التجربة السعودية نحو «تصفير التسول».. معالجة الظاهرة من جذورها

توعية المواطنين والمقيمين حول العمل الخيري المؤسسي

ساهم نظام مكافحة التسول في الحد من هذه ظاهرة

التجربة السعودية نحو «تصفير التسول».. معالجة الظاهرة من جذورها

جدة: بعد عودة زميلين، أحدهما سعودي والآخر لبناني، مؤخراً من نيويورك، اشتكى كل منهما من ظاهرة تفشي المشردين في قلب الحي المالي في جادة وول ستريت. من هؤلاء من يطلب المال أو الطعام، ومنهم من ينتظر الإحسان دون طلبه، وآخرون يسكنون في الشارع لوضع مؤقت؛ كخسارة العمل أو رهن المنزل!

ليس في السعودية ظاهرة مشردين، يعيشون في الشارع، ليل نهار، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، لكن هناك ظاهرة أخرى، عانت السعودية منها لعقود، وسعت بكل قوة للتخلص منها باتجاه تصفيرها.

«إنهم أشخاص محترفون، وليسوا عفويين أو تلقائيين؛ اضطرتهم الظروف مثل نفاد المال أو ضيق العيش، إلى طلب المال. المسألة بالنسبة لهم، مهنة يعتاشون منها، ليست مسألة حاجة أو نقص في الغذاء، فالمملكة من كبار المانحين العالميين للمساعدات الخارجية، وبخاصة الغذاء، وليس من مشردين ينامون في الشوارع!»، يقول السيد صالح محمد (كما عرف عن نفسه بالعم صالح، الذي انخرط في وقت سابق في أعمال الإغاثة ونجدة الملهوفين)، وذلك في حديث سريع حول التسول لدى الخروج من أحد مراكز للتسوق في جدة (غربي السعودية).

ويضيف: «إنه التسول. آفة الكسب دون مجهود أو بمجهود. التعاطف مع المتسولين يشجع على المزيد من التسول. المتسولون سلالات، منهم منظمون في عصابات، يعملون بما يشبه الدوام الرسمي في أسلوب شبيه بالعصابات، وهناك من يعملون بمبادرة ذاتية، وآخرون يتخذون التسول ستاراً للدعارة والمخدرات. قد يذهلك حجم ما يكسبونه!».

وفي أواخر عام 2021، خطت السعودية خطوة مهمة بإصدار «نظام مكافحة التسول» الذي اكتسب قوة الموافقة الملكية، وتكليف نائب رئيس مجلس الوزراء والوزراء ورؤساء الأجهزة المعنية، بمتابعة التنفيذ وتحقيق النتائج.

وبالفعل، لم تمض عدة أشهر حتى تكاد تخلو الشوارع من المتسولين، وصولاً إلى ما يشبه تصفير هذه الظاهرة المسيئة. نستكشف في السطور التالية التعريف الحقيقي للتسول وامتهانه، إلى جانب استعراض أساليب معالجة الظاهرة من جذورها، وكذلك حشد جهود العمل التطوعي والخيري، وإدخال التسول في السياقات التشريعية والأمنية السعودية؛ بوصفه داءً اجتماعياً ذا صبغة اقتصادية.

 

تحدي التسول الرقمي

 

نضع التسول في الإطار الصحيح، ومعناه الحقيقي بالتعريف الشامل الوارد في نظام مكافحة التسول، الذي يصف الفاعل (المتسول) بأنه: «من يستجدي للحصول على مال غيره؛ دون مقابل أو بمقابل غير مقصود بذاته نقدا أو عيناً، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في الأماكن العامة أو المحال الخاصة أو في وسائل التقنية والتواصل الحديثة أو بأي وسيلة كانت».

تلحظ النسخة الأخيرة من نظام مكافحة التسول، التحولات في أساليب التسول، مما يضاعف الجهد الأمني والاجتماعي في ملاحقة المرتكبين. فالأمر لم يعد محصوراً في أشخاص، يقفون عند إشارات المرور في خلسة من عين القانون، وإبراز تقرير طبي وحمل طفل مريض نائم على الأكتاف، من أجل استعطاف ركاب السيارات ببضع ريالات

لقد اقتحم المتسولون الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) وطوروا أساليب «الاستعطاف الرقمي» عبر نشر فواتير متراكمة أو تقارير صحية مجهولة. لذا، يساوي النظام الحديث بين المتسول الرقمي، الذي يتسلل عبر تعليقات منصة «تويتر»، وشخص يتخذ مواقع معينة عند أجهزة الصراف الآلي أو مخارج الأسواق للتسول. هذه النقطة بالذات، تدخل في صلب مكافحة التسول مع هجرة جزء من المتسولين من الشوارع نحو المنصات الاجتماعية، الأمر الذي يعني ملاحقة التسول على المنصة الرقمية.

لن يقدم المتسول الرقمي خدمة أو سلعة وهمية مثل المحتالين المحترفين، بل إنه سيعرض حالة إنسانية، يستجدي بها النخوة. يجد هؤلاء من يحول لهم المال عبر القنوات الإلكترونية، تحت الإلحاح والاستعطاف الشديد وإبراز الجانب الروحي للعطاء!

يمكن فقط الإشارة أو ذكر معرف المنصات الاجتماعية «كلنا أمن»، للمساعدة في الملاحقة الجنائية بحق المتسولين الرقميين.

 

منصة «إحسان» من أبرز المنصات الإلكترونية التي أطلقتها الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي والتي تُساهم في زيادة عمليات جمع التبرع بطريقة آمنة وسريعة

 

تداخلات جرمية للتسول

 

يصبح المتسول ممتهناً عندما يتم القبض عليه للمرة الثانية أو أكثر يمارس التسول، وذلك بحسب النظام. يوضح العم أنه «حتى السنوات القريبة الماضية، كانت هناك عصابات منظمة، تستغل الأطفال والنساء، لكن الأبشع هو التسبب عن عمد بعاهة مقصودة للأطفال خاصة، حتى يكون الابتزاز العاطفي أكثر تأثيراً»، مؤكداً صحة ما ورد في الفيلم المصري «المتسول» (1983) للفنان عادل إمام حول تشويه الأطفال للوصول إلى استعطاف أكبر.

يقول رائد، وهو مواطن سعودي من سكان أحد أحياء جدة القديمة: «قبل سنوات، كنت أوصل أختي إلى مدرستها صباح كل يوم، ولاحظت عدة مرات حافلة يخرج منها أطفال ونساء بثياب رثة، ثم ينتشرون في مواقع محددة كإشارات المرور. من بين الأطفال من هو معاق أو نائم على كتف أمه، وربما لا تكون أمه!».

ويضيف: «كنت أعود من عملي متأخراً أحياناً، في وقت محدد بعد السادسة، وألحظ أن الحافلة نفسها، تقل الأشخاص الذين أوصلتهم في الصباح. لقد كان المنظر مريباً. هل هم موظفون بدوام كامل؟ عرفت بعدها أن الأجهزة المعنية كانت تراقبهم واتخذت الإجراءات اللازمة. لقد كانت عصابة منظمة، تستقطب الأطفال وتشغلهم في هذا المستنقع».

وبالفعل، قد يٌستغل امتهان التسول في تداول الممنوعات أو خطف الأطفال أو حتى الدعارة، هذا إلى جانب تداعيات أخرى كالتسرب من التعليم والدخول إلى عالم الجريمة.

يوضح العم صالح، الذي كان إيجابياً وصريحاً في التعاطي مع التساؤلات حول الأشكال المخيفة من التسول، وذلك بالقول: «هناك من يحقن الأطفال بمواد مخدرة من أجل أن يناموا طوال يوم التسول ويظهروا بحالة صحية متدهورة. هناك جانب إجرامي للتسول أحياناً، يتجاوز مفهوم الاستجداء. هناك متسولون انتقاميون، قد يخرش طلاء سيارتك بقطعة معدنية، إذا لم يحصل على ما يريد من المال، وهذه بداية طريق السرقة والسلب تحت الإكراه».

 

من هم المتسولون في السعودية؟

 

لم تعد عقلية التعاطي مع الأمور في السعودية الجديدة تتحمل إخفاء الظواهر السلبية، وبخاصة إذا عرفنا أن التسول مهنة، وليس حالة عابرة.

يركز موقع وزارة الموارد البشرية والشؤون الاجتماعية السعودية عند الحديث عن إدارة مكافحة التسول بأن هدفها تحقيق أسس التوجيه والإصلاح للمتسولين مع توجيه ذوي العاهات والعجزة والمرضى إلى دور الرعاية والمستشفيات؛ دون مقابل مع صرف مساعدة من الضمان الاجتماعي. أما «النسبة العالية» من المتسولين، فهم من الأجانب (بحسب الوزارة)، فيما تتابع الإدارة حالاتهم وتيسّر إجراءات ترحيلهم إلى بلادهم. والسؤال هنا: من أين يأتي المتسولون؟

 يرتبط التسول في السعودية أكثر بمخالفي أنظمة الإقامة من مستغلي تأشيرات الحج والعمرة والزيارة؛ للبقاء في البلاد بعد انتهاء تأشيراتهم أو ممارسة التسول خلال فترة صلاحية التأشيرة حول الحرمين المكي والمدني، اللذين حظيا بتركيز عمل السلطات المحلية ضد التسول منذ وقت مبكر، فلا وجود للتسول حول الحرمين الشريفين من قبل الحجاج أو المعتمرين المخالفين. وهناك متسولون من المتسللين إلى المملكة.

قبل نحو عام ونصف العام تقريباً، دار حوار سريع عند إحدى إشارات المرور مع طفل متسول من جنسية عربية، حيث قال إنه أتى من بلاده مشياً على الأقدام ليعيل أسرته بضغط من أبيه. قد تكون هذه القصة نصف الحقيقة أو مختلقة، إذ كيف يحول طفل عمره 12 عاماً المال إلى بلاده مالم يكن هناك متواطئون ومسهلون لذلك، سواء في حفظ الأموال أو إرسالها. وهنا يختلط التسول مع أفعال جرمية أخرى.

 

وطن بلا مخالف

 

قبل نحو 5 أعوام، أطلقت وزارة الداخلية حملة «وطن بلا مخالف» لتعقب الأشخاص المخالفين لأنظمة الإقامة؛ ليصححوا أوضاعهم أو مغادرة البلاد. لقد ساهمت هذه الحملة، التي انطلقت في طول السعودية وعرضها، بالتخفيف من أحد أسباب التسول: وجود أشخاص مخالفين لأنظمة الإقامة والزيارة والحج والعمرة والسياحة. صحيح أن الحملة لم تصمم بغرض مكافحة التسول بحد ذاتها، لكنها تقضي على أهم أسبابها.

ويقول العم صالح إن «أعمال إعادة الهيكلة العقارية لمدينة جدة، على سبيل المثال، والتي تضمنت إزالة أحياء عشوائية، يساهم في حرمان عصابات التسول من ملاذها الآمن في تلك الأحياء».

إن النفاذ إلى الأسباب ومعالجة المسألة من جذورها، وتضييق الخناق على «محفزات» التسول والحزم في تطبيق الأنظمة، يساهم في تصفير التسول.

كما أتاحت المملكة سلسلة من المنصات الرقمية مثل المنصة الوطنية للتبرعات وغيرها من المنصات الحكومية والخيرية، لجميع المواطنين والمقيمين للتبرع بشكل نظامي إذا كانوا يرغبون في عمل الخير.

ولكن العنصر الأهم في تلك المسألة، هو وعي المواطنين والمقيمين، بعدم التعاطف مع المتسولين والتوجه نحو العمل الخيري المؤسسي، الذي يضمن وصول الصدقات والتبرعات والزكاة إلى مستحقيها الحقيقيين.

 

مشاهدات مشجعة

 

قبل بضعة أشهر، بدأت إدارة مكافحة التسول بالنزول إلى الشوارع، وتصوير المتسولين الذين يتذرعون بالتقارير الطبية وكشف زيفها أمام العامة. لقد أدركت السلطات أن التوعية هي السلاح الأوحد في مكافحة التسول، فلا وجود للتسول دون متسولين ومتعاطفين يدفعون لهم ليستمروا.

وبالفعل، تكاد الشوارع السعودية تخلو من وجود المتسولين، ولا مقارنة بين الوضع الحالي وما كان عليه الأمر قبل سنوات. قد يكون هناك من يحاول التسول بين فترة وأخرى، لكن الوجهة الحالية تقودنا نحو «تصفير التسول».

 

font change

مقالات ذات صلة