انتحار فنزويلا

دروس من دولة فاشلة

انتحار فنزويلا

* في ظل قيادة هوغو شافيز وخليفته نيكولاس مادورو، تعرضت فنزويلا إلى مزيج مسموم من سياسات مدمرة عشوائية.
* في ظل حكم شافيز، تبنت الدولة نموذجًا اشتراكيًا بقوة، ونبعت كل الكوارث التالية من هذا الخطأ الأصلي.
* مهدت عقود من التراجع الاقتصادي التدريجي الطريق أمام شافيز، وهو ديماغوغي ذو كاريزما يؤمن بآيديولوجيا بالية، لتولي السلطة وإقامة نظام حكم استبدادي فاسد.
* استنفد الأداء الاقتصادي المبهر الذي حققته فنزويلا على مدار خمسة عقود قبل السبعينات من القرن الماضي طاقته، وبدأ الطريق إلى الطبقة الوسطى في الضيق.
* كان عمال صناعة النفط أول من دق ناقوس الخطر بشأن ميول شافيز الاستبدادية. وأعلنوا إضرابًا في عامي 2002 و2003، مطالبين بإجراء انتخابات رئاسية جديدة.
* قوّض مادورو الحريات الاقتصادية كثيرًا ومحا كل الآثار المتبقية للليبرالية في سياسة البلاد ومؤسساتها. واستمر بل وتوسع في نهج شافيز بإصدار قرارات اعتقال المعارضين.
* إن إعادة دولة كانت تقف على حافة الانهيار ليس بسيطًا أو سريعًا قط.


دولتان في أميركا اللاتينية: الأولى من أقدم وأقوى الأنظمة الديمقراطية في المنطقة. وهي تفخر بأن لها نظام أمان اجتماعي هو الأقوى بين الدول المجاورة وتحقق تقدمًا في وعدها بتقديم نظام رعاية صحية وتعليم عال مجانيين إلى جميع مواطنيها. كما أنها نموذج للحراك الاجتماعي وجاذبة للمهاجرين من جميع أنحاء أميركا اللاتينية وأوروبا. وتتمتع صحافتها بالحرية ونظامها السياسي منفتح؛ وتتنافس الأحزاب المعارضة بقوة في الانتخابات وتتبادل السلطة سلميًا بانتظام. وقد تجنبت موجة الطغم العسكرية التي اجتاحت بعض دول أميركا اللاتينية بأنظمتها الديكتاتورية. وبفضل التحالف السياسي القديم والعلاقات التجارية والاستثمارية العميقة مع الولايات المتحدة، أصبحت مقرًا لعدد كبير من الشركات متعددة الجنسيات في أميركا اللاتينية. كذلك بها أفضل بنية تحتية في أميركا الجنوبية. ومع أنه من الواضح أنها لا تزال دولة نامية، بها قدر من الفساد والظلم وانعدام الكفاءة، فهي متقدمة كثيرًا عن دول أخرى فقيرة بكل المقاييس.
أما الدولة الثانية، فهي من أفقر دول أميركا اللاتينية وبها أحدث نظام ديكتاتوري. مدارسها مهجورة تقريبًا، ونظامها الصحي دمرته عقود من نقص الاستثمار والفساد والإهمال. كما عادت إليها أمراض تم القضاء عليها منذ فترة بعيدة مثل الملاريا والحصبة. تملك نخبة محدودة فقط قدرة على شراء الطعام. وتفشى فيها العنف، مما جعلها واحدة من أكثر البلدان دموية في العالم. وهي أكبر مصدر لهجرة اللاجئين من أميركا اللاتينية منذ جيل مضى، إذ هرب ملايين المواطنين في الأعوام الأخيرة وحدها. لا يعترف أحد (بخلاف الحكومات الاستبدادية الأخرى) بانتخاباتها الصورية، والقطاع المحدود من وسائل الإعلام الذي لا يخضع لسيطرة مباشرة من الدولة يتبع الخط الرسمي خوفًا من الانتقام. ومع نهاية عام 2018. سوف يكون اقتصادها قد انكمش بنحو النصف في الأعوام الخمسة الأخيرة.
هذه الدولة مركز لتهريب الكوكايين، وأدينت شخصيات بارزة في نخبتها السياسية في الولايات المتحدة في اتهامات تتعلق بالمخدرات. كذلك تتضاعف الأسعار كل 25 يومًا. ويظل مطارها الأساسي مهجورًا إلى حد كبير، إذ يستخدمه عدد محدود من شركات الطيران المحتكرة التي تحمل قلة من الركاب من وإلى العالم الخارجي.
هاتان الدولتان في الواقع هما دولة واحدة هي فنزويلا، ولكن في عصرين مختلفين: مطلع السبعينات من القرن الماضي واليوم. إن التحول الذي مرت به فنزويلا جذري وكامل وشامل إلى درجة أنه من الصعب تصديق أنه وقع من دون حرب. ما الذي حدث لفنزويلا؟ وكيف أصبحت الأمور بهذا السوء؟
الإجابة الموجزة هي «الشافيزية». في ظل قيادة هوغو شافيز وخليفته نيكولاس مادورو، تعرضت البلاد إلى مزيج مسموم من سياسات مدمرة عشوائية، ونظام استبدادي متصاعد والسرقة الحكومية، وجميعها تحت قدر من النفوذ الكوبي أحيانًا ما يشبه الاحتلال. يمكن أن تسفر أي من هذه السمات عن مشاكل خاصة بها. وعندما امتزجت جميعًا كانت الكارثة. اليوم أصبحت فنزويلا دولة فقيرة وفاشلة ومجرمة يحكمها مستبد مدين لقوة أجنبية. الخيارات المتبقية لتغيير هذا الوضع ضئيلة؛ والخطورة الآن في اليأس الذي سوف يدفع الفنزويليين إلى تأييد إجراءات خطيرة، مثل غزو أميركي عسكري يمكن أن يزيد الوضع سوءًا.

 

رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو يشير بيده وهو إلى جوار رئيس كوبا ميغل دياز كانيل في أثناء مقابلتهما في قصر ميرافلوريس في كاراكاس، فنزويلا، مايو (أيار) 2018.


 
صعود الشافيزية
يرى الكثير من المراقبين أن تفسير أزمة فنزويلا بسيط: في ظل حكم شافيز، تبنت الدولة نموذجًا اشتراكيًا بقوة، ونبعت كل الكوارث التالية من هذا الخطأ الأصلي. ولكن انتخبت كل من الأرجنتين والبرازيل وتشيلي والإكوادور ونيكاراغوا وأوروغواي أيضًا حكومات اشتراكية في الأعوام العشرين الماضية. ومع أن كلا من هذه الدول تواجه مصاعب سياسية واقتصادية، فإنها جميعًا لم يحدث أن انهارت، بخلاف نيكاراغوا. بل يشهد الكثير منها ازدهارًا.
وإذا كان من غير الممكن تحميل الاشتراكية مسؤولية انهيار فنزويلا، فربما يكون النفط سببا في ذلك. تزامنت أكثر مرحلة كارثية في أزمة فنزويلا بصفة وثيقة مع الانخفاض الحاد في أسعار النفط العالمية الذي بدأ في عام 2014. ولكن هذا التفسير أيضًا غير كاف. فقد بدأ انهيار فنزويلا منذ أربعة عقود، وليس أربع سنوات. في عام 2003، انخفض الناتج المحلي الإجمالي للعامل بنسبة كارثية بلغت 37 في المائة عن أعلى معدل وصل إليه في عام 1978، وهو تحديدًا الانخفاض الذي دفع بشافيز لأول مرة إلى الرئاسة. علاوة على ذلك، عانت جميع دول العالم النفطية من صدمة دخل خطيرة في عام 2014 نتيجة هبوط أسعار النفط. ولكن فنزويلا هي الدولة الوحيدة التي لم تستطع تحمل الضغوط.
إن عوامل فشل فنزويلا أكثر عمقًا من ذلك. فقد مهدت عقود من التراجع الاقتصادي التدريجي الطريق أمام شافيز، وهو ديماغوغي ذو كاريزما يؤمن بآيديولوجيا بالية، لتولي السلطة وإقامة نظام حكم استبدادي فاسد على نمط الديكتاتورية الكوبية. وعلى الرغم من أن الأزمة تسبق صعود شافيز إلى السلطة، يجب أن يكون إرثه وتأثير كوبا في صميم أي محاولة لتفسيرها.
ولد شافيز في عام 1954 في عائلة تنتمي إلى الطبقة الوسطى الدنيا في بلدة ريفية. وأصبح ضابطًا عسكريًا بمنحة بيسبول وسرعان ما تم تجنيده سرًا في حركة يسارية صغيرة أمضت أكبر من عقد في التخطيط للإطاحة بالنظام الديمقراطي. واقتحم شافيز الوعي الوطني الفنزويلي في 4 فبراير (شباط)  عام 1993 عندما قاد محاولة انقلاب فاشلة. أودت به هذه المغامرة الفاشلة إلى السجن، ولكنه تحول إلى بطل شعبي مدهش يجسد الإحباط المتنامي جراء عقد من الركود الاقتصادي. وبعد حصوله على عفو، خاض الانتخابات الرئاسية كمرشح دخيل في عام 1998 وفاز باكتساح ليُنهي نظام الحزبين الذي عمل على تثبيت الديمقراطية الفنزويلية على مدار 40 عامًا.
 

لاجئون فنزويليون يحملون متعلقاتهم إلى كولومبيا عبر نهر تاتشيرا في ولاية تاتشيرا، فنزويلا، أغسطس 2015.

 
كان شافيز بارعًا في استغلال مشاعر السخط
ما الذي تسبب في تفجير الغضب الشعوبي الذي جلب شافيز إلى السلطة؟ الإجابة في كلمة واحدة: الاستياء. استنفد الأداء الاقتصادي المبهر الذي حققته فنزويلا على مدار خمسة عقود قبل السبعينات من القرن الماضي طاقته، وبدأ الطريق إلى الطبقة الوسطى في الضيق. وكما أشار عالما الاقتصاد ريكاردو هاوسمان وفرانسيسكو رودريغز: «بحلول عام 1970. كانت فنزويلا قد أصبحت أغنى دولة في أميركا اللاتينية، وواحدة من أغنى 20 دولة في العالم، إذ وصل نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي إلى معدل أعلى من إسبانيا واليونان وإسرائيل، وكان يقل عن بريطانيا بنسبة 13 في المائة فقط». وفي مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وضع ضعف سوق النفط نهاية لعصر النمو السريع. كان هبوط عائدات النفط يعني تخفيض الإنفاق العام، وتقليص البرامج الاجتماعية، وخفض قيمة العملة، وتضخما مفرطا، وأزمة مصرفية، وتصاعد البطالة، وضيق عيش الفقراء. ومع ذلك، عندما انتخب شافيز بلغ نصيب الفرد من الدخل القومي نسبة جعلت فنزويلا في المرتبة الثانية بعد الأرجنتين.
يشير تفسير آخر شائع لصعود شافيز إلى أنه كان بدافع من رد فعل الناخبين ضد انعدام المساواة الاقتصادية والتي تسبب بها بدوره الفساد المتفشي. ولكن عندما وصل شافيز إلى السلطة، كان توزيع الدخل أكثر مساواة من أي دولة مجاورة. وإذا كان انعدام المساواة يحدد النتائج الانتخابية، لكان مرشح على شاكلة شافيز أكثر احتمالاً للفوز في البرازيل أو تشيلي أو كولومبيا، حيث كانت الفجوة بين الأثرياء وجميع الآخرين أكبر.
ربما لم تكن فنزويلا على وشك الانهيار في عام 1998، ولكنها كانت في حالة ركود، وتنزلق في بعض النواحي، في حين هبطت أسعار النفط إلى 11 دولارا فقط للبرميل، مما أدى إلى جولة تقشفية جديدة. كان شافيز بارعًا في استغلال الاستياء الناتج. وكانت تنديداته البليغة بانعدام المساواة والإقصاء والفقر والفساد والنخبة السياسية الراسخة تمس وترًا حساسًا لدى الناخبين المكافحين، الذين شعروا بحنين لفترة سابقة أكثر ازدهارًا. ولم تستطع النخبة السياسية والتجارية التقليدية القانعة غير البارعة التي كانت تعارض شافيز أن تنافس تأثيره الشعبي مطلقًا.
راهن الفنزويليون على شافيز. وما حصلوا عليه لم يكن شخصًا دخيلاً عازمًا على إنهاء الوضع الراهن فحسب، بل كان رمزًا يساريًا أميركيًا لاتينيًا سرعان ما أصبح له تابعون في جميع أنحاء العالم. وأصبح شافيز نجمًا جاذبًا ومُفسدًا للقمم العالمية، إلى جانب كونه زعيمًا لموجة عالمية متنامية من المشاعر المعادية للولايات المتحدة أشعلها غزو الرئيس جورج بوش الابن للعراق. في الداخل، كان شافيز بتأثير من عمله في الجيش يميل إلى السلطة المركزية وعدم تسامح بالغ مع المعارضة. وسعى إلى تحييد سياسيي المعارضة وكذلك الحلفاء السياسيين الذين تجرأوا على التشكيك في سياساته. وسريعًا ما رأى معاونوه إلى أين تتجه الرياح: اختفت النقاشات حول السياسات، وتبنت الحكومة أجندة راديكالية بقليل من التروي وفي غياب رقابة حقيقية.
كان المرسوم الرئاسي الذي صدر عام 2001 عن إصلاح الأراضي، والذي أصدره شافيز من دون تشاور أو نقاش، مؤشرًا على ما سيحدث بعد ذلك. فقد فكك المزارع التجارية الكبيرة وحولها إلى جمعيات زراعية تفتقد إلى المعرفة التقنية ومهارات الإدارة والوصول إلى رأس المال اللازم لزيادة الإنتاج. فانهار إنتاج الغذاء. وفي قطاع تلو الآخر، طبقت حكومة شافيز سياسات ذات نتائج عكسية مشابهة. وصادرت مشروعات النفط المملوكة للأجانب من دون تعويض، وأعطتها لشخصيات مُعينة سياسيا تفتقر إلى الخبرة التقنية اللازمة لإدراتها، وأممت المرافق العامة وجهاز تشغيل الاتصالات الرئيسي، مما ترك فنزويلا في حالة انقطاع مزمن للمياه والكهرباء وواحدة من أبطأ سرعات الاتصال بالإنترنت في العالم، واستولت على شركات الصلب، مما أدى إلى انخفاض الإنتاج من 480 ألف طن متري في الشهر قبل التأميم في عام 2008، إلى لا شيء في الوقت الحالي. وكذلك كانت النتائج مشابهة في شركات الألومنيوم وشركات التعدين والفنادق والخطوط الجوية.

 

الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو والرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز يطلعان على نسخة من جريدة «غرانما» الصادرة عن الحزب الشيوعي الكوبي في هافانا، كوبا، يونيو 2011.Caption


 
العلاقة بين كوبا وفنزويلا أكثر من مجرد تحالف
في كل شركة تمت مصادرتها تلو الأخرى، كان المديرون الحكوميون ينزعون الأصول ويضيفون إلى كشوف الرواتب عددًا من المقربين من شافيز. وعندما يقعون حتمًا في مشاكل مالية، كانوا يتقدمون بالتماس إلى الحكومة التي استطاعت إنقاذهم ماليًا. وفي عام 2004، كانت أسعار النفط قد ارتفعت مجددًا، وامتلأت خزائن الدولة بدولارات النفط، التي أنفقها شافيز من دون قيد أو حساب أو مساءلة. وفوق كل ذلك، كان يحصل على قروض سهلة من الصين، التي كانت سعيدة بمنح القروض لفنزويلا في مقابل إمدادها المضمون بالنفط الخام. وعن طريق استيراد كل ما عجز عن إنتاجه الاقتصاد الفنزويلي الذي يعاني من تدهور في قطاع الصناعة، والاقتراض لتمويل انتعاش الاستهلاك، استطاع شافيز حماية شعبه مؤقتًا من تأثير سياساته الكارثية والاحتفاظ بشعبية كبيرة.
ولكن الجميع لم يكونوا مقتنعين. كان عمال صناعة النفط أول من دق ناقوس الخطر بشأن ميول شافيز الاستبدادية. وأعلنوا إضرابًا في عامي 2002 و2003، مطالبين بإجراء انتخابات رئاسية جديدة. وردًا على هذه الاحتجاجات، فصل شافيز نحو نصف القوى العاملة في شركات النفط التي تديرها الدولة، وفرض نظامًا رقابيًا غامضًا على صرف العملة. وتحول النظام إلى مستنقع فساد، إذ أدرك المقربون من النظام أن مراجحة العملة للاستفادة من فارق سعر الصرف الحكومي والسوق السوداء يمكن أن يحقق ثروة هائلة بين عشية وضحاها. وأسفر هذا الكسب غير المشروع عن ظهور نخبة ثرية على نحو استثنائي من الفاسدين ذوي الصلة بالحكومة. وبينما أتقنت هذه الطبقة السارقة الناشئة نهب عائدات النفط ووضعها في جيوبها الخاصة، أصبحت أرفف المحلات الفنزويلية فارغة.
كان من الممكن التنبؤ بكل ذلك على نحو مؤلم، بل كان متوقعًا على نطاق واسع. ولكن كلما علا صوت ناقوس الخطر من الخبراء المحليين والدوليين، ازداد تمسك الحكومة بأجندتها. بالنسبة لشافيز، كانت التحذيرات الملحة من التكنوقراط إشارة إلى أن الثورة تسير على الطريق الصحيح.
 
تسليم الشعلة
في عام 2011. شُخِص شافيز بأنه مصاب بالسرطان. عرض كبار أطباء الأورام في البرازيل والولايات المتحدة أن يعالجوه، ولكنه اختار بدلاً من ذلك تلقي العلاج في كوبا، التي لم يأتمنها على علاجه فحسب، بل وعلى التكتم على حالته الصحية أيضًا. ومع تطور حالته المرضية، ازداد اعتماده على هافانا، ونما الغموض حول حقيقة وضعه الصحي. وفي الثامن من ديسمبر (كانون الأول) عام 2012. ظهر شافيز المريض لآخر مرة عبر التلفزيون ليعلن مادورو، نائب الرئيس حينئذ، خليفة له. وعلى مدار الشهور الثلاثة التالية، كانت فنزويلا تخضع لحكم ظلي وبتحكم عن بعد؛ إذ كانت القرارات تصدر من هافانا حاملة توقيع شافيز، ولكن لم يره أحد، وانتشرت التكهنات حول وفاته. وعندما أُعلن موت شافيز أخيرًا في الخامس من مارس (آذار) عام 2013. لم يكن واضحًا وسط أجواء من السرية والتكتم سوى أن قائد فنزويلا القادم سوف يكمل طريق النفوذ الكوبي.
كان شافيز يتطلع طويلاً إلى كوبا على أنها مخطط الثورة، وكان يلجأ إلى الرئيس الكوبي فيدل كاسترو طلبًا للنصيحة في الظروف الحاسمة. وبدورها، كانت فنزويلا ترسل النفط؛ إذ وصلت قيمة مساعدات الطاقة المقدمة إلى كوبا (والتي تمثلت في 115 ألف برميل يوميًا تباع بسعر مخفض للغاية) إلى مليار دولار سنويًا. أصبحت العلاقات بين كوبا وفنزويلا أكثر من مجرد تحالف. بل كانت، كما قال شافيز نفسه ذات مرة: «اندماجا بين ثورتين». (على غير العادة، كان الطرف القيادي في التحالف هو الأفقر والأصغر حجمًا من الطرف الآخر، ولكنه كان أكثر قدرة لدرجة أنه كان الطرف الغالب فيها) حرصت كوبا على أن تظل بصمتها خفيفة، وكانت تجري أغلب مشاوراتها في هافانا وليس في كاراكاس.
لم يغب عن انتباه أي شخص أن الزعيم الذي اختاره شافيز خلفًا له كان قد كرَّس حياته لقضية الشيوعية الكوبية. في مراهقته، انضم مادورو إلى حزب ماركسي فرعي مؤيد لكوبا في كاراكاس. وفي العشرينات، بدلاً من أن يلتحق بالجامعة سعى إلى التدريب في كلية الكوادر الدولية في هافانا ليصبح ثائرًا محترفًا. وعندما شغل منصب وزير خارجية شافيز فيما بين عامي 2006 و2013، كان نادرًا ما يثير الانتباه حوله، وكان ولاؤه الراسخ لشافيز وكوبا هو ما حقق له صعودًا إلى القمة. وفي ظل قيادته، أصبح نفوذ كوبا أوسع انتشارًا. وكدَس المناصب الحكومية بنشطاء تلقوا تدريبهم في مؤسسات كوبية، ووصل الأمر إلى تولي الكوبيين مناصب ذات حساسية داخل النظام الفنزويلي. وعلى سبيل المثال، فإن تقارير الاستخبارات اليومية التي يَطَلِع عليها مادورو ليست من إعداد فنزويليين، بل ضباط استخبارات كوبيون.
وبإرشاد كوبي، قوض مادورو الحريات الاقتصادية كثيرًا ومحا كل الآثار المتبقية للليبرالية في سياسة البلاد ومؤسساتها. واستمر بل وتوسع في نهج شافيز بإصدار قرارات اعتقال أو نفي أو حظر من ممارسة الحياة السياسية ضد قادة المعارضة الذين يحققون شعبية كبيرة أو يصعُب تحييدهم. لذلك فر خوليو بورخيس، أحد زعماء المعارضة البارزين، إلى المنفى لتجنب الاعتقال، في حين يتنقل ليوبولدو لوبيز، أكثر زعماء المعارضة كاريزما ما بين السجن العسكري والإقامة الجبرية. ويقبع ما يزيد على 100 معتقل سياسي في السجون، وتنتشر تقارير عن وقوع تعذيب. وأصبحت الانتخابات الدورية هزلية، مع تجريد الحكومة للمجلس الوطني الذي تسيطر عليه المعارضة من كل الصلاحيات. كذلك عزز مادورو تحالفات فنزويلا مع عدد من الأنظمة المعادية لأميركا والمعادية للغرب، حيث تحول إلى روسيا للحصول على أسلحة وأمن سيبراني وخبرة في إنتاج النفط؛ وإلى الصين للحصول على تمويل وبنية تحتية؛ وإلى روسيا البيضاء لإنشاء المساكن؛ وإلى إيران لإنتاج السيارات.
عندما كسر مادورو الصلة الأخيرة المتبقية في تحالفات فنزويلا التقليدية مع واشنطن والبلدان الديمقراطية الأخرى في أميركا اللاتينية، خسر فرص الحصول على نصائح اقتصادية سليمة. ورفض ما توافق عليه علماء الاقتصاد المنتمون إلى جميع أطياف التيارات السياسية؛ فعلى الرغم من أنهم حذروا من التضخم، اختار مادورو الاعتماد على نصيحة كوبا ومجموعة متطرفة من مستشاري السياسات الماركسيين الذين أكدوا له أنه لن تكون هناك تبعات لتعويض نقص الميزانية بطباعة أموال جديدة. وكان حتميًا أن يلي ذلك ارتفاع هائل مدمر في معدل التضخم.
تلك التركيبة السامة التي جمعت بين النفوذ الكوبي والفساد الجامح وتفكيك عملية الضوابط والتوازنات الديمقراطية وعدم الكفاءة جعلت فنزويلا حبيسة سياسات اقتصادية كارثية. ومع صعود معدلات التضخم الشهرية إلى ثلاثة أرقام، ترتجل الحكومة ردود فعل سياسية من شأنها أن تزيد الوضع سوءًا.


 
تشريح الانهيار
كانت جميع الدول الديمقراطية الليبرالية المنتجة للنفط، مثل النرويج وبريطانيا والولايات المتحدة، أنظمة ديمقراطية قبل أن تصبح منتجة للنفط. أما الأنظمة الاستبدادية التي اكتشفت النفط مثل أنغولا وبروناي وإيران وروسيا، فلم تستطع أن تقفز إلى مصاف الدول الديمقراطية الليبرالية. على مدار أربعة عقود، بدا أن فنزويلا تغلبت على تلك الصعاب، فقد تحولت إلى الديمقراطية والليبرالية في عام 1958، بعد عقود من اكتشاف النفط.
ولكن اتضح أن جذور الديمقراطية الليبرالية الفنزويلية كانت سطحية. فقد حطم عقدان من الاقتصاديات السيئة شعبية الأحزاب السياسية التقليدية، ونفذ مكانها زعيم ديماغوغي ذو كاريزما معتليًا موجة انتعاش النفط. وفي ظل هذه الأحوال غير الاعتيادية، استطاع اكتساح هيكل كامل من الضوابط والتوازنات الديمقراطية في غضون أعوام قليلة.
عندما انتهت انتعاشة النفط في عام 2014. لم تخسر فنزويلا عائدات النفط التي بنى عليها شافيز شعبيته ونفوذه العالمي فحسب، بل فقدت كذلك فرص الوصول إلى أسواق ائتمان أجنبية. وأدى هذا إلى ترك البلاد تحت وطأة ديون هائلة؛ فلا بد من تسديد القروض التي تم أخذها في فترة انتعاش النفط، على الرغم من النقص الحاد في الدخل. وانتهى الحال بفنزويلا بسياسة تنتهجها عادة الأنظمة الاستبدادية التي تكتشف النفط؛ حكم أقلية استغلالي قائم على النهب، يتجاهل الشعب العادي طالما ظل هادئًا، ويقمعه بعنف إذا احتج.
بدأت الأزمة الناتجة تتحول إلى أسوأ كارثة إنسانية في ذاكرة نصف الكرة الغربي. من المعروف صعوبة الحصول على أرقام محددة تخص انهيار الناتج المحلي الإجمالي لفنزويلا، ولكن حسب تقديرات خبراء الاقتصاد يمكن مقارنته بانكماش الناتج المحلي الإجمالي في سوريا منذ عام 2012 والذي بلغ 40 في المائة بعد اندلاع الحرب الأهلية المدمرة. ووصل التضخم المفرط إلى مليون في المائة سنويًا، مما دفع 61 في المائة من الفنزويليين إلى فقر مدقع، وقال 89 في المائة ممن شملتهم الدراسة أنهم لا يملكون مالاً لشراء ما يكفي من الغذاء لعائلاتهم وقال 64 في المائة إنهم فقدوا متوسط 11 كيلوغرام (نحو 24 رطل) من وزنهم بسبب الجوع. كما فر نحو 10 في المائة من السكان (2.6 مليون فنزويلي) إلى الدول المجاورة.
وتوقفت الدولة الفنزويلية في الغالب عن تقديم الخدمات العامة مثل الرعاية الصحية والتعليم وحتى الشرطة، ولم يتبق شيء يمكن أن يحصل عليه الفنزويليون باستمرار من القطاع العام سوى عنف قمعي صارم. ففي مواجهة احتجاجات شعبية في عامي 2014 و2017، كان رد الحكومة هو آلاف من حالات الاعتقال والضرب الوحشي والتعذيب وقتل ما يزيد على 130 متظاهراً.
في الوقت ذاته، يزداد النشاط الإجرامي الذي لا يتم في تحدٍ للدولة أو حتى بالتواطؤ معها، بل عبرها مباشرة. وظهر الاتجار في المخدرات إلى جانب إنتاج النفط ومراجحة العملة كمصادر رئيسية لتربح هؤلاء المقربين من النخبة الحاكمة، حتى إن مسؤولين رفيعي المستوى وأفراداً من عائلة الرئيس يواجهون اتهامات تتعلق بالمخدرات في الولايات المتحدة. كما أن نخبة صغيرة ذات محسوبية نهبت أرصدة وطنية بدرجة غير مسبوقة. في أغسطس (آب) اتُهمت مجموعة من رجال الأعمال على صلة بالنظام في محاكم فيدرالية أميركية بمحاولة غسل ما يزيد على 1.2 مليار دولار من الأموال التي تم كسبها بطرق غير مشروعة، وما ذلك إلا مثال على عدد مذهل من الأعمال غير المشروعة التي تمثل جزءًا من نهب فنزويلا. كذلك أصبح الربع الجنوبي الشرقي من البلاد معسكر تعدين استغلالي غير مشروع، يسعى فيه الأشخاص البائسون المشردون من مدنهم نتيجة للجوع إلى تجربة حظهم في مناجم غير آمنة تديرها عصابات إجرامية تحت حماية عسكرية. وفي جميع أنحاء الدولة، تدير عصابات السجن، بالشراكة مع قوات الأمن الحكومية، أعمال ابتزاز مربحة تجعل منهم السلطة المدنية بحكم الأمر الواقع. وأصبحت مكاتب الخزانة والبنك المركزي وشركة النفط الوطنية معامل تفريخ لجرائم مالية مُعقدة. ومع انهيار اقتصاد فنزويلا، تلاشت الخطوط الفاصلة بين الدولة والمنظمات الإجرامية.
 
الأزمة الفنزويلية
كلما التقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع أحد قادة أميركا اللاتينية، يؤكد على أن المنطقة يجب أن تفعل شيئا بشأن أزمة فنزويلا. ودفع ترمب فريق أمنه القومي إلى البحث عن بدائل «قوية»، وصرح في مرحلة ما بأن هناك «الكثير من الخيارات» أمام فنزويلا، وأنه «لن يستبعد الخيار العسكري». وعلى نحو مماثل لمَّح السيناتور الجمهوري ماركو روبيو من ولاية فلوريدا إلى الرد العسكري. بيد أن وزير الدفاع جيمس ماتيس عبر عن شعور عام داخل جهاز الأمن الأميركي بتصريحه: «الأزمة الفنزويلية ليست شأنًا عسكريًا». كذلك أعربت جميع البلدان المجاورة عن معارضتها لهجوم مسلح على فنزويلا.
وهم محقون في ذلك. إن تصورات ترمب عن الغزو العسكري مُضلَّلة على نحو كبير وخطيرة للغاية.
وذلك على الرغم من أن الهجوم العسكري بقيادة أميركية قد لا يجد مشكلة في الإطاحة بمادورو في وقت قصير.
ومع ذلك سوف تستمر الولايات المتحدة في مواجهة ضغوط في سبيل العثور على طريقة ما لإيقاف انهيار فنزويلا. كل المبادرات التي تم تبنيها حتى الآن لم تسهم إلا في التأكيد على واقع أن الولايات المتحدة ليس في استطاعتها سوى القليل. في عهد إدارة أوباما، حاول دبلوماسيون أميركيون التعامل مع النظام بصفة مباشرة. بيد أن المفاوضات أثبتت عدم جدواها، حيث إن مادورو وافق على المحادثات التي تتم بوساطة دولية لتحييد احتجاجات الشارع الهائلة؛ فيؤجل قادة الاحتجاج المظاهرات في أثناء المحادثات، ولكن يرفض مفاوضو الشافيزية التعاون ويقدمون تنازلات ثانوية بهدف تفرقة معارضيهم في حين يستعدون هم لموجة القمع التالية. ويبدو أن الولايات المتحدة والدول المجاورة لفنزويلا استوعبت ذلك، فطالما ظلت الأمور كما هي، لا تصب المفاوضات إلا في صالح مادورو.
وأخيرًا أدركت دول أميركا اللاتينية الأخرى أن عدم استقرار فنزويلا سوف يمتد حتما إلى حدودها.
واقترح البعض استخدام عقوبات اقتصادية صارمة للضغط على مادورو كي يتنحى. حاولت الولايات المتحدة فعل ذلك، ومررت عدة حزم من العقوبات في ظل كل من إدارتي أوباما وترمب، وذلك لمنع النظام من إصدار سندات قرض جديد ولعرقلة العمليات المالية لشركة النفط المملوكة للدولة. وإلى جانب كندا والاتحاد الأوروبي فرضت واشنطن أيضًا عقوبات ضد مسؤولين محددين في النظام، إذ جمدت أرصدتهم في الخارج وفرضت قيودًا على سفرهم. ولكن تعد مثل تلك الإجراءات زائدة عن الحاجة؛ فإذا كانت المهمة هي تدمير الاقتصاد الفنزويلي، لن تكون العقوبات مؤثرة كالنظام ذاته. والأمر كذلك ينطبق على حصار النفط؛ فإنتاج النفط في هبوط مستمر بالفعل.
وتستطيع واشنطن أن تصقل سياساتها على الهامش، فهي من جانب تحتاج إلى مزيد من التأكيد على المسار الكوبي؛ فلا يمكن تحقيق الكثير من دون مساعدة هافانا، مما يعني أن فنزويلا يجب أن تكون في مقدمة ومحور أي اتصال تجريه واشنطن وحلفاؤها مع هافانا. وتستطيع الولايات المتحدة أن توسع نطاق مكافحة الفساد لا لتمنع المسؤولين الفاسدين فحسب، بل وكذلك الوسطاء الذين يستخدمونهم كواجهة وعائلاتهم من التمتع بثمار الفساد والاتجار في المخدرات والاختلاس. يمكن أيضًا أن تعمل على تحويل حظر السلاح الأميركي القائم إلى حظر عالمي. ويجب أن يتم وضع نظام مادورو في حدود نواياه الاستبدادية عن طريق سياسات توضح لأتباعه أن الاستمرار في مساعدة النظام سوف يجعلهم معزولين في فنزويلا، وبالتالي يصبح الانقلاب على النظام هو السبيل الوحيد للخروج من ذلك. بيد أن احتمالات نجاح هذه الاستراتيجية ضعيفة.
بعد فترة طويلة من التردد، أدركت دول أخرى في أميركا اللاتينية أخيرًا أن عدم استقرار فنزويلا سوف يمتد حتمًا عبر حدودها. وفي ظل انحسار «الموجة الوردية» ليسار الوسط في الأعوام الأولى من هذا القرن، استطاعت مجموعة جديدة من القادة الأكثر محافظة في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وكولومبيا وبيرو تغيير الموازين ضد ديكتاتورية فنزويلا، ولكن يعرقلها أيضًا عدم وجود خيارات يمكن تنفيذها. فلم تفلح الطرق الدبلوماسية التقليدية بل إنها أدت إلى نتائج عكسية. وكذلك أيضًا الضغوط. على سبيل المثال في عام 2017، هددت دول أميركا اللاتينية بتعليق عضوية فنزويلا في منظمة الدول الأميركية. وكان رد النظام هو الانسحاب أحادي الجانب من المنظمة، موضحًا عدم اهتمامه بالضغوط الدبلوماسية التقليدية.
تزداد رؤية الدول الغاضبة المجاورة لفنزويلا لتلك الأزمة عبر منظور مشكلة اللاجئين التي تسببت بها؛ فترغب هذه البلدان بشدة في وقف تدفق الأشخاص الذين يعانون من سوء التغذية الفارين من فنزويلا، والذين يضيفون أعباء جديدة على برامجها الاجتماعية. ومع تزايد رد الفعل العكسي الشعوبي ضد تدفق اللاجئين الفنزويليين، يبدو أن بعض بلدان أميركا اللاتينية تميل إلى غلق أبوابها، وهو ما يجب عليها أن تقاومه، حيث إنه خطأ تاريخي لن يؤدي إلا إلى تدهور الأزمة. في الواقع لا تعلم بلدان أميركا ماذا تفعل بشأن فنزويلا. ربما لا يوجد ما يستطيعون فعله، سوى قبول اللاجئين، وهو ما سيساعد على الأقل على تخفيف معاناة الشعب الفنزويلي.
 


السلطة للشعب
اليوم النظام راسخ بقوة إلى درجة أن تغيير الوجوه أكثر إمكانية من تغيير النظام. وربما يحل محل مادورو قائد أقل ضعفًا منه قليلاً فيستطيع أن يجعل هيمنة كوبا على فنزويلا أكثر احتمالاً. قد لا تعني مثل هذه النتيجة سوى حكومة فاسدة تعتمد على النفط وتخضع لهيمنة أجنبية ولكنها أكثر استقرارًا، وليست عودة إلى الديمقراطية. حتى إن استطاعت قوى المعارضة – أو هجوم مسلح بقيادة أميركية – استبدال حكومة جديدة كلياً بمادورو، فسوف تكون أجندتها مهولة. سوف يحتاج أي نظام يخلفه إلى تقليص الدور الهائل الذي يؤديه الجيش في جميع مجالات القطاع العام. وسوف يكون عليه البدء من الصفر لاستعادة الخدمات الأساسية في الرعاية الصحية والتعليم وإنفاذ القانون. وسيكون عليه إعادة بناء قطاع النفط وتحفيز النمو في قطاعات اقتصادية أخرى. كما سيحتاج إلى التخلص من تجار المخدرات وعصابات السجون وأصحاب المناجم المستغلين وممولي الأنشطة الإجرامية الأثرياء والمبتزين الذين استولوا على كل جزء في الدولة. وسوف يكون عليها أن تقوم بكل هذه التغييرات في إطار بيئة سياسية فوضوية ومسمومة وأزمة اقتصادية خطيرة.
بالنظر إلى حجم هذه العقبات، من المرجح أن تظل فنزويلا في حالة عدم استقرار لفترة طويلة مقبلة. أما التحدي الراهن أمام مواطنيها وقادتها، بالإضافة إلى المجتمع الدولي، فهو احتواء تأثير انهيار الدولة. فعلى الرغم من كل المعاناة التي مروا بها، لم يتوقف الشعب الفنزويلي مطلقًا عن الكفاح ضد الحكم السيئ. وفي صيف هذا العام، كان الفنزويليون ينظمون مئات الاحتجاجات كل شهر. كانت جميعها احتجاجات شعبية محلية لها قيادة سياسية ضئيلة، ولكنها كشفت عن شعب يمتلك الإرادة للكفاح من أجل ذاته.
هل يكفي ذلك لإخراج الدولة عن مسارها الحالي القاتم؟ ربما لا. ولكن اليأس يدفع كثيراً من الفنزويليين إلى تخيل تدخل عسكري بقيادة ترمب، والذي قد يقدم حلاً مُعجزًا مطلوبًا بشدة لشعب طالت معاناته. ولكن هذا يرقى إلى خيال انتقامي غير مدروس، وليس استراتيجية جادة.
أفضل ما يمكن أن يأمله الفنزويليون، بدلاً من التدخل العسكري، هو ضمان أن لا تنتهي ومضات الاحتجاج والمعارضة الاجتماعية، واستمرار مقاومة الديكتاتورية. وعلى الرغم من أنه قد يبدو أملا يائسا، فإن هذا النوع من الاحتجاج قد يضع يومًا ما أُسسًا لتعافي المؤسسات المدنية والممارسات الديمقراطية. لن يكون بسيطًا ولن يكون سريعًا. إن إعادة دولة كانت تقف على حافة الانهيار ليس بسيطًا أو سريعًا قط.
 
* مويس ناييم: زميل بارز في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي وكاتب عمود رئيسي في الشؤون الدولية في جريدة «إلبايس»، ومحرر مساهم في «أتلانتك».
فرانسيسكو تورو: رئيس مسؤولي المحتوى في مجموعة «فيفتي»، ومؤسس «كاراكاس كرونيكلز»، وكاتب عمود في الشؤون الدولية في «واشنطن بوست».
 

font change