مستقبل مصر

من ضيق وسط البلد إلى اتساع «الكومباوند»

مستقبل مصر

[caption id="attachment_55264108" align="aligncenter" width="1262"]أحد العروض الفنية في الهواء الطلق (تصوير: عبد الستار حتيتة) أحد العروض الفنية في الهواء الطلق (تصوير: عبد الستار حتيتة)[/caption]

القاهرة: عبد الستار حتيتة



* طريقة تفكير هذا الجيل، في مجملها، لم تعد تعبر عن ذلك النمط المعتاد. لقد أصبحت كلمات الحب تختلط بكلمات السياسة.
* فرض نمط الحياة الآخذة في التطور، نفسه، بشكله العصري، على المتاجر والمقاهي والمطاعم. لكن أجمل ما فيه تلك المسحة المصرية والعربية المستوحاة من التاريخ القديم.
* حتى عشرين سنة مضت، لم تكن كثير من أسماء الوجبات في المطاعم معروفة. لكن هذا أصبح معتاداً اليوم.
* بالإضافة إلى محطات بث الأخبار على موجة «إف إم» على الراديو، والتي يمكن التقطاها بالهواتف الجوالة، تأسست مؤخراً محطات خاصة أخرى معنية بالموسيقى فقط.
* كانت مصر في النصف الأول من القرن الماضي أكثر تقدماً ومجاراة للحياة الموجودة في دول العالم المتقدم. وتعرضت البلاد لانتكاسة كبيرة بعد ذلك.




يتشكل مستقبل مصر على مهل من خلال مجموعات واسعة من شبان وفتيات، انخرطوا في حياة جديدة بعيدا عن التفاصيل التقليدية التي ارتبطت لعشرات السنين بزخم مثقفي ومتحرري وسط البلد، أي وسط القاهرة، أو تلك التي ارتبطت بصخب وضيق الحواري العتيقة في خان الخليلي والحسين، أو غيرهما من المناطق الأخرى غير المخططة (العشوائية) المحيطة بالعاصمة، وهي المناطق التي خرجت منها ثقافة أفلام اللمبي بشخصياتها المهمشة والفقيرة والضائعة.
وتحت آفاق الصحراء المترامية من تلال الأهرامات غرب العاصمة، إلى التجمع الخامس أو «القاهرة الجديدة»، شرقا، جرى خلال السنوات العشرين الماضية بناء مئات عدة من المجمعات السكنية المغلقة، أو ما يعرف بـ«الكومباوندات»، وتحولت في الوقت الراهن إلى مدن ذات مسارح حديثة ودور سينما ومطاعم ومقاهٍ ومتاجر تغص بالماركات العالمية للملابس والأطعمة والمشروبات. واجتذبت هذه المجتمعات، المنظمة، زيارات وسهرات وفعاليات لملايين الشباب والفتيات من مختلف مناطق القاهرة وغيرها من المدن، خلال الأعوام الأخيرة.

وتعيش ناريمان، وهي طالبة تنحدر من الطبقة المتوسطة، وفي الصف الثالث الثانوي، من ضاحية دار السلام العشوائية والمزدحمة وذات الشوارع غير المرصوفة، لكنها، من حديثها، يبدو أنها تأثرت إلى حد كبير بنمط الحياة الجديدة. فهي لا تفوت أي حفلة من حفلات الموسيقيين والمطربين الشبان الجدد في منطقة أصبحت شهيرة في التجمع الخامس اسمها «ميوزك بارك»، أو في المنطقة التي أصبحت تُجاري نبض الحياة الجديدة، خاصة في ضواحٍ قديمة مثل الزمالك والمهندسين والعجوزة.
إنه خليط من ثقافات مختلفة أصبح أكثر جرأة وأكثر انفتاحا على الحياة من أي وقت مضى. وتتابع ناريمان فعاليات ترتبط بموسيقى جيل ما بعد عمرو دياب، وتزور معارض للملابس ذات تصميمات عصرية لكن عليها كتابات عربية، ورسومات فرعونية. هذا زخم لافت للانتباه. ويوحي بأن مصر تتغير. حتى في حفلات الزفاف بدأت تختلط الطقوس المصرية بالتقاليع الغربية بما فيها الموسيقى.
ويحتفظ شبان بصور للمغامر المصري الشهير عمر سمرة حيث يعدونه ملهما لمن يسعى لطرق أبوب جديدة. وفي مقابلة سابقة مع سمرة يقول إنه بدأت هوايته في تسلق قمم الجبال حول العالم في سن 16 سنة. وقبلها كان يمارس الاسكواش وكرة السلة. ولم يكن يفكر في مثل هذه الهواية في مصر. لقد سافر أولا إلى سويسرا لاستكمال دراسته، وهناك، في إجازات نهاية الأسبوع، كان يمكنه أن يشارك في أي مجال ثقافي أو رياضي. ويضيف: «إحدى الخيارات كانت تسلق الجبال، فطلعت جبلا صغيرا ثلجيا... كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها الثلج».

[caption id="attachment_55264111" align="alignleft" width="240"]قميص مزين بأسماء فرق موسيقية جديدة ظهرت مؤخرا في ضواحي القاهرة («المجلة») قميص مزين بأسماء فرق موسيقية جديدة ظهرت مؤخرا في ضواحي القاهرة («المجلة»)[/caption]


لا حواجز بشأن الخلفيات الاجتماعية



وتتكون مجموعة أصدقاء ناريمان من فتيات وشبان، تعرفوا على بعضهم بعضا من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. ولم تعد هناك حواجز تتعلق بالخلفيات الاجتماعية، لسبب بسيط وهو وجود مشتركات كثيرة بين الجيل الجديد تتعلق بالمستقبل. وتقول الطالبة في الصف الثالث الثانوي، ناهد، التي تدرس في مدرسة خاصة باهظة التكاليف، إن لديها صديقات، عبر «فيسبوك»، من الهند وفرنسا والبرازيل والخليج العربي. كما أنها تعرفت على ناريمان من صفحات الموقع نفسه.
ومن خلال الإنترنت تعرفت كذلك على حياة المغامر سمرة، وكيف يمكن للإنسان أن يحقق طموحه الذي قد يبدو مستحيلا في بعض الأحيان. وتقول إن هذا الشاب تمكن وهو ما زال صبيا وطوال عشر سنوات، أي حين بلغ 26 سنة، من رفع علم مصر فوق قمم جبال في بيرو وبوليفيا وكوستاريكا ونيكاراغوا. ثم ودعت صديقاتها على بوابة المجمع السكني.

وظهرت المجمعات السكنية المغلقة (الكومباوندات) في المدن الجديدة التي جرى إنشاؤها في العقود الماضية بالقرب من القاهرة. ومن هذه المدن السادس من أكتوبر والقاهرة الجديدة والشروق والعبور. كما أن هناك مجمعات سكنية مماثلة في مدن أخرى جرى تأسيسها بالقرب من الإسكندرية، مثل كنغ مريوط وبرج العرب. وفرض نمط الحياة الآخذة في التطور، نفسه، بشكله العصري، على المتاجر والمقاهي والمطاعم. لكن أجمل ما فيه تلك المسحة المصرية والعربية المستوحاة من التاريخ القديم.

إذا ما ساقتك الأقدار، في يوم من أيام هذا الشتاء، إلى مجمع فيستيفال، في القاهرة الجديدة، أثناء واحدة من حفلات الـ«ميوزك بارك»، سترى أن مصر التي كنت تعرفها في السابق لم تعد هي مصر اليوم. وستطرد من رأسك جميع الأفكار التي كنت قد كونتها عن نمط حياة المصريين التي ظهرت في أفلام اللمبي. مئات الألوف من البشر الذين يتفننون في ارتداء الملابس وفقا للموضة. شوارع منظمة ونظيفة. مواقف لركن السيارات. ساحات مزدانة بالأشجار والورود.
أما رواد المكان فقد جاءوا من كل مكان في القاهرة. هذا المهرجان لم يقتصر على أبناء الطبقات الثرية أو على أبناء الكومباوندات. وتقول ملك، الطالبة في الجامعة، والتي ما زالت تعيش في ضاحية دار السلام العشوائية، إنها جاءت إلى هنا مع صديقاتها... ومعظم هؤلاء الصديقات من عائلات ثرية ممن تقيم في المجمعات السكنية المغلقة. لكن لم تعد توجد تلك الحساسية من الفوارق الاجتماعية. وتقول: «لم يعد أحد يفكر بتلك الطريقة. نحن نتجمع في مثل هذه المناسبات لكي نفرح سويا».

[caption id="attachment_55264114" align="alignright" width="300"]زوجان من الطبقة العليا المصرية في تراس أبراج نايل سيتي- تصوير ماركو بولغاريلي – (غيتي). زوجان من الطبقة العليا المصرية في تراس أبراج نايل سيتي- تصوير ماركو بولغاريلي – (غيتي).[/caption]

حتى الفرق الموسيقية التي نظمت حفلات في الـ«ميوزك بارك» كانت قادمة من خلفيات متباينة. وفي هذه الليلة كانت الفرق قادمة من الأردن ومصر ولبنان. وأشهر ما يقدمونه موسيقى الروك. وهناك فرقتان لموسيقى متنوعة مستوحاة من نغمات العود الشرقي والغيتار الغربي. وجرى المزج بينهما بطريقة خلابة.
ويبلغ ثمن التذكرة العادية، للواقفين، مائتي جنيه (نحو 12 دولارا)، والتذكرة للجلوس على المقاعد بـ750 جنيها. ويقدم طعام للجلوس شاملا التذكرة. وهناك فرق أخرى كانت في الحفلة مثل فريق «المربع» الأدرني، ومشروع ليلى اللبناني، وشارموفرز المصري. وفي كثير من الأحيان تتفق الفتيات والشبان من الأصدقاء على قطع تذاكر تناسب الجميع. واختارت مجموعة ناريمان وناهد التذاكر الأقل سعرا حيث تتم مشاهدة العرض وقوفا.


وسط البلد



وعلى هذا كان لا بد من تناول العشاء بعد الحفلة. وتوجد عشرات من المطاعم الجاهزة لهذا الغرض، حيث يمكن أن تسمع تسميات غربية لكثير من الوجبات المعتادة. وجرى تقديم الطعمية لكن ليس باسمها المعتاد، ولكن باسم عصري جديد هو «جرين برجر». واختار أحد الأصدقاء طبقا من الملوخية الخضراء، لكن اسمه تغير إلى «جرين سوب» (أي: الشوربة الخضراء). وتقول شيرين التي حضرت الحفل: هذه الأسماء عادية. إنها منتشرة على «فيسبوك». وتظهر وتختفي. وقام أحد أكبر مطاعم الأكلات الشعبية بضاحية الزمالك، بافتتاح فرع له في القاهرة الجديدة، ليواكب المتغيرات وليصل إلى الزبائن الذين يفضلون الابتعاد عن وسط البلد.

في السابق كانت عزومة الضيف في قلب القاهرة، تعبر عن نوع من الكرم، حيث يجلس الضيوف وهم يشاهدون دخان شي اللحم، وفي انتظار أطباق الكباب أو الكفتة. كما كانت مطاعم الكوارع و«لحمة الراس»، من المقاصد المهمة للضيوف والعائلات التي تبحث عن «عزومة لا تنسى». لكن كل هذا تغير. فقد غزت المطاعم ذات الماركات العالمية الكثير من الضواحي، خاصة في المناطق الجديدة. وأصبحت العزومة في مطعم إيطالي أو أميركي أو فرنسي أو سويسري، هي مصدر الفخر.
وحتى عشرين سنة مضت، لم تكن كثير من أسماء الوجبات في المطاعم معروفة. لكن هذا أصبح معتادا اليوم. وتجد في قائمة الطعام تسميات لأنواع مختلفة من البيتزا من محال مثل «بابا جونز»، ووجبات «الكوردون بلو»، وأكلة دسمة مثل «البط بالبرتقال». وفي مطعم آخر يديره مجموعة من السوريين تناولت مجموعة من الزوار الفطير لكن اسمه الجديد المكتوب في قوائم الطعام أصبح هو «الكريب».
ولا تخفي عينا ناريمان الفرق بينها وبين صاحباتها القادمات من المجمعات السكنية الفارهة، وإن كانت لا تحب التطرق إلى هذه النقطة. وتقول ما معناه إن التنقل بالسيارات الحديثة أمر أصبح متاحا لها رغم ظروفها المالية المتواضعة، وذلك بعد أن غزت شركات التاكسي الخاصة، مثل «كريم» و«أوبر»، أرجاء المدينة. ويمكنها أن تنتقل من ضاحيتها الفقيرة إلى التجمع الخامس بأقل من أربعين جنيها. وتضيف أنه يمكنها الحصول على وجبة «كريب»، مثل الآخرين، من مصروفها الخاص. وفي نهاية السهرة جرى توصيلها بسيارة إحدى صديقاتها إلى منزلها في الضاحية العشوائية ذات الشوارع غير المرصوفة.

[caption id="attachment_55264117" align="aligncenter" width="3500"]احد الأحياء الفقيرة بالقاهرة (غيتي) احد الأحياء الفقيرة بالقاهرة (غيتي)[/caption]

فرق أردنية ومصرية تقيم حفلات للفقراء



وحتى الفرق الموسيقية الجديدة، سواء مصرية أو عربية، لا تبخل على روادها الفقراء بإقامة حفلات بأسعار أقل كلفة. وتقوم أحيانا بارتياد صالات العرض في وسط القاهرة القديمة. وهناك فريق أردني يسمى «جدل» وهو عبارة عن «روك صافي». وفريقان آخران أحدهما يسمى «أوتوستراد» والثاني «زفير»، وهما أردنيان أيضا، بالإضافة إلى فريقي «كايروكي» و«مسار إجباري» وهما مصريان.
وتقول كلمات أغنية من هذه الأغاني:

«في كل خطوة بتموت حته في قلبي..
الناس في الشارع شبه الزومبي..
والعالم حوالينا بيجري..
واحنا لسه علينا بدري..
عايشين وبنقاوح في العصر الحجري..
أنا مش هاستغرب..
لو شفت ديناصور أو بطريق»..
طريقة تفكير هذا الجيل، في مجملها، لم تعد تعبر عن ذلك النمط المعتاد من وضع حدود صارمة بين اللون الأبيض واللون الأسود. لقد أصبحت كلمات الحب تختلط بكلمات السياسة. والتطلع للمستقبل مرتبط بالتمرد على الحاضر. وتتميز أغاني فريق «كايروكي»، في العادة، بجرأتها السياسية. وفي كثير من الأحيان تتعرض حفلاتها للإلغاء لهذا السبب. وبينما كان الجلوس حول الطاولة ينبشون في أسرار ما يجري، أخذ الشباب يجهزون لاستقبال فرق «أدونيس» و«أتوتستراد» التي تعتزم القدوم لمصر هذا العام، إلى جانب فرق «مسار إجباري» و«شارموفرز».
وظهرت شركات متنوعة لرعاية مشروعات مبتكرة، كالمقاهي وصالات مذاكرة الدروس للطلاب وهي صالات يقوم فيها كل طالب بصناعة مشروبه الذي يريده، بنفسه، وتتوفر فيها خدمة الإنترنت. ومنها صالة «ملاذ»، و«آرت سبيس». وفي مثل هذه الأماكن تدفع بالساعة، وتبلغ قيمة الساعة خمسة جنيهات، سواء شربت أو لم تشرب.

وفي المساء، وبعد أن انتهى الطلاب من مراجعة الدروس، في واحدة من هذه الصالات في ضاحية المنيل الشهيرة على نيل القاهرة، بدأت رحلة جديدة إلى وسط العاصمة لاستكمال برنامج اليوم. وكان هناك عدد من الطلاب والطالبات قد وصلوا بالدراجات الهوائية، رغم ازدحام الشوارع في قلب القاهرة مثل هذا الوقت.
تتراوح أعمار هذا النوع من الشباب المتزايد في كثير من المناطق بمصر، بين 16 عاما وحتى 30 عاما. وغالبيتهم من الطبقات المتوسطة. لقد كان أسلاف هذه الطبقة تحديدا، يعدون من رواد مقاهي «البستان» و«المشربية» ومنتديات مثل «أتيليه القاهرة»، ودور السينما العتيقة في شوارع طلعت حرب. ويقول أحمد، وهو طالب في الفرقة الثانية بالجامعة، إن والده يصطحبه مع الأسرة لمشاهدة فيلم من الأفلام الجديدة، إلا أنه الآن اكتشف عوالم مغايرة.

ويضيف أنه يحرص على مشاهدة الأفلام في سينمات التجمع الخامس الأكثر تقنية. فالمقاعد بها تأثيرات صوتية، ويمكنه أن يقضي بعض الوقت قبل الفيلم في التريض مع أصدقائه في الحدائق المحيطة وهذا أمر غير متاح في وسط المدينة. التقت مجموعة المنيل بباقي الأصدقاء، أمام المبنى الثقافي المعروف باسم «ساقية الصاوي» في ضاحية الزمالك.
وانتشرت كذلك محال البيع الحديثة والمبتكرة والتي تروج لنفسها على مواقع التواصل، وتبيع الملابس والحقائب والإكسسوارات، مثل «قاف غاليري (ق: من قاوم)»، و«حيفا غاليري»، و«يرى غاليري». وتنتشر المتاجر الصغيرة المشابهة في شوارع القاهرة الجديدة والسادس من أكتوبر وفي الإسكندرية أيضا، بالإضافة إلى وجود محاولات من تجار وسط القاهرة لمجاراة الموضة، وتغيير الطريقة التي كانوا يعملون بها في الماضي، لاستقطاب الأجيال ذات المزاج العابر لحدود الأمكنة.
وما زال مبنى «ساقية الصاوي» يعمل جاهدا على استقطاب الجمهور من مسارح ومنتديات القاهرة الجديدة. ويجري الجيل الذي مل من الموسيقى التقليدية وموضوعاتها التي تقتصر الكلمات فيها على آلام المحبين وأشواقهم. ويقول أحمد: «لست معتادا على سماع الأغاني العربية القديمة، مثل والدي الذي يحب عبد الحليم حافظ... كما أن أخي الأكبر ما زال يتعامل مع أغاني محمد منير وتامر حسني باعتبارها أغانٍ شبابية تخص الأجيال الجديدة».

ويضيف: «بالنسبة لي هذا كله تجاوزه الزمن. هم لا يعرفون موجة المطربين المستقلين، المنتشرة بيننا الآن في القاهرة وضواحيها، مثل المطرب عزيز، وهو أردني. أو فايا يونان، وهي لبنانية». ونظم عزيز حفلا منذ أسبوع في ساقية الصاوي. ومن لا يعجبه هذا ولا ذاك، ويأتي مضطرا لصخب وسط المدينة، يلجأ إلى سماعات الأذن والأغاني المخزنة على الهاتف الجوال.
وتقول كلمات واحدة من هذه الأغاني العجيبة باللهجة اللبنانية:
«غيرنا روض أعاصير.. ليتحكم بالمصير..
نحن م النسيم منطير.. ومنرتد على التدمير..
وبس تتجرا بسؤال.. عن تدهور الأحوال..
بيسكتوك بشعارات.. عن كل المؤامرات..
خونوك القطيع.. كل ما طالبت بتغيير الوطن..
يأسوك حتى تبيع.. حرياتك لما يضيع الوطن»..


مصر تبدو مقسومة إلى شطرين



لقد كانت مصر تبدو من المنظار، حتى وقت قريب، مقسومة إلى شطرين... شطر معزول وثري يعيش في فيلات التجمعات السكنية المغلقة ويرتاد مصايف الساحل الشمالي ومشاتي شرم الشيخ، وشطر هو مصر العشوائيات المثقلة بهموم العيش، ومصر وسط البلد التي تغص بالغرباء، والسياح الفقراء، ومقاهي الحسين والسيدة زينب. ورغم استمرار وجود العشرات من الفنادق العتيدة التي تطل على النيل، فإنها اتخذت خطوات لمجاراة التطورات الجديدة، وافتتحت فروعا لها، أكثر رحابة، في القاهرة الجديدة، وفي السادس من أكتوبر، وغيرهما.

[caption id="attachment_55264118" align="alignright" width="300"]منتجات في غاليري مصري تشمل خلطة عصرية مع لمسات تعبر عن عبق الماضي منتجات في غاليري مصري تشمل خلطة عصرية مع لمسات تعبر عن عبق الماضي[/caption]

لو زرت القاهرة في أي يوم من الأيام الماضية، فأنت لا شك ما زلت تتذكر مكتبات بيع كتب نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم المنتشرة على الأرصفة. هذا بطبيعة الحال ما زالت آثاره موجودة، حيث هناك ألوف العناوين لكتب طب حسين وكتب محمد حسنين هيكل وكتب الجريمة وقصص أجاثا كريستي المرعبة. لكن دخلت على الخط آليات جديدة لتنظيم عملية بيع الكتب خاصة في زوايا المراكز التجارية الكبيرة وفي المتاجر الملحقة بمحطات تموين السيارات.
وحتى نوعية الكتب ستجد أنها مختلفة عن المعتاد. لديك كتب أصبحت تلقى رواجا بين الجيل الجديد وغالبيتهم من المراهقين وطلاب الصف الثالث الثانوي والجامعة، ومنها كتب عن حياة فان غوخ، وديستوفيسكي، وفنون الطبخ للنباتيين، وتاريخ الموسيقى، وتاريخ الصين، وروايات كويلو وكامو، وأدوات الزينة عند الفراعنة.

شباب: تغيير الأوضاع المعيشية أو الهجرة



وتقول شيرين وهي طالبة في الصف الثالث الثانوي: «العالم مفتوح. ولهذا حين أقارن بين ما نحن فيه في مصر وبين الآخرين الذين في أوروبا أو آسيا، فأرى أن أمامي أحد خيارين: إما أن أغير الظروف التي نعيش فيها لكي نتطور إلى الأفضل، وإما أن أهاجر إلى أي من تلك الدول. أعتقد أنني سأحسم أمري قريبا. لكن الأمل لدي في أن تتغير مصر إلى ما أحلم به أنا وأصدقائي. لا نفكر في السياسة، ولكن نريد شوارع نظيفة ومنظمة، وأن يهتم كل بشؤونه دون أن يتدخل في الحياة الخاصة للآخرين».
وتستقي شيرين وصديقاتها الأخبار وتطورات الأحداث من مواقع التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» و«تويتر». وبالنسبة لعدد آخر من أقرانها، فإنهم لا يذكرون أنهم اشتروا أي صحيفة من السوق خلال العام الأخير. ويقول أحمد إنه حين يجد قضية ما على «فيسبوك»، ويرغب في التعمق فيها، فإنه يلجأ إلى مواقع إخبارية على الإنترنت، يبدو أنها تحظى بمصداقية لدى البعض مثل موقع «مبتدأ» وموقع «مدى مصر» وغيرهما.

وبالإضافة إلى محطات بث الأخبار على موجة «إف إم» على الراديو، والتي يمكن التقطاها بالهواتف الجوالة، تأسست مؤخرا محطات خاصة أخرى معنية بالموسيقى فقط، ومنها محطة «إنرجي» العالمية الشهيرة، وهي فرنسية المنشأ لكنّ لها فروعا في روسيا والمغرب ولبنان ودول أخرى. وبدأت البث في نطاق القاهرة العام الماضي.
وبعد قليل قام أحد الشباب بتشغيل أغنية بصوت مرتفع، وبدأت المجموعة، من الأولاد والبنات، تدندن معه. وكانت الكلمات لبنانية أيضا، وتقول:
«حدا تاني..
ياخد مكاني..
ويحل مشاكلي لقدام..
يعيشني عنّي ويغنّي عنّي..
خلص لأنّي يئست من هالمكان»...
ولا شك أن هذه الرياح التي تهب على مصر تجد مقاومة من هنا وهناك، مثل المقاومة التي سبق وراح ضحيتها كتاب ومقدمو برامج تلفزيونية، بعد أن أثاروا صخبا كبيرا في عموم البلاد، وهم يحاولون حرث الأرض، حتى لو كان ذلك قد حدث بطريقة أقلقت السلطات، مثل برامج باسم يوسف الساخرة والمستوحاة من أحد برامج التلفزيون الأميركي. وكذلك مثل كتاب ينظر إليهم البعض بأنهم كانوا أكثر جرأة من المعتاد، مثل الكاتب بلال فضل والكاتب علاء الأسواني. ويعيش معظم هؤلاء في الوقت الراهن في الولايات المتحدة وأوروبا.


كتابات جديدة تحمل في طياتها رائحة العصر الجديد



لقد ظهرت كتابات كثيرة موحية وتحمل في طياتها رائحة العصر الجديد وعالمية المشاعر الإنسانية، وثقافة تقبل الآخر. فالطالبة ناريمان، على سبيل المثال، لم تعد تخجل من تعريف أسرتها بصديقتها الفيسبوكية التي تعيش في إحدى ضواحي نيودلهي في الهند. وتظهر على شاشة الهاتف وهي تتحدث معها عن كل شيء. من قضايا الموضة إلى إحباطات الحب إلى برامج كل منهما لهذا اليوم، رغم أن المسافة التي تفصل بينهما تبلغ آلاف الكيلومترات.

وتلقي رواية «هيبتا» للكاتب محمد صادق، التي تحولت إلى فيلم سينمائي، قبل سنة، الضوء على محاولة إخراج علاقات الحب من القالب المصري إلى العالمية.. أو كما يردد أحد الشبان كلمات مستوحاة من أحد الأعمال الدرامية الجديدة، بلهجة مصرية: «افتح بيبان الصمت.. واصرخ بصوت مسموع.. لو زاد عليك الصعب.. خلِي الجبين مرفوع.. افتح عينيك شبابيك.. ضُم الوجود بإيديك.. دا الفرح مستنيك.. والحلم مش ممنوع».
وتجتذب مفردات جديدة الجيل الصاعد. وهناك على سبيل المثال «مسرح مصر» الذي يقدم كل يوم جمعة، ويبثه التلفزيون، وهو يعمل بطريقة فيها الكثير من التلقائية عبر ممثلين شبان. وأحد أسباب رواج هذا النوع من المسرح، خروجه عن القوالب التمثيلية المعروفة.
وبالإضافة إلى كل هذا هناك البرامج والمسلسلات التي أصبحت تعكس تفاصيل الحياة الثرية والحياة في المجمعات السكنية المغلقة، وهو نوع فتح العيون على مجتمعات أخرى لم تكن معروفة، يختلط فيها الثراء بالثقافة الغربية لأسباب تتعلق بالحياة لبعض الوقت في الخارج، أو التأثر بنمط حياة المشاهير العالميين من محامين وممثلين وسماسرة. وأصبح من النادر أن ترى ذلك النوع من المسلسلات التي كانت تركز على الحياة الضيقة في الضواحي الشعبية المكدسة بالناس وهموم الفقر.

[caption id="attachment_55264130" align="alignleft" width="300"]شباب من الجنسين داخل حفل فني بالقاهرة - تصوير ماركو بولغاريلي (غيتي). شباب من الجنسين داخل حفل فني بالقاهرة - تصوير ماركو بولغاريلي (غيتي).[/caption]

وتأثرت نماذج عتيقة كثيرة بالتطورات المستحدثة التي فرضت نفسها في البناء أيضا. فعندما بدأت موجة بناء الفيلات والقصور في المنتجعات وفي الضواحي الجديدة وفي الساحل الشمالي وشرم الشيخ، برع المهندسون المحليون في نقل طرز معمارية مستوحاة من العمارة الفرعونية بأعمدتها الشاهقة، ومن العمارة اليونانية والإيطالية بقببها الشهيرة. وخرج من عباءة هذا النوع من البنائين، فرق كثيرة تقوم بتطبيق نظريات معمارية حتى على مباني الطبقات المتوسطة وتحت المتوسطة. ويظهر ذلك جليا على طول الساحل الشمالي الممتد من غرب الإسكندرية حتى ما بعد العلمين، وبطول نحو 200 كيلومتر على ساحل البحر المتوسط. كما يمكن ملاحظته في مباني السادس من أكتوبر ومباني القاهرة الجديدة.

لقد كانت مصر في النصف الأول من القرن الماضي أكثر تقدما ومجاراة للحياة الموجودة في دول العالم المتقدم. وتعرضت البلاد لانتكاسة كبيرة بعد ذلك. وأصبحت مدينة القاهرة التي كانت تنافس باريس ولندن في النظافة والنظام، مجرد ذكريات بعيدة. لكن اليوم يمكن ملاحظة وجود رغبة لدى غالبية المصريين للتطوير، والتفاعل مع باقي الدنيا، والخروج من القوالب الضيقة التي عاشوا فيها لأكثر من نصف قرن، سواء في طرز المباني أو في فنون الأكل أو في القراءة والحب والموسيقى أيضا.

font change