السعودية ومصر... مشروعات إعادة هيكلة الإقليم

السعودية ومصر... مشروعات إعادة هيكلة الإقليم

[caption id="attachment_55268304" align="aligncenter" width="1366"]الملك سلمان بن عبد العزيز، يستقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي، في موقع نيوم، شمال غربي المملكة العربية السعودية 14 أغسطس 2018 (غيتي) الملك سلمان بن عبد العزيز، يستقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي، في موقع نيوم، شمال غربي المملكة العربية السعودية 14 أغسطس 2018 (غيتي)[/caption]

أنقرة: محمد عبد القادر
 

* تمثل مدينة نيوم مشروعاً ضخماً أعلن عن إطلاقه ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في أكتوبر 2017، بهدف تأسيس مركز اقتصادي واستثماري وسياحي للمملكة.
* تحظى علاقات السعودية ومصر بأهمية خاصة لما تتمتعان به من موقع على الخريطة السياسية والجغرافية الإقليمية والدولية.
* مقولات «أمن المملكة من أمن مصر» والعكس، أخذت طابعاً إنشائيّاً من فرط تكرارها، لكنها مع ذلك تعكس الحقيقة الفعلية.
* من المهم أن تبني مصر والسعودية نموذجاً لعلاقة وتحالف استراتيجي أبدي.




ثمة روابط متجذرة. تواجه تحديات وتقلبات سياسية، لكنها تبقى ثابتة رغم أي اهتزازات طارئة أو تحولات إقليمية غير متوقعة. هذه الروابط تجسد نمط العلاقة بين السعودية ومصر، والتي يتداخل فيها محركات جغرافية، يصعب إغفال أدوارها، وعوامل دينية لم تغب آثارها، ومواقف سياسية شكلت نقطة ضوء، سواء حين تم التعاطي مع قضايا صعبة أو مواقف بدت حالكة، بما خلق تمازجاً سياسياً ووطنياً ومصاهرة شعبية بدت إحدى ركائز العلاقات وثوابتها التي يصعب تبديلها. هذا المعطى كان محددا للقاءات سياسية متوالية بين قيادات الدولتين، والتي أخذت على عاتقها التعبير عن عمق العلاقات المشتركة، عبر إجراءات سياسية، ومشروعات اقتصادية، ومبادرات إنسانية.



واحدة من المبادرات التي أظهرت مؤخرا طبيعة البعد الإنساني في العلاقات السعودية - المصرية، أصدرها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وذلك باستضافة ألف من أسر شهداء القوات المسلحة والشرطة المصرية لأداء فريضة الحج. هذا في وقت بدا فيه أن العلاقات السياسية بين الجانبين تشهد قفزات كبرى، ربما عكستها الزيارة المفاجئة للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي للقاء الملك سلمان بن عبد العزيز، في مدينة نيوم بحضور ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، وذلك من أجل التشاور وتبادل وجهات النظر حول آخر مستجدات الأوضاع في المنطقة والقضايا ذات الاهتمام المشترك.


 

مدينة «نيوم»... مشروع إعادة هيكلة الإقليم




يربط مصر بالمملكة حدود غير مباشرة عبر البحر الأحمر، وربما تتلاقي على شواطئ سواحله الممتدة مشروعات اقتصادية ضخمة وتتلاقي طموحات قيادات الدولتين، في إطلاق مبادرات تعيد هيكلة الإقليم وهندسة أوزان أقطابه السياسية، وفق اعتبارات اقتصادية تنهي عصور الاعتماد على «الاقتصاد النفطي» أو صادرات الطاقة، من خلال تبني مشروعات تعاونية تحدد مصير الإقليم، ومسار ونمط تفاعلاته.
وفي هذا السياق، تمثل إقامة مدينة نيوم مشروعا ضخما أعلن عن إطلاقه ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في أكتوبر (تشرين الأول) 2017. وتقع «نيوم» شمال غربي المملكة على مساحة 26.5 ألف كيلومتر مربع، وتطل من الشمال والغرب على البحر الأحمر وخليج العقبة بطول 468 كم، وتحيط بها من الشرق جبال بارتفاع 2500 متر. ومن المتوقع أن يسهم المشروع في زيادة أعداد السياح لمنطقة الشرق الأوسط، إذ تعتزم السعودية إنشاء 7 نقاط جذب بحرية سياحية، ما بين مدن ومشاريع سياحية تتضمن إنشاء 50 منتجعا على البحر الأحمر، تمتد من سواحل المملكة إلى الأردن ومصر.
أهمية المشروع تتعلق بأنه يمثل رؤية جديدة من قيادة سعودية ترى الإقليم عبر المستقبل، وتعتبر أن أطر التعاون التقليدية باتت منتهية الصلاحية، ويتطلب الحفاظ على استقرار الإقليم وأمنه ربط دوله بمشروعات سياسية تحقق الرخاء الاقتصادي، والتكامل السياسي، ودعم أطر التنسيق الأمني لمواجهة الأخطار والتحديات، التي باتت تتنوع لتغدو ذات صيغ مبتكرة، وبأدوات قادرة على تهديد كل البني والهياكل القائمة لما تتسم به من هشاشة وعدم تماسك في مواجهة تحديات تثيرها دول وجماعات طائفية وإرهابية ترتبط بها وتعتبر أهم أدواتها لتعميق أدوراها المضادة للاستقرار ودعم رخاء الشعوب العربية وتحقق التنمية الاقتصادية في دولها.
أهمية لقاء الملك سلمان والرئيس السيسي، لا تتعلق وحسب بأهمية العلاقات الثنائية والمبادرات المشتركة حيال الكثير من قضايا الإقليم، وفي مقدمتها القضية اليمنية، وإنما ترتبط أيضا بأن الرئيس السيسي أول رئيس يزور مدينة نيوم، وأول ضيف يستقبله خادم الحرمين الشريفين في هذا المشروع السياحي العملاق، الذي تبلغ استثماراته نحو 500 مليار دولار، ما يؤكد تقدير الملك سلمان بن عبد العزيز للرئيس المصري، ويعكس تقدير القيادة المصرية لخادم الحرمين الشريفين، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وللمملكة بوصفها شريكا استراتيجيا، يضطلع بدور القيادة في هذا المشروع العابر للحدود.
أهمية زيارة مدينة نيوم لا ترتبط كذلك بالحدث السياسي ودلالاته الاقتصادية، وحسب، وإنما تتعداه إلى تأكيد أبعاده الأمنية وما تعنيه الزيارة وتعكسه من حجم التعاون بين الجانبين على الصعيد العسكري، سيما أن نجاح المشروع يتطلب بيئة أمنية مغايرة في البحر الأحمر، بما يستدعي ترسيخ سبل العمل وتسريعه لمجابهة أي تأثيرات ضارة لقوى إقليمية مثل إيران. وقد مثل ذلك محورا رئيسيا في مناقشة القيادتين السعودية والمصرية إدراكا لخطورة الدور الإيراني على أمن واستقرار المنطقة العربية، وتهديد مضيق باب المندب وقناة السويس عن طريق تزويد ميليشيات الحوثي الإرهابية بالأسلحة والصواريخ، وهو الأمر الذي يستوجب من الدولتين معا جهودا كبيرة للحيلولة دون استمرار ذلك، ومن أجل منع أي تغلغل لقوى إقليمية غير عربية داخل الأراضي اليمنية.
إن تأكيد الرئيس السيسي على أهمية أمن البحر الأحمر والقدرة على التصدي لأي مطامع من دول غير عربية ثم زيارته للملك سلمان بن عبد العزيز في مدينة نيوم بعد ساعات من استقباله الرئيس اليمني في القاهرة، إنما تمثل دلائل بشأن المشاورات المستمرة، والتحركات السعودية - المصرية لحل أزمة اليمن والتصدي لإيران بعد أن باتت خطرا داهما على أمن واستقرار المنطقة العربية.


 

السعودية ومصر ومدينة «الحلم»




اللقاء في «نيوم» العابرة للحدود أو مدينة «الحلم» له دلالة مهمة، تنبع من مستوى اللقاء وملفاته وقضاياه، وأيضا من طبيعة موقع اللقاء، بل واسمه، حيث تأتي الأحرف الثلاثة الأولى «NEO» من الكلمة اللاتينية التي تعني «جديد» والحرف الرابع «M» هو اختصار للكلمة العربية «المستقبل»، وتتمتع «نيوم» بساحل غير متقطع يمتد لمسافة 468 كيلومترا، ومن المقرر أن يتم تشغيله من خلال مصادر الطاقة المتجددة.

[caption id="attachment_55268306" align="aligncenter" width="701"]ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في مطار القاهرة الدولي، 4 مارس 2018 (غيتي) ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في مطار القاهرة الدولي، 4 مارس 2018 (غيتي)[/caption]

تركز المنطقة على تسعة قطاعات استثمارية متخصصة بما في ذلك الطاقة، والمياه، والتنقل، والمواد الغذائية، والعلوم التكنولوجية والرقميّة، والتصنيع المتطور، والإعلام والترفيه. وبالنسبة للحكومتين المصرية والسعودية، فإن هذه القطاعات تحفز النمو الاقتصادي والتنويع من خلال رعاية الابتكار والتصنيع العالميين، ونتيجة لذلك، ستدفع الصناعات المحلية، وتعزز نمو الناتج المحلي الإجمالي في المملكة، وكذلك في كل من مصر والأردن.
وتعكس زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي كأول رئيس يزور مشروع نيوم العملاق، عمق العلاقات الاستراتيجية بين مصر والسعودية، فضلا عما يؤكده ذلك بشأن عمق الشراكة الاقتصادية بين البلدين، سيما أن «نيوم» سيوفر آلاف فرص العمل للشباب وسيدفع الاقتصاد وسيحول سواحل البحر الأحمر إلى أهم بقعة سياحية في الشرق الأوسط. وقد تم البدء بتأسيس بعض ركائز البنية التحتية الرئيسية، ومن المقرر الانتهاء من المرحلة الأولى بحلول عام 2025.
وتتميز نيوم بقربها من الأسواق ومسارات التجارة الكبرى، حيث يمر بالبحر الأحمر نحو 10 في المائة من حركة التجارة العالمية، ويستطيع 70 في المائة من سكان العالم الوصول للموقع خلال ثماني ساعات كحد أقصى. وتمتد المدينة لتعبر الحدود السعودية، حيث ستشارك مصر بألف كيلومتر مربع من أراضيها في جنوب سيناء، لتكون جزءاً من المدينة العملاقة، كما سيشمل التطوير مدينتي شرم الشيخ والغردقة. ويتمتع المشروع بكثير من الجزر، والجبال ذات المناظر الخلابة وتغطي قممها الثلوج خلال فصل الشتاء.
وبحسب صحيفة «ديلي ميل» البريطانية، توصف «نيوم» بأنها وادي السيليكون في الشرق الأوسط، على غرار «وادي السيليكون» الأميركي، الذي يقع في الجزء الجنوبي من خليج سان فرانسيسكو في كاليفورنيا الشمالية؛ والذي يُعدُّ موطناً لكبريات شركات التكنولوجيا في العالم، بما في ذلك آبل، وسيسكو، وغوغل، وإتش بي، وإنتل، وأوراكل، ويرافق اسم الوادي اليوم صناعة التكنولوجيا المتقدمة في أميركا. ويأتي المشروع ضمن رؤية المملكة 2030.
وتعكس الإرادة السياسية من وراء تأسيس «نيوم» ليس وحسب تحقيق التنمية المجتمعية، وإنما تشمل أهدافها تحقيق التنمية الاقتصادية التي تمثل إحدى أهم أدوات محاربة الإرهاب. وفيما اتخذ ولي العهد السعودي، القوة الدافعة من أجل إحداث تغيرات اجتماعية واقتصادية شاملة في المملكة العربية السعودية، وتبني الكثير من المبادرات لمواجهة «الآيديولوجيات المتشددة» وتعزيز ثقافة التسامح وقيم الاعتدال. فإن مصر، بدورها، تواصل حربها ضد الإرهاب، من خلال مبادرة تطوير وتنمية شبه جزيرة سيناء، لذلك فإن المنطقة الحرة التي سيتم بناؤها في نويبع لخدمة مشروع نيوم، تشكل أحد أهم محاور الدولة المصرية للتعاطي مع التحديات الأمنية عبر صيغ وأدوات اقتصادية.
هذا إضافة إلى أن «نيوم» بحسبانها «مدينة ذكية» في ذاتها، تمثل امتدادا ثقافيا للتنمية الحضرية والسياحية في جنوب سيناء، وتحديداً في منطقة رأس سدر، بحسبانها المنطقة الأولى التي قد تستفيد من الأهمية الجغرافية لـ«نيوم»، بما من شأنه أن يسهم في إنهاء الأسطورة القديمة لـ«سيناء المهملة»، وإغلاق جميع القنوات المحتملة للأنشطة الإرهابية التي استغلت غياب خطط التنمية والمبادرات الاقتصادية في هذه المنطقة المهمة سياسيا واقتصاديا وأمنيا. وتبدو «نيوم» ذات أهمية لمصر مضاعفة بحسبانها ترتبط بالبحر الأحمر، والذي يرتبط مباشرة بقناة السويس، ويعد أحد أبرز الشرايين الاقتصادية في العالم، حيث يمر عبره ما يقرب من عُشر تدفقات التجارة العالمية.


 

مصر تجني ثمار التحركات السعودية




وقعت السعودية ومصر الكثير من الاتفاقيات من أجل الشروع في تأسيس مدينة «نيوم» العملاقة. وقد جاء ذلك بالتزامن مع زيارة ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، إلى القاهرة في مارس (آذار) 2018. وأسست السعودية ومصر صندوقا مشتركا بالمناصفة بما تزيد قيمته على 10 مليارات دولار، للاستثمار في الأراضي الواقعة في الجانب المصري ضمن مشروع «نيوم».

[caption id="attachment_55268308" align="alignright" width="670"]توقيع اتفاقية لإنشاء مركز للتميّز العلمي متخصص في أبحاث مشروع «نيوم»، داخل حرم جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) توقيع اتفاقية لإنشاء مركز للتميّز العلمي متخصص في أبحاث مشروع «نيوم»، داخل حرم جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)[/caption]

وتعتبر اتفاقية الاستثمار الموقعة بين الطرفين متفرعة عن اتفاقية تأسيس صندوق الاستثمار السعودي - المصري المشترك. وقع البلدان أيضا اتفاقية بيئية تعد جزءا من الاستراتيجية السعودية قبل شروعها في البدء في مشاريع البحر الأحمر. والاتفاقية عبارة عن بروتوكول لحماية البيئة البحرية، والحد من التلوث للمحافظة على الشعاب المرجانية والشواطئ، واتفاقا على ضوابط ملزمة لمنع التلوث البصري. وتعول مصر على المشروع من أجل تعزيز أدوارها في سوق السياحة العالمية.
وحسب الكثير من التقديرات، تتأسس أهمية الجانب السياحي للمشروع على انخفاض الطلب على الرحلات لمعظم شركات الملاحة والسياحة الملاحية العاملة في البحر المتوسط بعد الصيف، حيث يغلق بعضها ولا يعمل إلا موسميا، فيما ينتقل بعضها الآخر للعمل في الكاريبي والمحيط الهندي، غير أنهم يواجهون في ذلك منافسة حادة وتباعدا في نقاط الجذب في المحيط الهندي. ووفق الخطط، فإن المشروع من شأنه إعادة صوغ سوق السياحة العالمي، حيث يتضمن مبادرات تفصيلية من أجل اجتذاب سوق إبحار اليخوت، وإنشاء المارينا المتخصصة في المنتجعات في البحر الأحمر.
وكانت الحكومة المصرية، قد أعلنت في مارس 2018 عن الموافقة على إقامة منطقة حرة هي الأولى منذ عام 2005. في مدينة نويبع بمحافظة جنوب سيناء، لخدمة مشروع نيوم، ليرتفع عدد المناطق الحرة في مصر إلى 11 منطقة. وقال اللواء خالد فودة، محافظ جنوب سيناء، إن المنطقة الحرة ستوفر 14 ألف فرصة عمل مباشرة. ومن المقرر أن تقام على مساحة مليون متر مربع، خلال عامين، وتقدر تكلفة تجهيز بنيتها التحتية نحو 40 مليون جنيه. وقالت وزيرة الاستثمار والتعاون الدولي، سحر نصر، إن مصر حريصة على إنشاء مناطق حرة في المحافظات التي لديها أولوية في ضخ الاستثمار وتوفير فرص العمل. وبحسب نصر، فإن صادرات المناطق الحرة تمثل 24 في المائة من إجمالي صادرات مصر.
وأضافت نصر أن حجم التمويل لمشروعات تنمية سيناء يبلغ 16 مليار دولار، سيتم توفير نصفها من جانب الحكومة المصرية، موضحة أن جنوب سيناء من المحافظات التي ستستفيد من حوافز قانون الاستثمار، وتشمل 50 في المائة إعفاءً ضريبياً من التكلفة الاستثمارية لمدة 3 سنوات قابلة للتجديد. وأشارت نصر إلى أن إنشاء منطقة نويبع يكتسب أهمية مضاعفة، بحسبان أنها تمثل عودة لإنشاء المناطق الحرة بعد توقف طويل. ومنطقة التجارة الحرة في مصر تمثل نمطاً استثمارياً يتمتع بمزايا كثيرة، لصالح المستثمر، أهمها الارتباط المباشر بالعالم الخارجي وتوافر أراضي مكتملة المرافق والبنية الأساسية، إلى جانب خصوصية التعامل فيها من النواحي الجمركية والاستيرادية والنقدية، وغيرها والتي تتعلق بحركة البضائع دخولاً وخروجاً، مما يسمح بقدر كبير من الحرية في المعاملات التي من شأنها جذب الاستثمارات.


 

السعودية ومصر... الشراكة عبر التاريخ




تحظى العلاقات التي تربط السعودية ومصر بأهمية خاصة لما تتمتعان به من موقع على الخريطة السياسية والجغرافية الإقليمية والدولية. كما تمتاز المواقف بين البلدين بتطابق كبير في الرؤى والاتفاق بشأن القضايا الإقليمية باختلاف جوانبها. وفي السياق التاريخي، وفي 27 أكتوبر 1955، وقع البلدان اتفاقية دفاع مشترك، وقد رأس وفد المملكة في توقيعها بالقاهرة ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فيصل بن عبد العزيز، وأثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. وقفت السعودية بكل ثقلها إلى جانب مصر في كل المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
وتؤكد الزيارات المتبادلة بين القيادتين عمق العلاقات التاريخية بين البلدين الشقيقين، ففي 16 مارس 1987 قام الملك سلمان بن عبد العزيز، حينما كان أميرا لمنطقة الرياض، بزيارة إلى مصر لافتتاح معرض «المملكة بين الأمس واليوم». وعقب توليه مقاليد الحكم، توالت اللقاءات الرسمية بين القيادتين، حيث التقى الملك سلمان بن عبد العزيز الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في جلسة مباحثات رسمية في 28 فبراير (شباط) 2015، جرى خلالها استعراض أوجه التعاون الثنائي لما فيه مصلحة البلدين، والتأكيد على عمق العلاقات الاستراتيجية بينهما، والحرص على تعزيزها في مختلف المجالات.
وعبر الملك سلمان عن أهمية زيارته لمصر بكلمة جاء فيها: «إننا إذ نشيد بما نشهده اليوم من إبرام الكثير من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم والبرامج التنفيذية التي ستعود بالخير - بحول الله - على بلدينا وشعبينا الشقيقين، نود أن نعبر عن تقديرنا لرئيسي وأعضاء الجانبين في مجلس التنسيق السعودي المصري لما بذلوه من جهود موفقة للارتقاء بمستوى العلاقات في مختلف المجالات، وفقا لما تم الاتفاق عليه في إعلان القاهرة، وخدمة لمصالح بلدينا وتطلعات شعبينا الشقيقين».
وقال الملك سلمان: «إننا فخورون بما حققناه من إنجازات على الأصعدة كافة التي جعلتنا نعيش اليوم واقعا عربيا وإسلاميا جديدا تشكل التحالفات أساسه، فلقد اتحدنا ضد محاولات التدخل في شؤوننا الداخلية، فرفضنا المساس بأمن اليمن واستقراره والانقلاب على الشرعية فيه، وأكدنا تضامننا من خلال تحالف إسلامي عسكري لمحاربة الإرهاب شمل 42 دولة هو الأقوى في تاريخ أمتنا الحديث، وبعثنا قبل أيام برسالة إلى العالم عبر رعد الشمال، نعلن فيها قوتنا في توحدنا، وقد كانت جمهورية مصر العربية كعادتها من أوائل الدول المشاركة بفاعلية في هذه التحالفات وهذا التضامن الذي دشن لعصر عربي جديد يكفل لأمتنا العربية هيبتها ومكانتها».



وجرى خلال الزيارة توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم وتعاون بين البلدين في عدد من المجالات، شملت اتفاقيات قروض مشروعات تنموية في مجالات الطاقة والتنمية والكهرباء وتجنب الازدواج الضريبي، والصحة، والنقل البحري والموانئ والزراعة والإسكان والتجارة والصناعة ومكافحة الفساد والتعاون التعليمي والثقافي، بالإضافة إلى تعيين الحدود البحرية بين البلدين.
كما شهد الملك سلمان والرئيس السيسي توقيع مجموعة من الاتفاقيات، شملت إنشاء صندوق سعودي - مصري للاستثمار برأسمال 60 مليار ريال، ومذكرة تفاهم أخرى لإنشاء منطقة اقتصادية حرة في شبه جزيرة سيناء، بالإضافة إلى التوقيع على عدد من الاتفاقيات بين وزارة التعاون الدولي في مصر والصندوق السعودي للتنمية، وهذه الاتفاقيات جاءت ضمن برنامج الملك سلمان لتنمية شبة جزيرة سيناء. وقد التقى الملك سلمان بن عبد العزيز مع الرئيس عبد الفتاح السيسي في 29 مارس 2017. وذلك على هامش أعمال القمة المنعقدة في منطقة البحر الميت جنوب الأردن، وفي 23 أبريل (نيسان) 2017 عقد الزعيمان جلسة مباحثات رسمية. وأكدت زيارة الملك سلمان لمصر في يوليو (تموز) 2015، حرص الملك سلمان منذ توليه مقاليد الحكم على استمرار تكامل العلاقات السعودية - المصرية. كما تجسدت مواقف المملكة تجاه مصر وشعبها، عبر تكريس سياستها الخارجية لحث الحكومات الغربية على دعم مصر، بما يحقق رخاءها الاقتصادي واستقرارها السياسي.
وعلى الصعيد الاقتصادي، عقد مجلس الأعمال السعودي - المصري الكثير من الاجتماعات المشتركة لبحث الفرص الاستثمارية المشتركة، وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين في 2017 نحو 2.1 مليار دولار، فيما تخطى حجم الاستثمارات السعودية في مصر حاجز 6 مليارات دولار، والاستثمارات المصرية في المملكة تجاوزت المليار دولار، وتمثل الاستثمارات السعودية نحو 11 في المائة من الاستثمارات الأجنبية في مصر.
وتشهد العلاقات بين البلدين عددا من الزيارات العسكرية المتبادلة بين القادة والمسؤولين العسكريين في كلا البلدين، وعلى نحو دوري، وذلك لتبادل الآراء والخبرات والمعلومات العسكرية والأمنية والاستخباراتية التي تهم البلدين. وأقيمت الكثير من المناورات التدريبية المشتركة بين جيشي البلدين مثل مناورات «تبوك» للقوات البرية، ومناورات «فيصل» للقوات الجوية، ومناورات «مرجان» للقوات البحرية. وفيما أكدت مصر دوما أن أمن دول الخليج جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري، وأن مصر لن تسمح بالمساس بأمن الخليج وأنها ستتصدى بفعالية لما يتعرض له من تهديدات، فإن المملكة وضعت أمن مصر واستقرارها الاقتصادي في مقدمة أولويات سياساتها على الصعيدين الإقليمي والدولي.


 

السعودية ومصر... عقيدة سياسية مشتركة



[caption id="attachment_55268307" align="alignleft" width="696"]الأمير محمد بن سلمان، خلال لقائه المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد، في واشنطن (واس) الأمير محمد بن سلمان، خلال لقائه المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد، في واشنطن (واس)[/caption]

أوضحت كثير من المقاربات الأكاديمية أن التحولات التي تشهدها العلاقات السعودية – المصرية ترتبط بطبيعة التوجه السعودي الذي تجسده مبادرات الأمير محمد بن سلمان من أجل تطور العلاقات بين القاهرة والرياض عبر التأسيس لعقيدة استراتيجية مشتركة، بحسبانها تشكل مفهوما يجري بناؤه وصناعته والاستثمار فيه، من دون الارتكاز وحسب على صياغة العلاقات المشتركة على مفهوم الحتمية الجغرافية والسياسية، والذي يفترض مسبقا سلامة وصحة العلاقات ولا يشترط التعب عليها والاستثمار فيها والاجتهاد لأجلها. وقد أشارت تقديرات أكاديمية إلى أن العلاقات السعودية – المصرية إذا ما استكملت الخطى في ذات الاتجاه، فقد تشكل واقعا مغايرا لـ«المقولة المنفرة» في العلاقات العربية، والتي تبرر القصور دائماً، في قول البعض بأنه ليس لدى الدول العربية ما تقدمه لبعضها البعض على صعيد الاقتصاد والسياسة والأمن، وأن الأهم لها جميعاً يتمثل في علاقة كل منها بالآخر الغربي.
بيد أن بناء «عقيدة سياسية» تحكم العلاقات المصرية - السعودية، يمثل انطلاق البلدين من تصور لعلاقة استراتيجية جديدة ودائمة غير تقليدية عربياً، وغير قابلة للتراجع عنها، ذلك أن البلدين فعلياً - وربما من دون استدعاء - سيكونان أكبر سند عسكري وسياسي واقتصادي فعلي ساعة الأزمات. فمن الناحية الفعلية، فإن مصر والمملكة - لاعتبارات تحتاج إلى تفسير ودراسة - غير قابلتين لأن تتباعدا عن بعضهما البعض. ومقولات «أمن المملكة من أمن مصر» والعكس، تمثل مقولات أخذت طابعاً إنشائيّاً من فرط تكرارها، لكنها مع ذلك تعكس الحقيقة الفعلية. لذلك من المهم أن يبني البلدان نموذجاً لعلاقة وتحالف استراتيجي أبدي.
إن مبادرة الملك سلمان بن عبد العزيز لاستضافة أسر الشهداء المصريين، وزيارة السيسي إلى مدينة نيوم في أول زيارة له للمدينة، وكأول رئيس يقوم بزيارتها، إنما يمثل تكليلا لمبادرات مشتركة قادها ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، وذلك من أجل إعادة هيكلة الإقليم وتبديل نمط تفاعلاته عبر تعزيز أدوار المملكة في إطلاق وقيادة المشاريع العابرة للحدود، وذلك على نحو أعاد اكتشاف أهمية العلاقات السعودية – المصرية على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية.

 
font change