الجزائريون يواجهون الغلاء بـ«المقاطعة»

العدوى انتقلت إلى تونس احتجاجاً على ارتفاع أسعار السيارات

الجزائريون يواجهون الغلاء بـ«المقاطعة»

[caption id="attachment_55265433" align="aligncenter" width="3425"]موظفو مجموعة رينو الفرنسية لصناعة السيارات في وادي تليلات بجنوب مدينة وهران الجزائرية(غيتي) موظفو مجموعة رينو الفرنسية لصناعة السيارات في وادي تليلات بجنوب مدينة وهران الجزائرية(غيتي)[/caption]

الجزائر - ياسين بودهان:

* خلال عام 2017 لم تمنح الحكومة الجزائرية أي ترخيص لاستيراد السيارات، مما فتح الأبواب واسعة أمام المستثمرين الجزائريين لتسويق سياراتهم بأسعار مرتفعة.
* ارتفاع أسعار السيارات الجديدة انعكس على أسعار السيارات القديمة التي ارتفعت هي الأخرى إلى مستويات غير مسبوقة.
* الطاهر بولنوار: يجب أن تكون حملات المقاطعة مدروسة بشكل جيد وبأهداف استراتيجية واضحة حتى لا تكون لها تداعيات سلبية.



في مبادرة قوية هي الأولى من نوعها، والأكثر تأثيراً وانتشاراً، لبى السواد الأعظم من الجزائريين دعوات مقاطعة شراء السيارات المجمعة محلياً، احتجاجاً على ارتفاع أسعارها مقارنة بنظيراتها في دول أخرى.
القصة بدأت منذ نحو شهر أو يزيد بقليل، حينما أطلق مجموعة من النشطاء هاشتاغاً عبر منصات التواصل الاجتماعي بعنوان «خليها تصدي» أي «اتركها تصدأ» لمقاطعة شراء السيارات، ولم تمض سوى أيام قليلة حتى بدأت أسعار السيارات القديمة والمجمعة محلياً بالانهيار والتراجع لمستويات غير مسبوقة.
ورغم أن الحكومة الجزائرية أقرت خلال العامين الأخيرين حزمة من التسهيلات والامتيازات الضريبية الكبيرة لأصحاب مصانع السيارات المجمعة محلياً، وهي المصانع التي ظهرت مثل الطفيليات بعد قرار الحكومة بمنع استيراد السيارات من الخارج لدعم الإنتاج المحلي، بيد أن النتيجة جاءت عكسية تماماً، فبدل أن تتراجع الأسعار وتكون في متناول الجزائريين شهدت ارتفاعاً جنونياً، ولم يتوقف الأمر عند السيارات الجديدة بل طال الأمر حتى السيارات القديمة التي ارتفعت أسعارها في وقت قياسي لأكثر من 50 في المائة، بينما بلغ معدل ارتفاع أسعار السيارات الجديدة بين 3 و5 آلاف دولار.

وقبل قرار منع الاستيراد الذي جاء بهدف ترشيد نفقات البلاد، والتحكم في عجز الموازنة السنوية بسبب تراجع مداخيل البلاد إثر تهاوي أسعار النفط في الأسواق العالمية بداية من منتصف عام 2014. كانت الجزائر تستورد كميات كبيرة من السيارات سنويا.
وتكشف أرقام الديوان الوطني للإحصاء وهو مؤسسة حكومية تابعة للجمارك الجزائرية إلى أن فاتورة واردات السيارات بلغت 3.14 مليار دولار في 2015 مقابل 5.7 مليار دولار في 2014 أي بانخفاض 44.91 في المائة، في وقت عرف عدد السيارات المستوردة انخفاضا كبيرا حيث بلغ 265.523 وحدة في 2015 مقابل 417.913 وحدة في 2014 أي بتراجع 36.46 في المائة.
ويشير نفس المركز إلى تسجيل إجمالي الواردات لـ40 وكيلا ينشطون في السوق المحلية منحى تنازليا لا سيما العلامات الأوروبية منها، وبوجه أخص الفرنسية والألمانية، حيث عرفت هذه الأخيرة انخفاضا في الكمية والقيمة تجاوز أحيانا 90 في المائة.
وبالنسبة للسيارات المستوردة من طرف بعض وكلاء العلامات الصينية فقد سجلت وارداتها ارتفاعا محسوسا حسب نفس المركز بين فترتي المقارنة وصل إلى 145 في المائة من حيث القيمة، و156 في المائة من حيث الكمية، حتى كانت الفاتورة والكمية المستوردة أقل بكثير من نظيراتها الأوروبية.

وخلال عام 2017 لم تمنح الحكومة الجزائرية أي ترخيص لاستيراد السيارات من الخارج، ما تسبب في فتح الأبواب واسعة أمام المستثمرين الجزائريين لتسويق سياراتهم بأسعار جد مرتفعة.
وفي تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية عن عبد الكريم مصطفى الذي يشغل منصب مستشار وزارة الصناعة برر فيها ارتفاع أسعار السيارات المجمعة محلياً بجملة أسباب أهمها الشروط المفروضة على المصنعين، خاصة فيما يتعلق بمعايير السلامة، إلى جانب إقرار الحكومة نظام رخص الاستيراد ما شكل خللا في نظام العرض والطلب، إلى جانب تهاوي قيمة الدينار المحلي مقارنة بالعملات الأجنبية مما ساهم في ارتفاع تكاليف تجميع السيارات.

وفي خطوة مفاجئة وغير منتظرة، نشرت وزارة الصناعة الأسعار الحقيقية للسيارات المركبة بعد خروجها مباشرة من المصنع، وشكلت المعلومات التي أفرجت عنها الوزارة بتاريخ 14 مارس (آذار) الماضي صدمة قوية للجزائريين بعد أن اكتشفوا تبايناً شاسعاً بين الأسعار الحقيقية، والأسعار التي تباع لهم بها هذه السيارات، حيث تراوحت الفوارق ما بين 1000 دولار و3000 آلاف دولار حسب نوعية السيارات التابعة لأربع شركات تجميع، ويتعلق الأمر بالشركة الفرنسية رونو، وشركة هيونداي للملياردير الجزائري محيي الدين طحكوت، إلى جانب شركة «سوفاك» المسوقة للعلامة الألمانية فولكسفاغن، وشركة «غلوبال غروب» المسوقة لعلامة كيا.
وكمثال للفارق الشاسع للأسعار، بلغ سعر سيارة «رونو سيمبول» بعد خروجها مباشرة من المصنع 10 آلاف دولار في حين تصل للمستهلك بنحو 12 ألف دولار.
ومن بين الأسباب التي ساهمت بشكل مباشر في التهاب الأسعار هو تحكم بعض السماسرة في سوق السيارات، فبدل أن تصل السيارات بشكل مباشر للمستهلك وبأسعار معقولة فرض السماسرة منطقهم على الزبائن بفعل الاحتكار والمضاربة.
أسباب الصمت الحكومي بشأن هذه التجاوزات كان محل تساؤلات واسعة بين أوساط الجزائريين بعد أن دفعوا ثمنها على مدار أشهر طويلة، خاصة أن ارتفاع أسعار السيارات الجديدة انعكس بشكل مباشر على أسعار السيارات القديمة التي ارتفعت هي الأخرى دون سابق إنذار إلى مستويات غير مسبوقة، حتى بات اقتناء سيارة قديمة حلماً بعيد المنال لغالبية الجزائريين خاصة من ذوي الدخل الضعيف والمحدود.

[caption id="attachment_55265434" align="aligncenter" width="720"]حملة خليها تصدي لمقاطعة شراء السيارات في الجزائر حملة خليها تصدي لمقاطعة شراء السيارات في الجزائر [/caption]

التجاوزات السابقة كانت سبباً كافياً لبعض النشطاء لإعلان حملة مقاطعة واسعة عبر منصات التواصل الاجتماعي لدعوة الجزائريين إلى عدم شراء هذه السيارات إلى غاية رجوع أسعارها لمستواها الطبيعي، ولم تمر أسابيع قليلة على بداية الحملة حتى بدأت الأسعار في الانهيار.
صمود الحملة ونجاحها دفع بالمسؤولين الحكوميين إلى التعليق عليها والتجاوب معها، ففي الأسبوع الماضي قال الوزير الأول (رئيس الحكومة) أحمد أويحيى، على هامش تقديمه لحصيلة الحكومة لعام 2017، إن «الوضع الذي تعيشه سوق السيارات بالجزائر أمر عادي، ولا يجب القلق منه».
وأوضح أن «ما قامت به وزارة الصناعة لا يعد كشفاً لأسعار السيارات بل هو إعلان لتكلفة إنتاجها»، وأوضح أن «من بين 3 مصانع فقط هي التي دخلت مرحلة الإنتاج من أصل ستة مصانع تركيب ما تسبب في تراجع عدد السيارات المطروحة في السوق من 600 ألف سيارة في العام إلى 200 ألف سيارة فقط ما أخل بنظام العرض والطلب في السوق».
بالمقابل أكد مدير الجودة والاستهلاك بوزارة التجارة سامي قلي بداية هذا الأسبوع خلال حلوله في برنامج ضيف التحرير عبر أثير الإذاعة الرسمية أن «حملة خليها تصدي تعد شكلا من أشكال التعبئة لدى المستهلكين»، ودعا المستثمرين إلى «ضرورة الالتفات إلى هذا الأمر لتحسين نوعية المنتج وسعره».

نجاح الحملة وانتشارها دفعا بالجزائريين إلى اتخاذها شعارا لمواجهة الغلاء، فلم تمض سوى أيام قليلة حتى دشن بعضهم حملة «خليه يعوم» أي «دعه يسبح»، والتي طالب أصحابها المستهلكين إلى مقاطعة السمك بعد ارتفاع أسعاره لمستويات مرتفعة جدا، فرغم أن الجزائر تمتلك شريطا ساحليا يتجاوز 1300 كلم، إلا أن السمك بات مادة غائبة على موائد الجزائريين على مدار العام بسبب غلائها.

فبعد أن كان ثمن الكيلوغرام الواحد من سمك السردين لا يتجاوز 1.73 دولار، أصبح اليوم أكثر من 6.94 دولار للكيلوغرام الواحد، ورغم أن الصيادين يبررون موجة الغلاء بالاضطرابات الجوية وندرة السمك في البحار فإن غالبية الجزائريين يتهمون الصيادين بالتعامل مع السماسرة للتحكم في الأسعار والعمل على عدم هبوطها، لذلك قرروا أن المقاطعة هي الحل الوحيد لتراجع الأسعار.
حملة المقاطعة مست أيضا العملة الأوروبية الموحدة اليورو، والذي شهد هو الآخر مستويات عالية في أسعار الصرف مقارنة بالدينار المحلي، حيث وصل سعر اليورو الواحد إلى أكثر من 115 دينارا في السوق الرسمية، ولأكثر من 200 دينار في السوق الموازية، ما تسبب في التهاب أسعار مختلف المواد الاستهلاكية خاصة تلك التي تستورد من منطقة الاتحاد الأوروبي.
والغريب أن الحملة لم تقتصر فقط على المواد الاستهلاكية أو مختلف المنتجات، بل طالت حتى الزواج، حينما أطلق نشطاء هاشتاغ «خليها تبور» (اتركها عانس) احتجاجاً على ارتفاع المهور وتكاليف الزواج مقابل أزمة البطالة التي تعصف بأكثر من 30 في المائة من الشباب الجزائري، لكن الحملة لاقت ردود فعل غاضبة من بعض النشطاء الذين عارضوا فكرة جعل المرأة وكأنها سلعة يجب مقاطعتها.

واللافت أن الحملة تعدت حدود الجزائر لتصل إلى تونس، حيث دشن نشطاء حملة مماثلة للدعوة إلى مقاطعة شراء السيارات الأوروبية تحت شعار «خليها تسوس» أي خليها تصدأ أيضاً.
ودعا القائمون على إحدى صفحات المقاطعة في «فيسبوك» تحمل عنوان «مقاطعة شراء السيارات في تونس» الشعب التونسي إلى أن «يستفيق من سباته ويساهم في حملة المقاطعة، وأن لا يتوقف إلا بتلبية أربعة مطالب أساسية تتمثل في اعتماد أسعار عالمية كما هو معمول به في باقي دول العالم، وتعديل السيارات الموجهة إلى تونس باعتماد مواصفات عالمية، والتخفيض في أسعار قطع الغيار الأصلية، مع إلغاء القانون الجديد الخاص بمنع صاحب السيارة من بيعها إلا بعد مرور عام من تملكها». وأكد القائمون على الصفحة أن «المقاطعة هي ثقافة لكسر الاحتكار، وليس هدفها خراب الاقتصاد».

وفي حديثه لـ«المجلة» أبرز رئيس الجمعية الوطنية للتجار والحرفيين الحاج الطاهر بولنوار أن «حملة المقاطعة مبررة لعدة أسباب، أهمها الارتفاع الكبير وغير المبرر في أسعار السيارات خلال العامين الأخيرين رغم أن الشركات المحلية استفادت من امتيازات ضريبية كبيرة من أجل التخفيض في الأسعار، وهو ما لم يتم».
واتهم بعض الوكلاء بممارسة الاحتكار في السوق مما تسبب في المضاربة بالأسعار، فلا يمكن برأيه أن «يتم منح تراخيص لأربع علامات تجارية فقط لصناعة السيارات»، والمطلوب برأيه «فتح السوق في إطار الشفافية، وتكافؤ الفرص للقضاء على مشكلة الاحتكار»، هذا المبدأ برأيه أي «الشفافية والمنافسة الحرة هو وحده الكفيل بالتحكم في أسعار أي منتجات وليس السيارات فقط».
ودافع بولنوار بشدة عن التجار حينما برأ ساحتهم من مسؤولية ارتفاع الأسعار، واعتبرهم ضحية، فأسعار السيارات يؤكد «حينما ترتفع ستكون لها تداعيات سلبية على التجار بإضافة أعباء إضافية وهو ما ينعكس أيضا على قيمة السلع حينما تصل إلى المستهلك».

وفي الوقت الذي بارك فيه حملات المقاطعة، إلا أنه سجل بالمقابل مخاوف كثيرة قد تجعل من هذه المبادرات وسيلة للمنافسة غير الشريفة مثل أن توجه حملة المقاطعة ضد علامات تجارية محددة دون غيرها، فتخرج بذلك عن أهدافها لتضر المستثمرين، وتؤثر على مناخ الاستثمار بشكل عام.
لأجل ما سبق شدد على أهمية أن «تكون حملات المقاطعة مدروسة بشكل جيد وبأهداف استراتيجية واضحة حتى لا تكون لها تداعيات سلبية»، وشرح ذلك بقوله: «قد تؤثر حملة المقاطعة على المنتجين وتتسبب لهم في خسائر فادحة، وبالتالي يتقلص عدد المنتجين مستقبلا، مما يؤثر على كمية الإنتاج وبالتالي خلق الندرة وترتفع الأسعار مجددا لمستويات أكثر، لذلك لا يمكن لأي حملة مقاطعة أن تنجح على المدى البعيد دون الأخذ في الاعتبار الاهتمام بكمية الإنتاج وتحسينه».



font change