«الاقتصاد الأسود» في السعودية

تبقى مسألة الاقتصاد الأسود هاجساً يؤرق كل اقتصادات العالم، المتخلفة والنامية والمتقدمة

«الاقتصاد الأسود» في السعودية



جدة: معتصم الفلو

* الاقتصاد الأسود هو مجموعة من النشاطات الاقتصادية غير الداخلة ضمن القيود الروتينية، لعدم مشروعيتها أو قانونيتها أو كليهما معاً.
* السعودية ليست من البلاد التي تتيح للمقيمين الشرعيين حرية المبادرة الفردية على نطاق المنشآت الصغيرة أو متناهية الصغر، إلا إذا كانوا مقيمين بصفة «مستثمرين».


من منا لم يشتر وردة أو عقداً من الياسمين من بائع جوال أثناء الانتظار على الإشارة المرورية بداعي التعاطف؟ ومن منا لم يستعن بخدمات عامل صيانة بتوصية من قريب أو صديق لإصلاح عطل منزلي أو طلاء غرفة ودفع الثمن نقداً؛ دون الاستعانة بخدمات المؤسسات المتخصصة؟ وهل مر عليك شهر دون أن تقرأ عن حملات مداهمة مروجي المخدرات وبحوزتهم مبالغ نقدية هائلة؟ وهل يعلم أحد شيئا أين تذهب أموال الدعارة أو القمار أو التهريب أو الرشاوى، إلا في نطاق التخمينات؟ وهل ينسى العالم لحظة القبض على إمبراطور المافيا الشهير آل كابوني بتهمة التهرب الضريبي؟
قد لا تبدو تلك الأمثلة مترابطة، فجزء منها عادي، يحصل كل يوم، شرعي ولا غبار عليه، ولكنه يعاني من إشكال قانوني يتعلق بتنظيم سوق العمل. أما الأمثلة الثلاثة الأخيرة، فإنها متعلقة بنشاطات غير شرعية وغير قانونية. وفي جميع الحالات، يجمع بين كل ما ذكر مفهوم الاقتصاد الأسود أو اقتصاد الظل أو الاقتصاد الخفي أو الاقتصاد الغاطس.

ما هو الاقتصاد الأسود؟


يتفاوت تعريف الاقتصاد الأسود بين دول العالم وفقاً للأنشطة الاقتصادية المتاحة، إلا أنه يشمل، بشكل عام، مجموعة من النشاطات الاقتصادية غير الداخلة ضمن القيود الروتينية المفروضة على ممارسة النشاطات الاقتصادية، إما لعدم مشروعيتها أو قانونيتها أو كليهما معاً.
وفي المحصلة، لا يتم حساب تلك الأنشطة ومداخيلها ضمن الدخل القومي للبلاد، إما لأنها لا تدخل في النظام المصرفي (أجور مودعة، مدفوعات معروفة، ودائع، إلخ) أو لأن أصحابها لا يكشفون عن مصادرها، وبالأصح يتقصدون إخفاءها.
ويدخل في ذلك، التهرب الضريبي وأموال الرشاوى والعمولات والإتاوات وسوء استخدام السلطة والدعارة والمخدرات والابتزاز والسرقات، وكذلك محاولات التهرب الضريبي. كما كشفت الحملة السعودية الأخيرة على الفساد جانباً كبيراً من الاقتصاد الأسود كما سيأتي التفصيل لاحقاً.
وهناك أمور تشكل نوعاً من الاقتصاد الأسود في دولة، ولكنها ليست كذلك في دولة أخرى. فمثلاً، تجارة الخمور مشروعة وقانونية في الغالبية العظمى من دول العالم، إلا أنها ممنوعة في السعودية والكويت وعمان وموريتانيا وأفغانستان. لذا، فإن المتاجرة بالخمور في تلك الدول وتوليد الأرباح منها، يعد أحد أشكال الاقتصاد الأسود كونها تتم في الخفاء!

بعيداً عن التهرب الضريبي


لم تبدأ عمليات تحصيل ضرائب القيمة المضافة، التي بدأ العمل بها مطلع العام الجاري، من الشركات والمؤسسات ومنافذ البيع. ولذا، لا يزال الحديث مبكراً عن وجود اقتصاد أسود، يرتبط بالتهرب الضريبي والتلاعب بالسجلات الضريبية، وهو أمر لا يمكن القول إنه لن يحصل، فهو موجود حتى في الاقتصادات الأكثر تقدماً. وفي جميع الأحوال، فإن توقعات مؤسسة النقد العربي السعودي حول الإيرادات المتوقعة لضريبة القيمة المضافة تحوم حول 10 مليارات دولار. فإذا كان هامش الفرق في الإيرادات كبيراً، فلا شك أن هناك تهرباً ضريبياً، وهكذا يجب الانتظار حتى نهاية العام لمعرفة الحصيلة النهائية للضريبة ومقارنتها مع التوقعات الحكومية، صاحبة الإحصاءات والسجلات المتعلقة بالأعمال التجارية.
إذن، يبتعد الحديث عن الاقتصاد الأسود في المملكة عن شق التهرب الضريبي إلى حين، ولن يجرؤ أحد على الإنكار أنه سيحصل، فهو أمر متكرر الحدوث في أكثر الاقتصادات تقدماً وشفافية.

التستر التجاري


تتخذ ممارسات الاقتصاد الأسود عدة أشكال، تجري بعيداً عن النظام الحكومي، سواء كانت شرعية أو غير شرعية. إلا أن هذا التبسيط لا يكفي، فالمسألة في السعودية أعقد من ذلك، إذ إن تحديد هوية - جنسية الشخص أمر أساسي في الحكم على الشخص إذا ما كان يمارس الاقتصاد الأسود من عدمه!
فليست السعودية من البلاد التي تتيح للمقيمين الشرعيين حرية المبادرة الفردية في ممارسة الأعمال على نطاق المنشآت الصغيرة أو متناهية الصغر، إلا إذا كانوا مقيمين بصفة «مستثمرين». فإنشاء السجلات التجارية والتملك العقاري وافتتاح الحسابات المصرفية حقوق حصرية للمواطنين السعوديين أو أصحاب رخص الاستثمار. ولذا، يلجأ بعض المقيمين إلى افتتاح أعمال، تكون ملكيتها الصورية لصاحب العمل المواطن، وفي الحقيقة تعود ملكيتها للمقيم، وهو ما يعرف بـ«التستر التجاري»، فيما يحظى المواطن بحصة من الأرباح، مقابل توفير المظلة القانونية للمنشأة؛ دون عمل حقيقي أو مساهمة في صنع القرار.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، كشف نائب محافظ الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة لتطوير المناطق والقطاعات موفق جمال أن حجم التستر التجاري يبلغ نحو 100 مليار ريال (26 مليار دولار)، فيما تذهب تقديرات إلى القول إن الحجم الحقيقي للتستر التجاري، يبلغ ضعف هذا الرقم.
معظم أموال التستر التجاري، يتم التعامل بها نقداً، ولا تدخل في المنظومة المصرفية السعودية إلا في نطاق ضيق. ورغم التضييق الحكومي على ممارسات التستر باتجاه تعزيز الشفافية وتنويع أساليب الحد من تداول النقود السائلة في الأسواق، تبقى هذه المسألة تحدياً كبيراً للأجهزة الحكومية المعنية.

أموال الفساد


أظهرت الحملة السعودية الأخيرة على الفساد، وهي الأكبر من نوعها في تاريخ المملكة، الحجم الهائل للاقتصاد الأسود في البلاد. وقد ظهر ذلك في حجم التسويات التي أعلن عنها النائب العام السعودي سعود المعجب أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي، والتي تجاوزت 400 مليار ريال (107 مليارات دولار)، تشكل ما يعادل 40 في المائة من ميزانية عام 2018. ومن المتوقع تحصيل أموال أخرى من باقي المحتجزين أو إحالتهم إلى القضاء في حال لم يتم الوصول إلى تسويات. مصدر أموال الفساد، التي تشكل جزءاً لا يستهان به من الاقتصاد الأسود في المملكة، هو إما استغلال النفوذ بسبب المواقع الحكومية البارزة التي كانوا يشغلونها عن طريق العمولات أو الامتيازات والاستثناءات، أو النفاد عبر ثغرات البنى التشريعية لتحقيق أرباح غير قانونية عبر أعمال تجارية وشراكات تشوبها الشوائب.
ما من شك أن حملة الفساد الأخيرة تمثل قمة جبل الجليد، وأن هناك فساداً في المستويات الأدنى ضمن القطاعين العام والخاص، يصاحبه اقتصاد أسود. وهذا يستدعي مزيداً من إجراءات تعزيز الشفافية.
من الصعوبة بمكان القضاء على الفساد كلياً، لكن الحد منه هدف ممكن ومتاح. الفساد في القطاع الحكومي تجري مكافحته حالياً عبر لجنة عليا لمكافحة الفساد برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) 2017. إلا أن هذا يتم على المستويات العليا، أما بالنسبة للبيروقراطية التي تتعاطى مع المواطنين بشكل مباشر، فقد يتخلل أعمالها بعض ممارسات الفساد، وهذا يحتاج إلى المزيد من العمل الجاد. أما الفساد في القطاع الخاص، فهو أبعد عن عين الرقابة وأصعب اكتشافاً، وهو من المواضيع التي يصعب تقديرها، إلا أنه يحتاج إلى المتابعة.

تجارة الممنوعات


ليس هناك تقديرات واضحة لحجم تجارة الممنوعات كالمخدرات والخمور والقات والعقاقير المقلدة وغيرها، وكلها تدور في نطاق التخمينات. فحجم الاقتصاد السعودي الكبير والقوة الاستهلاكية الهائلة وقرب البلاد من الدول المنتجة للممنوعات، كلها تدفع لأن تكون البلاد في عين الاستهداف. ولا يغفل هنا أيضاً وجود صناعة محلية خفية للممنوعات، يجري الكشف عن جزء منها كل فترة وعرضها أمام وسائل الإعلام مع مبالغ مالية ضخمة. أما الأموال الناتجة، فإنه يتم تحويلها إلى خارج البلاد عبر قنوات مختلفة أو إعادة استثمارها من جديد.
وفي هذا السياق، ينبغي التنويه إلى تصريح سابق لمصدر في مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) إلى الزميلة صحيفة «الاقتصادية» قبل أعوام، ذكر فيه أن 80 في المائة من جرائم غسل الأموال في السعودية مصدرها تجارة المخدرات.
وهذا يؤكد أن تجارة الممنوعات، إلى جانب كونها أحد أركان الاقتصاد الأسود في السعودية، فهي أكبر نافذة لغسل الأموال.

نشاطات العمالة السائبة


تتخذ العمالة السائبة في السعودية عدة أشكال، وهي مستمرة لثلاثة أسباب رئيسية؛ رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها الحكومة للقضاء على هذه الظاهرة المؤرقة. أول هذه الأسباب هو تخلف جزء يسير من الحجاج والمعتمرين عن العودة إلى بلادهم بعد إتمام الشعائر، وبقاؤهم في البلاد. السبب الثاني هو عمليات تهريب البشر القادمة من بعض الدول المجاورة أو عبر البحر، وغالباً تأتي العمالة السائبة من إثيوبيا واليمن. أما السبب الثالث فهو هروب العمالة المنزلية أو تلك المرتبطة بالشركات من صاحب العمل، والعمل خارج إطار قوانين العمل المرعية في البلاد.
وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، أعلن مدير إدارة الوافدين، العميد ناصر الماضي، أن حملة «وطن بلا مخالف» الهادفة إلى تخليص البلاد من ظاهرة العمالة السائبة والإقامة غير الشرعية في البلاد، قبضت على ما يقارب 368 ألف مخالف لأنظمة العمل والإقامة.
ليس كل هؤلاء يعملون في أعمال غير شرعية، فيما يعد نشاطهم الاقتصادي، شرعياً أو غير شرعي، قانونياً أو غير قانوني، يمثل أحد أشكال الاقتصاد الأسود في المملكة. فهذا النوع من العمالة له عالم سفلي وشبكة علاقات ضخمة، تبدأ بتوفير احتياجات الحياة وسبل العمل، إضافة إلى تحويل الأموال إلى البلد الأم؛ دون معرفة الجهات الحكومية المعنية، مما يجعل إجمالي التحويلات خارج البلاد عرضة للتخمين، وهو ما يؤدي إلى عدم معرفة صانع القرار بحجم الأموال الخارجة من البلاد بشكل كامل. فالتحويلات النظامية معروفة الحجم والمصادر، أما البنوك المتنقلة السوداء، فلا أحد يجزم بأرقامها!

أرقام وتقديرات


ليس بإمكان أي أحد أن يعطي أرقاماً دقيقة حول حجم الاقتصاد الأسود في البلاد، فالاسم يشير إلى أنه يتم في الخفاء. إن أقصى ما يمكن فعله هو التخمين؛ بناء على معطيات عدة تتضمن القياس التقديري للكتلة المالية النقدية خارج المصارف والفروق بين الناتج المحلي الاسمي والحقيقي والفروقات بين الدخل والإنفاق. ورغم كل ذلك، يبقى النشاط الاقتصادي الخفي صعب المقاومة والقياس؛ حتى في الاقتصادات الغربية شديدة الرقابة على الأموال والنشاطات الاقتصادية، التي تؤدي فيها الضرائب دور القلب النابض.
وبسبب كل ذلك، ستجد فروقات تقديرية هائلة، تجعلك محتاراً وغير واثق حتى باقترابها من الحقيقة. فمثلاً، يقدر عضو مجلس الشورى الدكتور فهد بن جمعة حجم الاقتصاد الأسود في المملكة بنحو 500 مليار ريال (133.3 مليار دولار)، أي ما يعادل 18 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي البالغ 2.8 تريليون ريال (746 مليار دولار). وفي السياق ذاته، تخلص دراسة أجراها الباحثان عوض جمال وجوهري داهالان في مدرسة العلوم الاقتصادية والمالية بجامعة يوتارا الماليزية، إلى أن حجم الاقتصاد الأسود بلغ 64.25 في المائة من إجمالي الناتج المحلي عام 1980 عندما كان ذلك الناتج في حدود 150 مليار دولار، إلا أن النسبة انخفضت إلى 57.82 في المائة عام 2010 عندما لامس الناتج وقتها حدود 600 مليار دولار.
وبينما يلقي الدكتور فهد بن جمعة باللائمة على التستر التجاري والنشاطات غير الشرعية أو غير القانونية أو كليهما معاً للعمالة الأجنبية، تؤكد الدراسة الماليزية أن الفساد المالي والعمولات في المشروعات الحكومية وما ارتبط بجزء منها بعمولات وصفقات مشبوهة، تمثل حصة الأسد من الاقتصاد الأسود. وللحقيقة، أثبتت الحملة الأخيرة على الفساد جزءاً هاماً مما ذهبت إليه الدراسة الماليزية.

حلول صعبة


لعل المملكة قطعت شوطاً كبيراً في محاربة الاقتصاد الأسود، فضبط الإنفاق والمزيد من الشفافية في طرح المشروعات الحكومية، يساهم إلى حد كبير في إحكام مسألة تسرب العمولات إلى أيادي الفاسدين والمتنفذين، وبالتالي القضاء على الاقتصاد الأسود في هذا الجانب.
كما يساهم التقليل من استخدام الأموال السائلة في التعاملات التجارية وتحفيز التعاملات الإلكترونية وسن القوانين التي تحفز الأفراد والقطاع الخاص على الحد من الكتلة النقدية خارج القطاع المصرفي، لصيق الرقابة، مما يساهم في ضبط حركتها، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بنقل الكتل المالية الكبيرة المستخدمة في تمويل التستر التجاري وتداول الممنوعات والأموال مجهولة المصدر.
وفي شق التستر التجاري، تدعو الحاجة إلى إيجاد حل للاحتفاظ بأموال صغار المستثمرين من المقيمين داخل البلاد، وضمان عدم تسربها إلى الأسواق المجاورة. فهذه الثروة صنعت داخل البلاد وباستخدام مواردها. ولكن القوانين المرعية في البلاد، تفرض الالتزام بقانون استثمار، يفرض شروطاً صارمة على طبيعة النشاطات المتاحة لغير السعوديين. ويجب طمأنة هذه الفئة ودمجها في منظومة الاقتصاد الوطني، وهي مسألة شائكة جداً، إذ يرى صانع القرار أن المواطن أولى بهذه الثروات وطرق صناعتها.
وتبقى مسألة الاقتصاد الأسود هاجساً يؤرق كل اقتصادات العالم، المتخلفة والنامية والمتقدمة. إن غريزة جمع المال تولد مع الإنسان، وكلما وجد صاحب المال فرصة لإخفائه عن أعين رقابة البيروقراطية الحكومية، فلن يتوانى.
font change