمن بنظرية «الاستبدال العظيم»، ويروج لها متطرفون كثيرون في أميركا وأوروبا مدَّعين أن الغرب يشهد إحلالًا سكانيًا يحل فيه مسلمون وملونون محل ذوي البشرة البيضاء. وكما فعل تيد كازينسكي ترك منفذ هجوم لافلو نصًا من 180 صفحة قال فيه إنه «كان يهدف إلى إرهاب الأشخاص غير البيض وحملهم على مغادرة البلاد». وقد أشار في هذا النص إلى أنه استلهم أعمالًا عنصرية أخرى، كهجوم كرايس تشيرش بنيوزيلندا (2019)، وشاهد فيديو البث المباشر لإطلاق النار على المسجدين.

 

ما بعد التنظيمات

إحدى المشكلات التي تبدو مستعصية في مواجهة «الإرهاب الأشقر» حالة السيولة الكبيرة التي تتصف بها مدخلاته، فالأجهزة الأمنية التي أصبحت أكثر كفاءة في مواجهة التنظيمات (هرمية أو عنقودية) لكنها تواجه تحديًا أصعب بكثير في مواجهة شباب متطرفين يتشبعون بالدعايات العنصرية على وسائل التواصل الاجتماعي ويخططون لعنف فردي. «أسوشييتد برس» تقول إن منفذ هجوم بافلو «رجل أبيض غارق في مؤامرات مليئة بالكراهية عبر الإنترنت، ويستلهم من مذابح متطرفة أخرى»، وقد نفذ الاعتداء تقريبًا بعد عامين من بدء تلقيه «التلقين الراديكالي»، مما يكشف سرعة وسهولة حدوث اعتداءات قاتلة حيث لا حاجة إلى تدريب تكتيكي أو مساعدة تنظيمية. كريستوفر كوستا، المدير الأول السابق لمكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي في إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، يقول: «هذا هو السبب في أن الجميع قلقون للغاية، إذا كان لديك بندقية، فلن تحتاج إلى خطة كبيرة». وبحسب غندرون منفذ هجوم بافلو فإنه بحث على نطاق واسع عبر الإنترنت عن المذابح المشابهة التي ارتكبها يمينيون آخرون قبله. وهكذا برز «الإرهاب الأشقر» كمحور للعمل الأمني في أميركا. وكان الشبان البيض مسؤولين عن معظم الهجمات الأكثر دموية على الأراضي الأميركية في السنوات الخمس الماضية، وضمن ذلك إطلاق النار عام 2018 داخل كنيس يهودي في بيتسبرغ. وحذر تقرير علني لمجتمع الاستخبارات الأميركي العام الماضي من أن المتطرفين العنيفين بدافع المظالم السياسية والكراهية العنصرية يشكلون تهديدًا «مرتفعًا» في البلاد. وقُدِّم للمحاكمة في السنوات الأخيرة كثير من أعضاء جماعات تفوق العرق الأبيض والنازيين الجدد، وقد تبنت هذه المنظمات فلسفة تعرف باسم «التسارع»، وتدعو للعنف الجماعي لتأجيج انهيار المجتمع، أو إشعال حرب عرقية، أو الإطاحة بالحكومة الأميركية. وفي 2020 اتهمت وزارة العدل أربعة منهم في سياتل بالاشتراك في حملة لترهيب الصحافيين بملصقات تهديد على منازلهم.

 

وقفة احتجاجية خارج البيت الأبيض بعد مقتل امرأة من قبل جماعات «تفوق البيض» في شارلوتسفيل بولاية فرجينيا عام 2019 (غيتي)

 

أرقام كاشفة واتهام صادم

رغم حقيقة أن النسبة الأكبر من جرائم «الإرهاب الأشقر» يرتكبها «ذئاب منفردة» فإن إحصاءات تشير إلى أن الظاهرة- في المحصلة- كبيرة الحجم، من المؤشرات المهمة أن حوالي 60 في المائة من عمليات القتل التي ارتكبها متطرفون في الولايات المتحدة بين عامي 2009 و2019 وقعت على يد معتنقي آيديولوجيات تفوق البيض. ووفقًا لهادي بيريتش، المؤسس المشارك للمشروع العالمي ضد الكراهية والتطرف فإن «التفوق الأبيض هو التهديد الإرهابي المحلي الأول في الولايات المتحدة»، والتقييمات ودراسات إنفاذ القانون الفيدرالية التي أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو مركز أبحاث مقره واشنطن، تظهر أن المخططات والهجمات اليمينية المتطرفة قد «تتزايد باطراد» خلال سنوات، وخطر التطرف في العالم الغربي تحوَّل من المتطرفين الإسلاميين إلى المتطرفين العنصريين ذوي الدوافع الآيديولوجية. وبحسب استطلاع شمل 4173 من البالغين الأميركيين، فإن حوالي 1 من كل 3 أميركيين وافق على أن «هناك مجموعة من الناس في هذا البلد يحاولون استبدال الأميركيين المولودين في البلاد بالمهاجرين الذين يتفقون مع آرائهم السياسية»، وقال حوالي 1 من كل 7 أميركيين إنهم يوافقون على ذلك «بشدة»!

صحيفة «بوسطن غلوب» (18 مايو/ أيار 2022) نشرت مقالًا للكاتبة نيا. ت. إيفانز يحوي اتهامات خطيرة للشرطة الأميركية بالتورط في القضية، بسبب اختراقات مؤثرة لمعتنقي آيديولوجيا «تفوق البيض». أحد الأسباب الرئيسية للمشكلة أن إسناد المهمة للشرطة يشبه «صب البنزين على نار مشتعلة»، فالحقيقة أن «ضباط الشرطة عادة لا يواجهون أو يمنعون عنف القوميين البيض». وأحد أقوى العوامل الدافعة لهذا العنف المؤدلج تعاطف المكلفين بإنفاذ القانون، فكثيرًا ما تسهل الشرطة مثل هذا العنف، بل إن مكتب التحقيقات الفيدرالي، بتاريخه الحافل بالعنف والعنصرية والوحشية، أُجبر على الاعتراف بذلك. وفي عام 2006، أعربت مذكرة داخلية لمكتب التحقيقات الفيدرالي عن مخاوفها بشأن: «تسلل تفوق العرق الأبيض إلى سلطات إنفاذ القانون»، و«موظفي إنفاذ القانون المتعاطفين مع قضايا تفوق البيض». وبحلول عام 2015، كشفت تحقيقات الإرهاب المحلية لمكتب التحقيقات الفيدرالي عن العديد من «الروابط النشطة» بين الطرفين. ورغم الخطورة الواضحة لهذا الاتجاه، لم تظهر أي استراتيجية وطنية لتحديد ضباط الشرطة المتعصبين للبيض. والنتيجة أن هذه الروابط تزداد في الظلام. وقد أصبح الحجم الهائل لعلاقة سلطات إنفاذ القانون والجماعات القومية البيضاء أكثر وضوحًا خلال صيف عام 2020. وقد أصدر مركز برينان للعدالة في كلية الحقوق بجامعة نيويورك تقريرًا يعرض بالتفصيل أكثر من عقدين من الاتصالات بين سلطات تطبيق القانون الأميركية والجماعات العنصرية المتشددة. وكشف التقرير صلات بين الطرفين في أكثر من اثنتي عشرة ولاية. وقد قال المفكرون السياسيون السود، وبخاصة: روث ويلسون جيلمور، ومريم كابا، وديريكا بورنيل، منذ فترة طويلة، إن الشرطة تدير غياب المساواة. وإن العمل الشرطي بحد ذاته هو دفاع عن ذوي البشرة البيضاء!

font change


مقالات ذات صلة