الإنجليزية في الجزائر... هل تزيح الفرنسية عن عرشها؟

جهود حكومية ومطالب شعبية لدعم حضورها

نحو عشرة ملايين تلميذ في مراحل التعليم المختلفة في الجزائر

الإنجليزية في الجزائر... هل تزيح الفرنسية عن عرشها؟

الجزائر:  مثلما كان متوقعاً، أحيا قرار السلطات الجزائرية اعتماد اللغة الانجليزية للدراسة في المراحل الابتدائية أو الإعدادية، بداية من العام الدراسي القادم، جدل الصراع اللغوي في البلاد، بين من رحب بالقرار ومن اعتبره أكثر من ضرورة لإزاحة سيطرة لغة المستعمر (اللغة الفرنسية) على المدرسة الجزائرية وعلى لسان الجزائريين لنحو ستة عقود من الزمن، وبين مشكك في قدرة وزارة التربية على تطبيق القرار لعدة اعتبارات بيداغوجية وبشرية، مع بروز مخاوف من تكرار فشل تجارب سابقة مماثلة.


يأتي هذا الجدل والنقاش الذي يعكس صراعاً لغوياً محتدماً بين الجزائريين، استمر منذ استقلال البلاد عام 1962، وإلى اليوم، حيث ظلت اللغة الفرنسية تسيطر على لسان الجزائريين، بعد أن أمر الرئيس عبد المجيد تبون خلال ترؤسه قبل أسبوعين اجتماعاً لمجلس الوزراء باعتماد اللغة الإنجليزية في التعليم الابتدائي، بعد دراسة عميقة من طرف الخبراء والمختصين، حسب ما نقله بيان لرئاسة الجمهورية عقب الاجتماع الوزاري.
تسجل المدارس الجزائرية أكثر من عشرة ملايين تلميذ في المراحل التعليمية الثلاث، منهم ستة ملايين في من السنة الأولى إلى غاية الخامسة، يدرسون اللغة الفرنسية كلغة أجنبية وحيدة بعد العام الثالث.

المناهج المدرسية ولغتها نقاش محتدم لا ينتهي بالجزائر


ولم يقدم بيان مجلس الوزراء أية تفاصيل إضافية بشأن الآليات والإمكانيات البشرية والبيداغوجية التي تم وضعها لإنجاح هذا القرار، خاصة وأن بعض المختصين يؤكدون أن القرار يحتاج إلى توظيف نحو 15 ألف أستاذ متخصص في اللغة الإنجليزية، وهو عدد كبير يحتاج اعتمادات مالية ضخمة.

سلسلة من القرارات السابقة
وفي الواقع فإن هذه الخطوة ليست وليدة اليوم، فالسلطات الجزائرية وخلال الأعوام الأخيرة، بثت وأرسلت العديد من الرسائل في مناسبات عدة، تكشف رغبتها ونيتها في وضع حد لهيمنة اللغة الفرنسية لمدة تقارب 58 عاماً، وهي اللغة التي ينقسم بشأنها الجزائريون، بين من يراها (غنيمة حرب) وجبت الاستفادة منها، وبين من يعتبرها (غزوا ثقافياً) واستمراراً لمحاولة الهيمنة الفرنسية على عقول الجزائريين.


ومن تلك الخطوات السابقة، كانت مصادقة مجلس الوزراء قبل أشهر برئاسة الرئيس عبد المجيد تبون على قرار فتح «المدرسة البريطانية» بالعاصمة الجزائر، مع إعطاء تعليمات صارمة للحكومة من أجل توفير كافة التسهيلات والضمانات التي تتيح نجاحها وتسهيل عملها. وقبل ذلك، أعلنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي عن مشروع بيداغوجي وأكاديمي لإصلاح الجامعة، قوامه ضرورة الانفتاح أكثر على اللغات الحية وبشكل خاص الإنجليزية، حيث كثف وزير التعليم العالي عبد الباقي بن زيان من لقاءاته التشاورية مع سفراء بريطانية وآيرلندا الشمالية لبحث فرص وطرق تعزيز الإنجليزية في الجامعة الجزائرية. وأكد الوزير في وقت سابق سعي مصالحه لأن تكون الجامعة الجزائرية قاطرة التنمية الاقتصادية عبر تعميم اللغة الإنجليزية، وفي الإطار تم الاتفاق على تسهيل تنقل الباحثين بين البلدين لتقاسم الخبرات والتجارب الميدانية وتطوير التعليم مع ضمان جودته.
وقبل ذلك بنحو أربع سنوات، وتحديداُ في عام 2015، سارعت وزارة الدفاع الجزائرية إلى استبدال لافتة مقرها بالجزائر العاصمة المكتوبة باللغة الفرنسية، ووضعت مكانها أخرى مكتوبة باللغة الإنجليزية والعربية، وهي الخطوة التي اعتبرها البعض مفاجئة وبمثابة إعلان رسمي لهذه المؤسسة السيادية قطيعتها مع الفرنسية. وفي عام 2018 قامت مؤسسة بريد الجزائر الحكومية بإلغاء استعمال اللغة الفرنسية في جميع وثائقها الرسمية واستخدمت اللغة العربية.

الرئيس تبون وجه بضرورة تدعيم حضور الإنجليزية في المدرسة


وأظهرت نتائج استفتاء إلكتروني، أطلقته العام الماضي وزارة التعليم العالي، حول استبدال لغة التدريس والمناهج من اللغة الفرنسية إلى اللغة الإنجليزية، عن رغبة 80 في المائة من طلبة الجامعة اعتماد اللغة الإنجليزية بدل الفرنسية، كما أطلقت الحكومة قناة تلفزيونية تعليمية جديدة، وحددت ثلاث لغات فقط لتدريس الطلاب وهي العربية والإنجليزية والصينية، كما أعلنت عن إلغاء مادة الفرنسية من امتحانات الترقية المهنية لأول مرة منذ استقلال البلاد.

زوال اللغة الفرنسية
يربط مختصون التوجه الجزائري الرسمي الجديد تجاه اللغة الفرنسية، مع البرنامج الانتخابي للرئيس عبد المجيد تبون، حيث تعهد بأن يجعل اللغة الإنجليزية اللغة الثانية في البلاد بعد العربية، وكشفت دراسة للمجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر عن احتمال زوال اللغة الفرنسية نهائيا من الجزائر بحلول عام 2050، وتوقعت الدراسة أن تصبح الإنجليزية اللغة الأجنبية الأولى في الجزائر عام 2050، تليها الإسبانية والروسية، مع عودة تصدر اللغة العربية في البلاد.


وعلى مدار السنوات الأخيرة، لطالما كان مطلب التخلي عن الفرنسية، واعتماد اللغة الإنجليزية المطلب الأساسي للجزائريين، الذين ينتقدون بشدة استمرار هيمنة لغة موليير على المدرسة وعلى الخطابات الرسمية للمسؤولين الجزائريين، وبرز هذا المطلب بشدة مع بداية الحراك الشعبي يوم 22 فبراير (شباط) 2019، حيث رفع الجزائريون مطلب التحرر اللغوي من لغة المستعمر، جنباً إلى جنب مع مطالب الإصلاح السياسي العميق، ولطالما كان الجزائريون على قناعة تامة بأن الإصلاح السياسي العميق لن يكون إلا بالتحرر من الهيمنة الفرنسية على المشهد الداخلي، والذي تعد هيمنة اللغة الفرنسية الواجهة الأكبر له، والتعبير الأبرز لاستمرار الوصاية الفرنسية على البلاد.


وتُعد الجزائر ثاني أكبر بلد فرنكفوني بعد فرنسا، وذكر مرصد اللغة الفرنسية التابع للمنظمة الدولية للفرنكفونية في تقرير له منذ عامين، بأن عدد المتحدثين باللغة الفرنسية في العالم بلغ 300 مليون شخص، منهم 13 مليوناً و800 ألف جزائري، بمعنى أن ما نسبته 33 في المائة من الجزائريين يتحدثون ويستعملون اللغة الفرنسية في حياتهم اليومية.

اللغات الأجنبية وجه لصراع اجتماعي محتدم

قرار متأخر
القرار، ومثلما كان متوقعاً، أثار نقاشاً واسعاً بين الجزائريين، بين مؤيد ومتحفظ، وفي السياق يعتقد الكاتب والباحث في مجال المناهج التعليمية مسعود عمارنة أن «إقرار تدريس مادة اللغة الإنجليزية في الابتدائية قرار مرحب به وهو مطلب الأولياء ورجال ونساء التربية والنقابات، ولو أنه تأخر كثيرا بكل أسف»، وعبر عن تخوفه ممن سماهم «وكلاء فرنسا» وهم المكلفون دوما على حد تعبيره «بمهمة وما زالوا يعضون بالنواجذ على اللغة الفرنسية بالرغم من أنها لغة ميتة لا تستعمل في العالم إلا بنسبة تتراوح بين 2 و3 في المائة فقط».


وحسب حديث عمارنة لـ«المجلة» فإن «التجارب السابقة المجهضة للمشروع تجعلنا لا نطمئن، والبداية كانت بتولي الدكتور علي بن محمد الشخصية الوطنية التربوية وزارة التربية الوطنية سنة 1990 حيث أحدث نقلة نوعية في القطاع، وقد اتخذ آنذاك في مجلس الوزراء قرارا يقضي بإدخال اللغة الإنجليزية في مرحلة التعليم الابتدائي إلى جانب اللغة الفرنسية، فتصدى بشدة لهذا المشروع التيار الفرنكفوني في الجزائر، وتم وأده في المهد بعد تجربة ناجحة على الأقسام النموذجية، إذ برهن فيه أبناؤنا التلاميذ تفوقهم بجدارة ونجاح التجربة، ومن أجل إفشال المشروع تقرر إخراجه من الباب الضيق، ولذا كيدت له مؤامرة تسريب أسئلة شهادة البكالوريا على نطاق واسع سنة 1992 فأجبر على الرحيل».


ويواصل عمارنة سرد كرنولوجيا إجهاض الإنجليزية ببلاده بالقول: «بعد عام من تولي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وتحديدا في 13 مايو (أيار) 2000 وبناء على المرسوم الرئاسي رقم 101/2000 المتضمن إحداث اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية نصب اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية التي ترأسها رئيس جامعة باب الزوار للعلوم والتكنولوجيا الدكتور علي بن زاغو والتي كانت من أهم توصياتها إدراج اللغة الإنجليزية في التعليم الابتدائي، وتم مرة أخرى إجهاض المشروع ولم يجسد على أرضية الميدان وطوي الملف نهائيا».


من خلال هذه التجارب يقول عمارنة: «أصبحنا لا نطمئن لأن وكلاء فرنسا كانوا نافذين بقوة في دواليب السلطة، وأملنا أن يكون الوضع قد تغير، فكل الدول أصبحت تنظر إلى القضية نظرة نفعية أي برغماتية، حتى دول أدغال أفريقيا بدأت تتخلى عن اللغة الفرنسية لعدم مواكبتها للتطور العلمي والتكنولوجي، بل وحتى فرنسا نفسها فرضت تدريس اللغة الإنجليزية في مدارسها في السنة الثانية من التعليم الابتدائي ومنذ سنوات، وحتى منشورات معهد باستور ذي السيادة تصدر باللغة الإنجليزية إلا نحن في الجزائر ما زلنا متشبثين باللغة الفرنسية وكأننا فرنسيون أكثر من فرنسا».


وبرأي عمارنة فإن «اللغة الفرنسية لا يمكنها أبدا منافسة اللغة الإنجليزية، ولذلك تسعى فرنسا ووكلاؤها من أجل إبقاء الجزائر ودول المغرب بالخصوص أي مستعمراتها ضمن حظيرتها، مما يستوجب البدء في عمليات التحضير لتجسيد العملية من خلال فتح ورشات عمل لأهل الاختصاص وتكوين الأساتذة المتخرجين من الجامعات وتحضير برنامج للأقسام النموذجية التي نأمل انطلاقتها في الدخول المدرسي كتجربة أولية إلى حين تعميم العملية خلال السنة الدراسية 2023- 2024 مع ضرورة إيلاء العملية اهتماما بالغاً، وإسنادها للمؤمنين بالمشروع وإلا ستكون العملية عكسية».
ومن أجل إنجاح العملية يستوجب برأي عمارنة «الابتعاد عن الارتجال والتسرع والعمل في السرية والغرف المظلمة، ووجوب إسناد الأمر لأهله مع تحديد أجندة زمنية لتجسيد المشروع في الميدان، والعمل الحثيث مع المختصين لإعداد البرامج والكتب المدرسية التي يجب أن تكون جذابة وتراعي النمو العقلي لتلميذ هذه المرحلة، وتعد من قبل مؤلفين أكفاء وطنيين صادقين همهم الأساسي إنجاح التجربة، لأن ترك الأمر دون تحديد أجندة زمنية سيبقي الأمر على حاله ويطوي الملف كما طويت الملفات السابقة».

لا لاستبدال استعمار ثقافي بآخر
وتحت عنوان «لا يجب استبدال احتلال ثقافي لغوي بآخر»، يرى الباحث عز الدين قداري الإدريسي  أنه «من الواضح أن هناك رفضا واسعا في الجزائر للغة الفرنسية كثقافة، وخاصة الثقافة اللغوية، وهذا تنور جيد»، ولكن يجب برأيه «التفريق بين تعلم لغة أو جعلها ثقافة، تعلم أي لغة أيا كانت هو إيجابي وإيجابي جدا، لكن جعلها ثقافة يومية لك، واستعمالها في حياتك اليومية، فهذا استعمار ثقافي، تماما كما هو موجود في الجزائر، وبعض المستعمرات الفرنسية السابقة»، ويوضح رأيه عبر منشور في صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»: «بدأنا نرى نبرة لا تقل جهلا عن النبرة الأولى، حيث بدأنا نرى الكثيرين يقولون يجب أن تكون اللغة الإنجليزية بدل الفرنسية، أي استبدال استعمار ثقافي بآخر، أولا يجب معرفة أني مع استبدال الفرنسية بالإنجليزية في المنهج الدراسي، ولا شك في ذلك، فاللغة الفرنسية لغة ميتة، ولا تستعمل كثيرا في العالم، لكن لا يجب جعلها ثقافة بديلة للفرنسية وكأننا بلا هوية ولا لغة ولا ثقافة، إذ يجب أن تكون اللغة العربية هي الأساس».


الكاتب والخبير في علم الاجتماع السياسي ناصر جابي يؤكد أن «اللغة الفرنسية في الجزائر استمرت في احتكار القطاعات الإدارية والصناعية على حساب العربية التي ارتبطت بالأبعاد الدينية والآيديولوجية، تجسيدا للفكرة التي غرسها الاستعمار الفرنسي بين الجزائريين، وهي أن اللغة العربية لغة الدين والآخرة، والفرنسية لغة الخبز والحياة لتتغير الأمور مع الوقت، من دون أن يحل الإشكال كلياً، بل أضيفت له الإنجليزية كلغة، ستزيد في حدة الاستقطاب الاجتماعي والسياسي الذي تحولت بموجبه مسألة التحكم في اللغات الأجنبية إلى صراع طبقي حاد بين قوى اجتماعية تريد السيطرة على المنظومة التعليمية كوسيلة إعادة إنتاج ذاتي، ما يفسر المواقف المتشنجة بين هذه القوى الاجتماعية المتصارعة التي تستعمل كل الوسائل في الحرب المندلعة منذ عقود».

font change