اقتصاديات الحج ورؤية المملكة 2030

موسم الحج

اقتصاديات الحج ورؤية المملكة 2030

 
* الحج والعمرة يشكلان نحو 60 % من الإيرادات السياحية السعودية، أي قرابة 14 مليار دولار سنوياً.
* شهدت المملكة أكبر توسعة للحرمين الشريفين في التاريخ الإسلامي ضمن خطة لاستيعاب 30 مليون حاج ومعتمر في السنوات القادمة.
* دراسة بشأن كيفية استغلال الحج والعمرة وتعظيم عوائدهما وفق رؤية المملكة 2030.
 



أذربيجان: «وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق» صدق الله العظيم (سورة الحج: الآية 27)، بهذا الخطاب الإلهي، تحولت هذه الأرض القاحلة إلى أهم بقعة في الأرض وقبلة المسلمين، يقصدها الناس في كل يوم للصلاة وأداء العمرة والحج وسائر العبادات، فكانت فاتحة خير لأهل هذه الدولة التي آلت على نفسها قيادة وحكومة وشعبا أن تُولي كل العناية والاهتمام لهذه البقعة المباركة، فكانت التوسعات المستمرة والتنمية الدائمة للاهتمام بضيوف الرحمن من كل بقاع الأرض، حتى أصبح ظاهراً لكل زائر للحرمين الشريفين مدى ما تحقق من تطوير متواصل وتجديد مستمر لكافة المشاريع والخدمات في أنحاء المملكة بوجه عام ومناطق الحج والعمرة على وجه الخصوص.
وغني عن القول إن هذه الشعيرة الإيمانية ذات أبعاد متعددة، منها ما هو روحي-ثقافي، ومنها ما هو اجتماعي-سياسي، إذ إنها تمثل ساحة لالتقاء الأفراد من مختلف دول العالم دون تمييز بين الأشخاص، فطبيعة اللباس اللازم لهذه الشعيرة يجعل الجميع سواسية لا تكاد تستطيع أن تفرق بين غني وفقير ومواطن من بلد عن آخر أو منطقة عن منطقة أخرى، أو جنسية عن أخرى. فالجميع يشتركون في هدف واحد، وإن اختلفت أشكالهم وأعراقهم، كما أنها ملتقى ثقافي يجتمع فيه المسلمون من مختلف دول العالم، يتعرفون على بعضهم البعض، بما يزيد من مستوى التواصل والتآلف والعلاقات التي تنبني على هموم مشتركة بالتقرب إلى الله تعالى، كما أنها فرصة لإبراز جانب التنوع الثقافي الذي تحظى به مختلف المجتمعات الإسلامية، بما يساعد في فهم أكثر لكل ثقافة، ويسهل التواصل ويقلل من الحواجز التي تراكمت لسنوات طويلة.



 
البعد الاقتصادي
 


كما أن البعد الاقتصادي يظل بعداً مهماً ضمن أبعاد هذه الشعيرة الإيمانية، إذ برز هذا البعد منذ دعوة الخليل إبراهيم عليه السلام حينما دعا ربه أن يجعل هذا البلد آمناً وأن يرزق أهله من الثمرات لما يقدمونه إلى ضيوف الرحمن من خدمة، ولصبرهم في ذلك، كما قال تعالى: «وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر..». الآية (سورة البقرة: آية 126).
من هذا المنطلق، حظيت شعيرة الحج باهتمام كبير من جانب قيادة المملكة وحكامها على مدار التاريخ، إذ أدركوا منذ اللحظات الأولى أن الحج كمناسبة إسلامية عالمية، تستوجب العناية بها والاهتمام بجوانبها كافة، وخاصة جانبها الاقتصادي، سعيا لإدارتها إدارة اقتصادية ذات كفاءة تعود بالنفع على المواطن والدولة، وهو ما جعلها في قلب رؤية المملكة 2030 كمرتكز رئيسي ضمن مرتكزاتها التنموية. وعليه، يتناول هذا التقرير الأبعاد الاقتصادية للحج ضمن رؤية المملكة 2030 وذلك من خلال محورين:



 
الحج... إحصاءات ودلالات
 


تكشف الإحصاءات السنوية التي ترصدها الهيئة العامة للإحصاء السعودية عن تطورات مهمة في مجال الحج، سواء من حيث أعداد الحجيج أو العوائد المتحققة من موسم الحج، وهو ما يوضحه الجدول الآتي:
1- تطور عدد الحجيج خلال الفترة (1428 - 1437هـ):


[caption id="attachment_55268189" align="aligncenter" width="963"]المصدر: الهيئة العامة للإحصاء، إحصاءات الحج 2016. المصدر: الهيئة العامة للإحصاء، إحصاءات الحج 2016.
[/caption]


يتضج من الرسم البياني السابق أن أعداد الحجيج شهدت تزايدا منذ عام 1428 وحتى 1433هـ، إذ قفزت من 2.4 مليون حاج إلى 3.1 مليون حاج، أي أن الزيادة بين عامي المقارنة تبلغ 28.8 في المائة، إلا أن الأعداد بعد عام 1433ه (2013)، شهدت تراجعاً ملحوظاً، وبلغت أقل معدلاتها في عام 1437ه (2016) لتصل إلى 1.8 مليون حاج فقط، وبمقارنة أعداد الحجيج في عام 2016 بما كانت عليه عام 2013 نجد أن نسبة التراجع بلغت 41 في المائة، وهو ما يجد تفسيره في ضوء أعمال التوسع التي شهدتها منطقة الحرم المكي.



 
مساهمة الحج في الناتج المحلي السعودي
 


طبقا للبيانات الرسمية الصادرة عن الهيئة العامة للإحصاء السعودية، فإن مساهمة قطاع السياحة في الناتج المحلي السعودي تصل إلى 3.5 في المائة، وبما يعادل 85.5 مليار ريال (22.8 مليار دولار) سنوياً، كما يوفر قطاع السياحة فرص عمل تقدر بـ882.9 ألف فرصة عمل، وبما يمثل 7.7 في المائة من إجمالي العاملين بالمملكة، ويستحوذ السعوديون على 27.8 في المائة من إجمالي فرص العمل بقطاع السياحة.
وإذا كانت الإحصاءات الرسمية تشير إلى أن الحج والعمرة يشكلان نسبة تقترب من 60 في المائة من الإيرادات السياحية السعودية، أي قرابة 14 مليار دولار سنوياً، فإن هذا الرقم يعاد تدويره داخل الاقتصاد السعودي ويعمل على إنعاش الكثير من مؤسسات قطاع الخدمات في السعودية بشكل عام، وفي مكة المكرمة والمدينة المنورة على وجه الخصوص. مع الأخذ في الحسبان إيرادات أخرى قد لا تتضمنها الإحصاءات الرسمية السعودية، وهي تلك التي تتعلق بالحصول على تأشيرات الحج والعمرة، فضلا عن وجود عدد من الوظائف المرتبطة بشعيرة الحج ويقتصر أداؤها على المواطنين السعوديين، ومن أبرزها وظيفة المطوف، وهي وظيفة ضرورية، لأن القائم بها بمثابة مرشد للحجيج لمعرفة أماكن أداء الشعائر، فضلاً عن التوجيه الشرعي لكي يؤدي الحاج الشعيرة بطريقة سليمة.



 
الحج والعمرة في رؤية المملكة 2030
 


ليست مبالغة القول إن رؤية المملكة 2030 والتي تنطلق من العمل على تنويع القاعدة الإنتاجية وتقليص الاعتماد على النفط، في محاولة لجعل الاقتصاد السعودي اقتصادا متنوع المداخيل، يأتي قطاع الحج والعمرة ليمثل محورا رئيسيا في تلك الرؤية، نظرا لما يتمتع به هذا القطاع من مزايا كثيرة ومتنوعة تؤهله لاحتلال هذه المكانة، وفي مقدمتها أنه ضمن القطاعات كثيفة العمالة التي لديها القدرة على توليد الوظائف، وهو ما يعني أنه مع الزيادة المتوقعة في عدد الحجيج، حيث يزيد عددهم اليوم عن مليوني حاج من الخارج سنويا، ومن المتوقع أن تزداد إلى 2.7 مليون في عام 2020. وفق الإحصاءات شبه الرسمية، فيما تستقبل نحو 6 ملايين معتمر على مدار 9 أشهر من العام. فضلا عن أعداد الحجيج والمعتمرين من الداخل والذي يمثل أيضا عائدا ماليا داعما للاقتصاد الوطني.
ومن هذا المنطلق، جاءت رؤية المملكة 2030 لتقدم استراتيجية متكاملة لتطوير منظومة الحج والعمرة، من خلال إتاحة الفرصة لعدد أكبر من المسلمين في تأدية مناسكهما، حيث تضمنت الرؤية في محورها «المجتمع الحيوي» وتحت عنوان «قيمة راسخة»، إشارة صريحة إلى التأكيد على أهمية تسخير الطاقات والإمكانيات لخدمة ضيوف الرحمن، إذ ورد ما نصه: «نحن لا ندخر وسعا في بذل كل جهد وتوفير كل ما يلبي احتياجات ضيوف الرحمن ويحقق تطلعاتهم، ونؤمن بأن علينا أن نضاعف جهودنا لنبقى رمزا لكرم الضيافة وحسن الوفادة».
ومن ثم، فقد شهدت المملكة أكبر توسعة للحرمين الشريفين في التاريخ الإسلامي، كما جاء تطوير المشاعر المقدسة، خطوة مهمة لاستيعاب هذه الأعداد المتزايدة سنويا، وضمن خطة لاستيعاب 30 مليون حاج ومعتمر في السنوات القادمة. كما أنجزت شبكة قطار المشاعر المقدسة، ومشاريع إسكان وخيم الحجيج، والانتهاء من توسعة وإنشاء مطارات ضخمة لاستقبال ضيوف الرحمن، وتوفير إدارة أمنية فاعلة ومنجزة للحفاظ على أمن الحجاج واستقرارهم، في ظل تحديات الإرهاب ومحاولة تسييس شعائر الحج، حيث تم إطلاق برامج الترحيب بالحجاج لحظة قدومهم إلى المملكة، كما نشرت وزارة الحج والعمرة مراكز خدمات الحجاج في مكة المكرمة والمدينة المنورة لتقديم الخدمات والتسهيلات، إضافة إلى لجان المراقبة والمتابعة الميدانية لحماية حقوق الحاج في كافة تنقلاته.

[caption id="attachment_55268191" align="alignleft" width="766"]شارك حوالي 3000 مشارك في فعالية "هاكاثون" التي استغرقت ثلاثة أيام في جدة ، حسبما أفادت الحكومة ، بهدف استكشاف حلول التكنولوجيا الفائقة لجعل الحج أكثر كفاءة وأماناً. و رفعت المبرمجات السعوديات شعار تحدي كل العقبات في «هاكاثون الحج» لإثبات قدرتهم ومهاراتهم في الابتكار والتحليل والتصميم.(غيتي) شارك حوالي 3000 مشارك في فعالية "هاكاثون" التي استغرقت ثلاثة أيام في جدة ، حسبما أفادت الحكومة ، بهدف استكشاف حلول التكنولوجيا الفائقة لجعل الحج أكثر كفاءة وأماناً. و رفعت المبرمجات السعوديات شعار تحدي كل العقبات في «هاكاثون الحج» لإثبات قدرتهم ومهاراتهم في الابتكار والتحليل والتصميم.(غيتي) [/caption]

كما وسعت المملكة منظومة خدماتها الصحية لضيوف الرحمن لتشمل تجهيز المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية لرعايتهم، وتقديم خدمات معلوماتية وتوعوية، وتموينية، ونظافة شاملة ودائمة في المشاعر على مدار الساعة، مع خدمات متقدمة للتصرف الصحي، وعمليات التشجير والإنارة في المشاعر المقدسة، وتنفيذ توسعات مستمرة لجسر الجمرات، الأمر الذي يؤكد أهمية الدور الكبير الذي توليه المملكة لحجاج بيت الله الحرام كل عام.
ومن الجدير بالإشارة أن وزارة الحج والعمرة - تزامنا مع انطلاق رؤية المملكة 2030 - وضعت حزمة من المبادرات الاستراتيجية بدءا من عام 1436ه (2016) هدفت إلى تطوير قطاع الحج والعمرة ليحقق طموحات هذه الرؤية، وتمثلت أبرز هذه المبادرات فيما يأتي:
1- تأسيس مركز التحكم والمراقبة الإلكترونية في وزارة الحج والعمرة، بهدف ربط مراكز خدمات الحجاج والمعتمرين بصناع القرار، وزيادة التنسيق بين أطراف منظومة الحج والعمرة، وإتاحة لوحة التحكم لكافة الجهات الحكومية.
2- إطلاق مشروع الإسوارة الإلكترونية، وتطبيقها على الحجاج بدءاً من موسم حج 1437ه بهدف مساعدة الحجاج وتقديم الدعم اللازم لهم، وإتاحة كافة معلومات وبيانات الإسوارة الإلكترونية لكافة الجهات الحكومية في منظومة الحج والعمرة.
3- توقيع 78 اتفاقية حج مع 78 دولة، من الدول الإسلامية ودول الأقليات، لأجل تنظيم شؤون حجاجهم، وتعزيز برامج التوعية، وتنظيم برامج التفويج.
4- توسيع التنسيق مع القطاع الخاص، والهيئة التنسيقية ومؤسسات الطوافة، للاستعداد لتطبيق رؤية المملكة 2030 للنهوض بخدمات واقتصاديات الحج والعمرة.
5- إطلاق مبادرة المسار الإلكتروني للحجاج، لحماية حقوق الحاج، وتسهيل وتسريع آلية الحصول على تأشيرات الحج إلكترونياً، وتحقيق مبدأ العدالة في الحج للراغبين فيه، وتكريس مبدأ الشفافية في قطاع الحج والعمرة.
6- العمل على دعم اقتصاديات القطاع والتعاون مع مؤسسات الطوافة، لتوسيع مجالات الفرص وخلق كيانات وطنية كبرى.
7- إطلاق مبادرة التحول من ثقافة العمل الموسمي في قطاع الحج والعمرة، والانتقال إلى ثقافة العمل على مدار العام، بالتعاون مع القطاع الخاص.
8- رفع الطاقة الاستيعابية لموسمي الحج والعمرة، حيث شهدت المملكة موسم العمرة الأضخم في تاريخها، بمعدل 6.5 مليون معتمر، أدوا مناسك العمرة بكل يسر وسهولة وطمأنينة.
مجمل القول إن الاهتمام السعودي بقطاع الحج والعمرة يأتي تنفيذا لرؤية العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز الذي أكد على أن الهدف من تطوير هذا القطاع إنما هو: «إتاحة الفرصة لأكبر عدد من المسلمين لأداء فريضة الحج والعمرة وعكس الصورة المشرفة للسعودية في خدمة الحرمين»، فكان الإنفاق السعودي الكبير والمتواصل في قطاع الحج والعمرة للعمل على راحة الحجاج والمعتمرين، كان له مردود وعائد اقتصادي كبير على مجمل الاقتصاد السعودي، إذ أسهم في توفير رصيد كبير من العملات الأجنبية، والعمل على زيادة الدخل القومي، فضلا عن زيادة حركة النشاط التجاري والاقتصادي وخلق المزيد من فرص العمل في المجالات كافة، وهو ما يعني أن الحج والعمرة كمناسبات دينية يستوجب الأمر دراسة كيفية استغلالهما وتعظيم عوائدهما ومردوداتهما وفقا لما تضمنته رؤية المملكة 2030 والتي أكدت على أن واضعي هذه الرؤية كان لديهم إدراك واسع المدى بتحديات الحاضر الراهن ومتطلبات المستقبل المنظور للنهوض بالمملكة وصولا بها إلى مكانتها الدولية والإقليمية التي تستحقها كدولة رائدة إقليميا وفاعلة دوليا.

font change