الحياة في دمشق بعد 8 أعوام من أزمتها الكبرى

«المجلة» تتجول في المدينة بعد الحرب

الحياة في دمشق بعد 8 أعوام من أزمتها الكبرى

* أقدم عاصمة في العالم تنفض عنها غبار الحرب... وتستعيد لقب «مدينة الياسمين».
* مدرسة «ابن ميمون» إشارة إلى عمق التراث العربي اليهودي، الذي يمتد من قرطبة حيث ولد «الرئيس موسى» الفيلسوف ورجل الدين والمؤلف، إلى قلب دمشق القديمة.
* دمشق تستحضر روح طائر الفينيق الذي يولد من الركام ليحلق عاليًا؛ بعد شبه موت سريري.
* من قواعد زيارة دمشق الأساسية في عصر سياحة ما قبل أو بعد الحرب، الذهاب إلى سوق الحميدية، تلك السوق المسقوفة التي تأسست عام 1780.
* لم يزر دمشق قط، من لم يدخل في تجربة الحمام الدمشقي. لعل التجربة تكون أكثر أصالة وحفاوة ودقة عندما تختار أقدم الحمامات. حمام نور الدين الشهيد.
* زيارة دمشق مغامرة شيقة، تعيد فيها اكتشاف سوريا ما بعد الحرب. أما عصر السلام الكامل فإنه، سيستغرق مزيدًا من الوقت.

دمشق: لم يخطئ الكاتب الأميركي الساخر ذائع الصيت مارك توين عندما زار دمشق عام 1869 واصفًا إياها بقوله: «لقد عاشت دمشق كل ما حدث على الأرض ولا تزال تحيا»، وذلك في كتابه «أبرياء في الخارج».
مدينة عجيبة هي دمشق «مدينة الياسمين»! فلم يمض أقل من 5 أشهر على الاتفاق بانسحاب فصائل المعارضة السورية من ريف دمشق مع حكومة النظام السوري واستعادة الأخيرة قبضتها على كامل دمشق وريفها؛ حتى دبت الحياة الطبيعية في أوصالها بسرعة مذهلة، وكأن أقدم عاصمة في التاريخ تستحضر روح طائر الفينيق الذي يولد من الركام ليحلق عاليًا؛ بعد شبه موت سريري عانى منه سكان المدينة وريفها نحو 7 سنوات على شكل موت وخراب وتهجير وتفجير.
صحيح أن آلام الحرب وجروحها باقية في الأذهان ولا تمر لحظة إلا ويتذكر أحدهم فقدان قريب أو صديق أو منزل أو متجر أو مصنع أو حتى سيارة، إلا أن إرادة الحياة أقوى لدى سكان تلك المدينة العريقة. فما هي حالة مدينة الياسمين هذه الأيام؟
 

أحد الفنادق التراثية في دمشق القديمة «المجلة»


 
الوصول إلى دمشق
لن يكون اتخاذ القرار بزيارة دمشق سهلا، فالحدود البرية مع الدول المجاورة؛ باستثناء الحدود اللبنانية، مقطوعة. أما حركة الطيران فمحدودة، وتقصر على ما تبقى من وجهات تستطيع مؤسسات الطيران العربية السورية (الحكومية) أو أجنحة الشام (الخاصة) الوصول إليها. فالتوجه إلى دمشق يتم عبر مطار بيروت، ثم استكمال الرحلة برًا عبر الحدود اللبنانية، وهو ما يفعله أغلب الناس، أو ترتيب رحلات ترانزيت عبر مطارات محددة مثل بغداد.
تبدو لوحة الإعلانات في مطار دمشق برحلات محدودة، على عكس ما كانت عليه الأمور قبل الأزمة، حين كان الطيران الخليجي والعربي والأوروبي يطلق رحلاته من دمشق وإليها.
وكانت المفاجأة برؤية سائح مصري في المطار مع ابنه وزوجته، حيث قال بلهجته المصرية: «رجعت لبلدي الثاني بعد غياب. أبي ولد أيام الوحدة بين البلدين (1958 - 1961) في دمشق، ولسوريا مكان خاص في قلوب أفراد عائلتي خاصة وقلوب المصريين بشكل عام».
ستدهمك بعض آثار المعارك في قرى الغوطة الشرقية المحيطة بالمطار، وستجد في الوقت ذاته ورشات العمل وهي تعيد إصلاح ما خربته الحرب، وبخاصة في منطقة المطاعم القريبة من مطار دمشق. محادثتك مع سائق تاكسي المطار، ستعلمك بالكثير عن الأيام الصعبة عندما كان طريق المطار مقنوصًا وكيف أن الكثيرين فارقوا حياتهم على الطريق ذاته الذي تسلكه الآن. سيخبرك أيضًا عن تزايد الرحلات والمسافرين، وبخاصة العام الجاري، وهو مؤشر على بداية واعدة. العرب الذين يأتون لزيارة دمشق أغلبهم من العراقيين والأردنيين.

 

الزقاق الضيق في حارة اليهود «المجلة»


 
فنادق دمشق التراثية
ما رأيك أن تقيم في منزل شامي عتيق يصل عمره إلى أكثر من 300 عام؟ هذه التجربة الفريدة متاحة وممكنة الآن في تلك البيوت التي حوّلها أصحابها إلى فنادق ضمن المدينة القديمة، سواء في باب توما أو باب شرقي أو القيمرية أو حي الأمين (حارة اليهود). تلك الفنادق منتشرة في تلك الأحياء، وتوفر خيارًا جميلاً للإقامة المريحة.
لا بوابات إلكترونية ولا لوحات عملاقة، تطرق بابًا عاديا تبدو عليه ملامح عتيقة، وما إن تدخل حتى تصل إلى أرض الديار (باحة المنزل) التي تتوسطها البحرة (النافورة المنزلية) يتلوها الإيوان (المجلس الشامي). عبق أشجار الليمون وعبير الياسمين يحيطانك بالروائح الزكية أينما جلست في أرض الديار.
ليست هناك بطاقة ذكية للدخول إلى غرفتك، بل مفتاح معدني يحمل اسم غرفتك أو جناحك. وما إن تدخل إلى الغرفة حتى تجد أنك عدت قرونًا إلى الوراء. كل ما في الغرفة متقن الصنع، من الثريا إلى السرير الخشبي العتيق إلى خزانة الملابس والطاولات الخشبية. مقاعد الموزاييك واللوحات التراثية والأواني النحاسية والتحف اليدوية، تزين المكان. أنت الآن في غرفة سكنتها أجيال وأجيال قبل قرنين أو ثلاثة قرون، أشخاص عاشوا فيها وفرحوا وحزنوا وعشقوا وتزاوجوا وأنجبوا. كيف كانت حياتهم قبل الكهرباء والهواتف والإنترنت؟ أين هم الآن؟ لا أحد يعرف!
الإنترنت والكهرباء والحمامات الحديثة والثلاجات والتلفزيونات ومكيفات الهواء، كلها متوفرة في غرفتك، ولن ينقصك شيء منها.
يقول طوني مزنر، مالك فندق بيت المملوكة في منطقة باب توما، وهو أول فندق تراثي في دمشق القديمة لـ«المجلة» إن عائلته لديها تراث في صناعة البروكار (نوع من القماش تنفرد به دمشق، يصنع من الحرير وخيوط الذهب والفضة) المتعلقة بالسياحة والسائح، مضيفًا: «منذ نحو 11 أو 12 عامًا، أحببت أن أطور مجال عملي ودخلت إلى مجال الفندقة وامتلكت أول فندق في دمشق القديمة. الفنادق موجودة في كل أنحاء العالم، لكن ليس هناك بيت شامي إلا في الشام فقط، فالسائح يجد شيئا مميزًا من حيث الفن العمراني والثقافة التاريخية التي تشده إلى هذا النوع من فنادق (البوتيك)، وهكذا نستعرض حضارة دمشق وتاريخنا وثقافتنا أمام السائح المحلي أو العربي أو الغربي، الذي يقبل بامتياز على هذا النوع من الفنادق».
يؤكد مزنر أن السائح إلى سوريا يكون من النوع الديني أو الثقافي، ويريد أن يتعرف إلى تاريخ سوريا العريق، وبالذات دمشق، وهي أقدم عاصمة في التاريخ. فالسائح الذي يقيم في الفندق التراثي، يعيش التجربة ويختبر دمشق القديمة بكل تفاصيلها.
يعترف مزنر بوجود بعض الصعوبات المرتبطة بإدارة وتهيئة الفنادق التراثية بقوله: «على عكس الفنادق العادية التي تمكنك من إنشاء حجرات خاصة لمولد الكهرباء أو خزانات وقود التدفئة، تبدأ الصعوبات مع البيت الشامي القائم أصلاً والذي يراد تحويله إلى فندق، فيبدأ البحث عن حلول لإيجاد أماكن لوسائل التخديم، فإنه محدود بمساحة معينة وطابع شرقي تراثي لاينبغي المساس به».
كما يبدي تفاؤله بالمستقبل السياحي للبلاد بقوله: «سوريا رائدة في مجال السياحة وستعود إليها السياحة.

 

إحدى باحات قصر فارحي الشهير «المجلة»


 
شغف المدينة القديمة
لدمشق أبواب سبعة، بناها الإغريق والرومان، قبل آلاف السنين، ولا تزال النقوش الأصلية عليها، وكأنها بنيت لتبقى بغض النظر عمن يحكم المدينة. إنه جزء من خلود تلك المدينة الساحرة. الأبواب هي الفراديس والجنيق وتوما وكيسان وشرقي والصغير والجابية، بني كل منها باسم إله من آلهة الميثولوجيا الإغريقية والرومانية، ثم عربت أسماؤها بعدما دخل العرب إلى دمشق، واحتفظت بالأسماء الجديدة إلى الآن. هذه الأبواب تحتضن دمشق القديمة، فمن أي باب دخلت، وأنى توجهت، فلن تفوت لحظة واحدة من السحر المتواصل، ستجد نفسك في عالم آخر، إنها روح دمشق الحقيقية، حيث المباني العتيقة والمساجد الإسلامية بتلاوينها المذهبية والكنائس المسيحية بطوائفها الكثيرة والكنس اليهودية. فالأماكن متقاربة جدًا وحركة الناس والبضائع والمركبات والدراجات النارية، تسير على قدم وساق.
ما إن تدخل إلى حي الأمين (حارة اليهود) من الباب الشرقي أو باب توما، ستجد روزا اليهودية ذات الـ95 عامًا، تطلب الماء البارد من جارها أبو جورج الذي يكون مشغولاً مع زبونه أبو حيدر. أبو طوني الفلسطيني يقف أمام دكانه، ليتجادل مع جاره أبو عمر حول الأيام الحارة وتأخر الخريف. تدخل عبر «الزقاق الضيق»، وهو ضيق بالفعل، لتجد فتاة متبرجة ترتدي الملابس الصيفية ذات الأسلوب العصري، وتمر بجانبها سيدة ترتدي النقاب في وئام ومنظومة اجتماعية تحمي خيارات الأفراد الشخصية. وقد تكون بضيافة أسرة مسلمة، يقول لك أفرادها إنهم تلقوا التحيات والتهاني بعيد من الأعياد الإسلامية من جيرانهم الذين لا يشاطرونهم المعتقد.
تدخل إلى بيت فارحي المعلم، الدمشقي اليهودي الذي كان وزير مالية دمشق في حقبة الاحتلال العثماني بالقرن 18. فيذهلك سحر المعمار وتقف متسمرًا أمام نقوش جدرانه وسقوفه. صحيح أن عمر البناء يصل إلى أقل بقليل من 300 عام، إلا أن جماله وأبهته تتعتق مع مرور السنين من الأقواس العالية في مكان إلى البحرات إلى غرف تموين الطعام والطابق العلوي. بيت مليء بالأسرار والكنوز وكأنه قصر هارب من ألف ليلة وليلة، حيث يلتقي الجمال بالمال بالسلطة بالبنيان المهيب.
تمر على مدرسة «ابن ميمون» وكأنها إشارة إلى عمق التراث العربي اليهودي، الذي يمتد من قرطبة حيث ولد «الرئيس موسى» الفيلسوف ورجل الدين والمؤلف، إلى قلب دمشق القديمة.
تمر على «بيت ليزبونة»، فتسأل من تكون ليزبونة؟ قد لا تتمكن من الدخول من الباب الأسود الموصد، لكن ستعرف أنه قصر تراثي يعود لأوائل القرن التاسع عشر، كان بداخله كنيس ثم احتضن مدرسة لاحقًا لأبناء الطائفة الموسوية حتى تسعينات القرن الفائت. لم يتوفر الجواب إن كانت «ليزبونة» هي مدينة لشبونه البرتغالية أم أنها امرأة أم أن هناك إشارة لشيء ما في التراث العبري!
 
 

مدرسة ابن ميمون في حارة اليهود «المجلة»


غاليري مصطفى علي
يداهمك في حي الأمين محترف ومعرض فني للنحات السوري العالمي مصطفى علي. لن تتردد في الدخول، ستجد قطيعُا من السلاحف السريعة ترحب بمجيئك! إنه منزل تراثي قديم، حوله النحات إلى نقطة جذب سياحي وفني، يقدم ما يطلق عليه «المسؤولية الفنية» تجاه المجتمع. هذا الغاليري نقطة مضيئة في قلب دمشق القديمة.
تحدثك مضيفتك اللبقة داخل الغاليري، وتأخذك في جولة وتتيح لك طرح ما تشاء من الأسئلة. المنحوتات، تتنوع بين الخشب والحجر والمعدن. كل منها يحكي رموزًا وقصصًا، ربما بعضها لم يكن في ذهن النحات نفسه، فتذوق الفن اجتهاد. تشير المضيفة إلى بعض القطع التي نصبت في معارض عالمية، وجوه خشبية تحاكي حالات إنسانية معقدة أو بسيطة أو منحوتات لنماذج حية، استغرق عملها أشهرًا من الإبداع.
تنزل إلى القبو، حيث تعقد صفوف تعليم الرسم لأبناء الحي، فيجمعهم الفن ويعمّق وحدتهم الوطنية، أو مناسبات إطلاق الكتب أو الحفلات الموسيقية. في العلية، مجموعة غرف، لو أنها تحولت إلى نزل أو فندق بوتيك لصار بإمكان المرء أن يعيش وسط الفن وينام في غرفة مشبعة بروح الفن الأصيل، عدا عن أن عمر الغرف يعود إلى قرون خلت. القبو بارد جدًا في عز صيف دمشق.
 

منحوتات في غاليري مصطفى علي في حي الأمين «المجلة»


تودعك المضيفة وتهم بالخروج، ليقابلك رجل لطيف يرتدي ملابس صيفية خفيفة، يقرؤك السلام ويتعرف عليك بتواضع جم، إنه ذاته النحات السوري مصطفى علي. يحدثك عن الفنون التي يعشقها والمعارض التي يتهيأ للذهاب إليها. صحيح أنه ابن الساحل السوري، لكنه معجون بحب دمشق القديمة. يحدثك عن دور اجتماعي ترفيهي مدني يقوم به المحترف، سواء في تثقيف الأطفال فنيًا أو فتح المجال للمهارات الصاعدة. يكثر من الكلام حول عودة الروح إلى المدينة والدخول إلى عصر السلام والازدهار من جديد.
إنه يعمل أيضًا على إقامة معرض يعالج القضية السورية بأسلوبه الفني في النحت. قد تجد غسالة مكرمشة، وتسأل ماهذا؟ لينقل لك رسالة مفادها أن الأذى طال كل شيء في البلاد، وأن الحل يكمن في التمسك بعقيدة السلام.
يخبرك كيف أن الفن السوري ظل يعمل حتى في ظروف الحرب، وأن هناك مساهمات ومنحوتات في عز أيام الحرب، معروضة في دبي وغيرها، وكأن الفن يصل سلسًا نقيًا، ولو كانت الحروب مشتعلة.
ويتفاءل بافتتاح المزيد من الفنادق التراثية، التي تحيي الطابع المميز للبيت الشامي، وتخلق فرص عمل لأبناء الحي.
 

سوق الحميدية «المجلة»

 
الحميدية... أشهر أسواق الشرق
من قواعد زيارة دمشق الأساسية في عصر سياحة ما قبل أو بعد الحرب، الذهاب إلى سوق الحميدية، تلك السوق المسقوفة التي تأسست عام 1780 أيام الإمبراطور العثماني عبد الحميد الأول. إنه أشهر أسواق الشرق العتيقة، وهو قلبها النابض ومؤشر اعتلالها وصحتها. ستجد من الباعة من يقبل عليك ويخمن احتياجك من الشراشف أو البيجامات أو الأقمشة أو العباءات الرجالية (المشالح)، وإن كانت الأخيرة كسدت مع غياب السائح الخليجي. لا تقنط من الاكتظاظ في السوق وحركة عربات البضائع وتزاحم الأقدام وأصوات الباعة والصغار وتلون جدرانه وسقفه بالرايات، إنه ما يضفي عليه سحر الشرق.
ستواصل مسيرك في الحميدية حتى تصل إلى جامع بني أمية الكبير، حيث يختزل الثقل الديني والعربي لسوريا. إنه رمز لمملكة العرب الحقيقية الأولى بعد ظهور الإسلام خارج الجزيرة العربية. ولعل لقطة لمئذنة الجامع الأموي بين أعمدة معبد جوبيتر الروماني، ستختزل لك ثبات هوية البلاد منذ العصر الأموي. فقد بنيت على أطلال «جوبيتر» كاتدرائية، ثم بني الأموي فوقها، معلنًا نهائية الكيان العربي للبلاد، التي لم تخدشها عصور الاحتلال الأجنبي كالمغولية والعثمانية والمملوكية. وظل الأموي شامخًا، لم ينقطع عن الاتصال بالسماء في أسوأ الظروف التي مرت على البلاد، وحتى في أيام الحرب المريرة، ويستمر الأموي في أداء رمزيته في أيام السلم المرتقبة.
على مقربة منه، بإمكانك زيارة قصر العظم، الذي بناه أسعد باشا العظم عام 1749 ليكون مقر سكنه بعد تعيينه واليًا على دمشق من جانب النظام العثماني الحاكم آنذاك. إنه مليء بالمنحوتات التي تجسد حياة الوالي اليومية، منذ أن يستيقظ وحتى يخلد إلى النوم مع منحوتات تجسّد واقع الحياة اليومية في القرن الثامن عشر الميلادي.
تعود إلى الوراء قليلاً لتتفرع من الحميدية إلى سوق البزورية، هذه السوق الزاخرة بروائح توابل الشرق والغرب والمكسرات والصابون والزعتر ومشاهد الحلوى اللذيذة بألوانها الزاهية مثل المنٍّ والسلوى وراحة الحلقوم ولفائف النوغا بالجوز واللوز والجيلي. تتجول بين المتاجر العتيقة، فتغمرك بعبق الماضي، ولا تشعر بأن هذه السوق في بلد يعاني من ظروف الحرب القاسية. كلمات مثل «تفضل» و«أهلاً وسهلاً» و«عندنا بضائع تعجب ذوقك» هي أكثر ما يرد على ألسنة الباعة. ويقع في هذه السوق حمام نور الدين الشهيد، ذلك الحمام العريق الذي أنشئ أيام الأيوبيين.

 

الكنيسة المريمية في باب توما «المجلة»


الحمام التقليدي
لم يزر دمشق قط، من لم يدخل في تجربة الحمام الدمشقي. لعل التجربة تكون أكثر أصالة وحفاوة ودقة عندما تختار أقدم الحمامات. حمام نور الدين الشهيد، أسسه قبل 849 عامًا الوالي نور الدين زنكي المعروف بنور الدين الشهيد كما تقول لافتة الحمام عام 1165 للميلاد (565 للهجرة).
يبدأ أخذ الحمام بتغيير الملابس وارتداء الفوط القطنية، ثم التوجه إلى الساونا لمدة 5 أو 10 (بحسب طاقة تحملك) لتتفتح مسام البشرة وتستعد للجولة المقبلة من الحمام.
تدخل بعد الساونا إلى الجاكوزي بغرض «النقع في الماء» وتطرية البشرة وتهيئتها للبخار، حيث تدخل إلى غرفة تعلوها قبة، يملؤها البخار الذي يخترق مسامات البشرة؛ حتى إنه يصعب عليك أحيانًا رؤية بقية المستحمين. وسوف يوصيك موظف الاستحمام بضرورة رش الماء الدافئ على الجسد كلما شعرت بالحرارة عبر غرف الماء من الأوعية الحجرية المنتشرة في كل مكان. وبإمكانك البقاء مستمتعًا بالبخار ما شئت وحسب تحملك أيضًا.
وتأتي بعدها مرحلة «المكيس»، وهو الشخص الذي يستخدم كفًا أسود اللون، حيث تستلقي أمامه على الأرض ليقوم بفركك بشدة، فتلاحظ بقايا الجلد الميت وهي تلتصق بك على كامل أنحاء الجسد. ثم يوافيك بالماء لتنظيف ما علق على الجسد. قد تشعر ببعض الشدة والألم الخفيف، وبإمكانك إخبار المكيس عن تخفيف حدة التكييس. سيخبرك المكيس أنه سيجعلك مشرقًا مضيئًا، يخرج النور منك!
لم ينته الأمر بعد، فلا تزال أمامك مرحلة «المليف»، الذي يفرك الجسم بالليفة والصابون. يمكنك طلب المساج الزيتي قبل التلييف كخدمة إضافية، وهو أمر منصوح به، فالمساج يرخي العضلات ويخفف الآلام، وبخاصة الرقبة والظهر. إنها متعة خالصة، تكتمل معها متعة الحمام التقليدي. وبعدها يأتي دور التلييف بالصابون، الذي يغرق جسمك ويشمل كل أنحاء الجسد لتشعر بكامل النظافة الناصعة بعد أن يغرقك المليف بالماء ويضربك ضربتين خفيفتين بيده، معلنا انتهاء الحمام. مسك الختام بعد التنشيف، هو رشة من ماء الورد على الوجه والجزء العلوي من الجسد، تمنحك الشعور بالانتعاش.
ولكن، بقيت المرحلة النهائية، وهي لف الجسم بالمناشف وتعصيب الرأس، والذهاب إلى المجلس، لشرب فنجان لذيذ من الزهورات أو البابونج أو الشاي الساخن على أنغام القدود الحلبية لصباح فخري. وهناك من يطلب تدخين التنباك أو المعسل، وهناك من يتناول الغداء أو يأخذ قيلولة سريعة!
لم يتوقف الحمام ولو ليوم واحد؛ حتى أثناء اشتداد حمى المعارك، وهذا أمر غير مستغرب، فهذا الحمام لم يتوقف عن العمل منذ العصر الأيوبي وحتى عصرنا الحاضر.
 

أطفال يلهون في حي الزاهرة جنوب دمشق «المجلة»


 
وسط دمشق ومحيطها
يمكن القول إن الحياة الطبيعة عادت إلى مركز المدينة وساحاتها الرئيسية التي عانت كثيرًا في أيام الحرب. الساحات الرئيسية مثل الأمويين والشاهبندر والمحافظة وغيرهاـ، تضج بالمركبات، وموظفو الشركات الخاصة والقطاعات العامة بتجهون إلى أعمالهم كالعادة. لن ترى أي آثار للحرب في وسط المدينة، فقد ظلت بعيدة نسبيًا عن تبادل إطلاق النار المباشر، الذي يتسبب بهدم الأبنية وتدميرها. لكن إذا ابتعدت قليلاً لتصل إلى تخوم دمشق مع الريف، فسترى أمثلة كثيرة على معارك شرسة تشمل مدينة حرستا التي كانت تحتضن وكالات السيارات، فلا تجد أي بناء قائم. أما إذا اتجهت جنوبًا فستجد مناطق صناعية مدمرة بالكامل، بكل ما فيها، وتشعر لوهلة بأنك في برلين المدمرة عام 1945.
كما أنه ليس من السهل الدخول إلى بعض مناطق الريف، فهناك إجراءات أمنية مشددة بسبب تفجير الألغام والأنفاق والعبوات الناسفة. الخدمات الكاملة لم تعد بعد إلى بعض المناطق جنوب دمشق، لكن يمكن مشاهدة ورش الصيانة وهي تزيل مخلفات الأبنية المدمرة وتعبيد الطرق وإنارتها. يبدو أن الأمر يحتاج إلى الكثير من الأموال لإعادة تهيئة البنية التحتية.

حمام نور الدين الشهيد في سوق البزورية «المجلة»

 
الوضع المعيشي
تسمع الشكوى من غلاء المعيشة وارتفاع مستويات التضخم من سائقي التاكسي والموظفين بشكل خاص، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى انخفاض سعر العملة المحلية. فسعر الليرة كان يبلغ نحو 45 ليرة مقابل الدولار، أما الآن فهي بحدود 440 ليرة لكل دولار. لم تتحسن الأجور بالقدر الذي يواكب انخفاض قيمة العملة، إذ إنها لم تتضاعف بالقدر نفسه.
لكن رغم ذلك، ستجد أن المراكز التجارية الكبرى مليئة بالمتسوقين، وكذلك المطاعم والمتاجر، ويبدو أن ابتعاد مدينة دمشق وسكانها وتجارها عن الانخراط في الصراع بشكل مباشر، ساهم في الحفاظ على الأملاك والأرزاق واستمرار الأعمال التجارية، الأمر الذي خفف تأثيرات الحرب الإنسانية على المدينة. هناك طبقة جديدة نشأت خلال الحرب، قوامها الأغنياء الجدد (new money) الذين يزدهرون على هامش الحروب مثل تلك الطبقات التي نشأت في لبنان وكمبوديا والعراق خلال الحروب. إنهم يركبون أفخم السيارات ويلبسون أحدث الملابس العصرية ويتحدثون بلغة الدولار فقط!
 

أحد المنتجعات الفاخرة في اللاذقية «المجلة»


 
إطلالة على اللاذقية
تبدو زيارة اللاذقية أمرًا حتميًا لهواة البحر والرياضات البحرية. أول شعور يخالجك إثناء زيارة اللاذقية هو أنها «المدينة التي لم تدخلها الحرب»، فهي قلعة النظام الحصينة. هذه المدينة الساحلية تبدو خالية من الحواجز الأمنية والتنقل فيها سهل ومتاح في أي وقت في النهار والليل.
لا تكتفي اللاذقية بأنها المصيف الساحلي الأول في كل سوريا، التي تحفل بالمنتجعات والشاليهات والفنادق، ويؤمها السوريون من كل أنحاء سوريا، بل إنها ملجأ لمئات الألوف من المهجرين من إدلب وحلب.
الاستجمام على شاطئ البحر المتوسط مريح للنفس ومبهج للعين. ترى التنوع السوري واضحًا فيها، فالجميع يذهبون إلى هناك. ترى الأطفال يلهون في الماء ومن حولهم السابحون والسابحات بثياب البحر أو بالملابس والحجاب، لا أحد يكترث، وحرية اختيار أسلوب الحياة مكفولة للجميع بلا استثناء، فالكل آت بهدف الاستمتاع وقضاء أوقات لطيفة.
وإذا أقمت في أحد المنتجعات الفاخرة ذات النجوم الخمسة، فلن يكلفك ذلك أكثر من 100 دولار للغرفة المزدوجة في الليلة الواحدة. وإذا سألت عن مالك المنتجع، فستعرف أنه رجل أعمال سعودي شهير، ما يعني أن الاستثمارات السعودية في المناطق البعيدة عن الصراع لا تزال تعمل كالمعتاد.
حفلات الطرب والسهر منتشرة في أوصال المدينة بشكل يفوق ما كانت عليه الأمور قبل الأزمة السورية. وعندما تسأل الساهرين، وأغلبهم من المحافظات السورية الأخرى، فإنهم سيجيبونك أن الناس صاروا يقبلون على السهر أكثر من ذي قبل لأنهم يريدون نسيان ما حل ببلادهم ويريدون أن يستمتعوا بحياتهم، فقد مرت عليهم لحظات كان الموت قريبًا منهم بفارق ثوانٍ!
 

مصطافون على شاطئ اللاذقية «المجلة»


 
احتياطات الحجز والإنفاق
هناك مشكلة في الحجز الفندقي تتمثل في غياب الفنادق السورية عن مواقع وتطبيقات الحجز الشهيرة مثل بوكينغ وأغودا وغيرها. ويعود الأمر في ذلك إلى عدم القدرة على تثبيت الحجز بالبطاقة الائتمانية بسبب العقوبات الأوروبية على البلاد، التي أوقفت شركتي ماستركارد وفيزا عن العمل في سوريا.
لذلك، يمكنك اختيار فندقك عبر البحث في الإنترنت والاتصال بالفندق وتأكيد الحجز عبر الهاتف، وكأنك في سبعينات أو ثمانينات القرن الماضي!
الدفع يتم نقدًا فقط، لذلك عليك أن تحمل مصروف الرحلة كاملاً نقدًا، فلا بطاقات ائتمانية ولا بطاقات صرف آلي بعد خروج المصارف السورية من شبكات إدارة النقد العالمية.
الحل المثالي هو حمل مصروف الرحلة بالدولار كخيار أول واليورو كخيار ثانٍ. متاجر صرافة العملة مفتوحة وبإمكانك التحويل إلى الليرة السورية بكل سهولة.
بالنسبة للتنقل، ستجد أن سيارات الأجرة متوفرة بكثرة طوال 24 ساعة. وهناك خيار آخر يتمثل في استخدام تطبيق «وصلني» الذي أنشئ بخبرات سورية محلية، وهو يماثل في جودته وكفاءة استخدامه تطبيقات مثل «كريم» و«أوبر»، لكن الدفع يتم نقدًا، وهو خيار توفره التطبيقات العالمية ذاتها.
لا شك أن زيارة دمشق مغامرة شيقة، تعيد فيها اكتشاف سوريا ما بعد الحرب. أما عصر السلام الكامل فإنه، سيستغرق مزيدًا من الوقت!

font change