بكين والانتفاضات العربية.. إدبار في السياسة إقبال في الاقتصاد

لي باو دونغ، مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة يمتنع خلال تبني مجلس الأمن القرار 1973 الذي يجيز حظرا جويا على ليبيا

بكين والانتفاضات العربية.. إدبار في السياسة إقبال في الاقتصاد

على النقيض من الدول الغربية، ظلت الصين صامتة إزاء الموقف السياسي في المنطقة، ولكن ذلك لا يعني افتقار الصين إلى استراتيجية متماسكة للتعامل مع "الثورة العربية"، حيث تبدو سياسة بكين واضحة: الأولوية للمصالح الاقتصادية وترك القضايا الصعبة إلى الغرب والبدء في تعزيز العلاقات مع الأنظمة الجديدة.

حاجة الصين إلى موارد الطاقة تجعل من الشرق الأوسط منطقة حيوية لمساعي بكين الدبلوماسية لتأمين إمدادات البترول والغاز. بالإضافة إلى أن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شهدا حضورا متزايدا للشركات الصينية ورجال الأعمال، الذين يعملون على بناء البنية التحتية التي ما زالت البلاد تحتاجها أو يبيعون البضائع التي لا يمكن إنتاجها في المصانع المحلية. كما كان حجم التجارة بين الصين والشرق الأوسط 51.3 مليار دولار في 2005، ووصل إلى 107 مليارات دولار بعد ذلك بأربع سنوات فقط، أي في 2009.

ولكن العلاقات الاقتصادية بين الصين والشرق الأوسط ما زالت تهيمن عليها صادرات البترول من المملكة العربية السعودية واستيراد البترول الخام والغاز من إيران. ومعا، تمثل هاتان الدولتان ما يزيد على نصف إجمالي تجارة الصين في المنطقة. وبالتالي، وعلى الرغم من أن المصالح الاقتصادية الصينية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تتزايد بمعدلات متسارعة، فإنها ما زال يهيمن عليها نقل مصادر الطاقة من الرياض وطهران. ونظرا لأن كلا من السعودية وإيران لم تتأثرا حتى الآن بما يحدث في المنطقة، فما زالت المصالح الاقتصادية الأساسية للصين لم تتأثر بعد. وبالتالي فليس مفاجئا أن السياسة الخارجية للصين لم تشهد تغيرا حتى الآن على رغم الانتفاضات الشعبية التي تهدد بل وتخلع حكومات أخرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وللصين مصلحة في قطع الصلات بين الشبكات الإرهابية الموجودة في أفغانستان والقرن الأفريقي والجماعات الإرهابية الموجودة عندها بخاصة تلك الموجودة في شينغيانغ. بالإضافة إلى أن بكين حريصة على أن لا تصل أسلحة الدمار الشامل والتكنولوجيا النووية إلى أيدي تلك الجماعات، وبالتالي فإن الصين لديها بعض المخاوف الأمنية التي تماثل تلك الموجودة لدى الحكومات الغربية تجاه الشرق الأوسط والمناطق المجاورة.

ومع ذلك، فإن الصين لن تتأثر كثيرا بالمخاوف الأمنية الرئيسة التي أدت إلى التدخل العسكري الغربي في ليبيا والفوضى الدبلوماسية في مصر – إمكانية أن تشكل جماعة الاخوان المسلمين الحكومة - وخطر وجود معقل آمن للإرهابيين على مبعدة كيلومترات عدة من الحدود الجنوبية للاتحاد الأوروبي، حيث إن هذين العاملين ليس لهما تأثير مباشر على الأمن الصيني. بالإضافة إلى أن التجارة بين الصين ومصر وليبيا تعد قطرة في محيط الإجمالي التجاري للصين، حيث تزيد قليلا في كلا البلدين عن 6 مليارات دولار أميركي. وبالتالي فلا يوجد ما يدفع بكين للتورط في تشكيل الحكومة الناتجة عن الثورة في أي من هذين البلدين. فلدى القوى الغربية قضايا أكثر أهمية يجب عليها معالجتها وبالتالي كانت الصين سعيدة بتركهم يتخذون القرارات الأكثر صعوبة.

والأهم هو أن بكين قررت الامتناع عن التصويت في مجلس الأمن للتصريح بفرض الحظر الجوي على ليبيا. وهو ما أدهش العديد من المحللين لأنه كان اختراقا واضحا لمبادئ عدم التدخل في الشؤون المحلية وهي المبادئ التي تزعم الصين اعتزازها بها. ولكنه كان منطقيا بالنسبة لبلد كانت على استعداد لتجاوز ذلك المبدأ منذ تولى هو جين تاو الحكم في 2002. ولم يكن منطقيا أن تدافع بكين عن حكومة معمر القذافي على رغم أنها ليست لديها مصالح اقتصادية أو أمنية كبرى هناك. وبالتالي كان من الأسهل ترك الحكومات الغربية تقرر إلى أي مدى هي مستعدة لتأييد الثوار الليبيين.

ولا تعني حقيقة أن الصين كانت تتصرف خلال "الثورة العربية" وفقا لمصالحها الاقتصادية الخاصة أن حكومة جين تاو لم تحاول إقامة علاقات طيبة مع الأنظمة الجديدة في السلطة. فقد التقى السفراء الصينيون في مصر وتونس مع ممثلين عن الحكومات التي حلت محل أنظمة حسني مبارك وزين العابدين بن علي على التوالي. وفي حالة مصر، كان سونغ إيغو، الذي وصل إلى مصر في أكتوبر (تشرين الأول) 2010 فقط، يستكشف إمكانية زيادة الشركات الصينية لاستثماراتها في مصر ما بعد مبارك. وبالنسبة لتونس، فإن الأزمة الإنسانية الناجمة عن فرار اللاجئين من ليبيا منحت الصين الفرصة للتعاون مع الحكومة الجديدة، فحتى الآن أرسلت الصين شحنتين من المساعدات الإنسانية إلى تونس. ووفقا لوزارة التجارة الصينية، فإن الاضطرابات السياسية يجب أن تخلق المزيد من الفرص للشركات الصينية في المنطقة. وأخذا في الاعتبار أن العلاقات بين بكين ودول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تقوم على الركائز الاقتصادية، فليس مفاجئا أن تسعى الحكومة الصينية لتأسيس علاقات مع الحكومات الجديدة التي ربما لا يكون لديها علاقات مريحة بالغرب كالحكومات السابقة. وعلى الرغم من أن ذلك يختلف عن محاولة تشكيل تلك الأنظمة فإنه يمنح الصين التي أصبحت أخيرا ثاني أكبر اقتصاد في العالم، قدرا من النفوذ في المنطقة.

المصالح الاقتصادية، وترك القضايا المعقدة إلى الغرب، فيما تعمل على تعزيز العلاقات مع الأنظمة الجديدة، تلك هي العناصر الأساسية للاستراتيجية الصينية تجاه ما تشهده البلاد العربية.

وعلى الرغم من أن الصين ربما تحتاج إلى إعادة تقييم تلك المقاربة إذا ما استمرت الاحتجاجات والمظاهرات لفترة طويلة، فإن تلك الاستراتيجية ساعدت الصين حتى الآن على حماية مصالحها الاقتصادية وتجنب التورط في المنطقة أكثر من الضروري. بل وربما يصبح وضع الصين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أقوى بعد انتهاء تلك الانتفاضات. ومن ثم فإنه من المستبعد أن تغير بكين استراتيجيتها في وقت قريب.

رامون باشيكو باردو
font change