أكيهيتو الياباني... إمبراطور يحلم بالاعتزال

أكيهيتو الياباني... إمبراطور يحلم بالاعتزال


ريشة علي المندلاوي
 
1 -
«أعتقد أنه لم يعد ممكنًا أن أتحمل باستمرار مهامّ الإمبراطور»
هكذا قال أكيهيتو الإمبراطور الياباني لشعبه الذي أصابه الذهول، والحزن، والاستغراب، فالإعلان لا يمكن تجرّعه بسهولة، في تقاليد الحكم في بلاد تعتقد أنها موطن الشمس الأصلي،
بل إن هذه الكلمات تعتبر زلزالاً تاريخيًا في عصور اليابان الإمبراطورية، فهذا الأخير قد أتى بما لم يأتِ به الأوائل، وما الأوائل سوى 124 إمبراطورًا سابقًا لم يتفوهوا بمثل هذا التصريح، منذ 27 قرنًا وطيلة أكثر من 2727 سنة.
كما أن التلميح إلى أن الإمبراطور مريض هو أمر غير متداول في الإعلام الصادر عن القصر الإمبراطوري دستوريًا، لأن التقاليد جرت أن يموت الإمبراطور في القصر وهو فوق العرش، ومرضه يعتبر سرًا مُحاطًا بسياج من العمى والصمم.
ولكن أكيهيتو يعلن ويوحي ويَشَي ويكاد يستجدي الرغبة في الراحة ويطلب الراحة من الحكومة التي عليها أن تجد مخرجًا من هذا المأزق الذي لم تره أبدًا في حياتها ولم تعشه اليابان طيلة العهود الإمبراطورية التي عرفت بأنها بلاد تبزغ منها الشمس!
 
ويعرفها العالم ببلاد أجهزة الصوت والصورة وشركة «سوني» وأكبر ماركات السيارات الفارهة مازدا وتويوتا وهوندا...
2 -
مع الإمبراطور الحديث أكيهيتو، صارت النشرة الصحية شبه متاحة، والأمر مختلفا، فقد سبق له أن باح شخصيّا بسرٍّ يخصُّ صحته في شبابه، وكان هذا البوح بمناسبة حضور الإمبراطور احتفال الذكرى السبعين للجمعية اليابانية لمقاومة داء السلّ في شهر ماي 2009.
لقد باح بسر قديم. عمره 56 عامًا! ففي سن العشرين (1953) أصيب أكيهيتو (ولي العهد آنذاك) بداء السل، وشفي منه بعد أربع سنوات.
3 -
الإمبراطور مولود في 1933، وهو يريد المغادرة في سن 83، والدستور يقول لا، والشعب يتعاطف والحكومة بين الدستور والشعب، وهنا تكمن المعضلة.
إنه وضع تراجيدي لم يعرفه أبطال شكسبير، فالإمبراطور يستجير ويطلب التحوير غير المعلن للدستور، ويريد أن يرتاح في تقاعد سعيد وهو يردد بيتًا من الشعر الحكمي قاله شاعر جاهلي هو زهري ابن أبي سلمى:
«سئمتُ تكاليفَ الحياةِ ومن يعشْ ثمانينَ حوْلاً لا أبًا لك يسأمِ»
 
4 -
أو لعله يريد أن يقرأ شيئًا من الشعر العربي المترجم إلى اليابانية، مثل هذه الأبيات:
 
«وإِذا الشَيخُ قالَ أُفٍّ، فَما مَلّ حَياةً، وإنما الضّعْفَ مَلاّْ
آلةُ العَيْشِ صِحَّةٌ وشَبابٌ فإِذا وَلَّيا عَنِ المَرءِ وَلَّى
أَبَدًا تَسْتَرِدُّ ما تَهَبُ الدُّنيا، فيا ليتَ جُودَها كانَ بُخلاَ»
وربما سأل أكيهيتو عن قائل هذا الشعر وأجابه المترجم: هذه أبيات لشاعر عربي كان يهوى الحكم ومات وفي قلبه رغبة في أن يصبح واليًا!!
 
5 -
ليس هذا التصريح هو الوحيد اللافت في مسيرة أكيهيتو، فهو محبوب من قبل شعبه، ولا يرغب في أن تكون أخباره محتلة لأغلفة الجرائد اليومية والواجهات، وكان يقوم بزيارات للمنكوبين في الزلازل والفيضانات وباقي الكوارث الطبيعية، وكان يواسي الناس، كما كان يريد أن يتصالح اليابان مع ماضيه، ولا يتردد مع زوجته الإمبراطورة في تقديم الاعتذار عن جرائم اليابانيين في قتل آلاف الصينيين في عهد أبيه هيروهيتو، كما لا يتوانى عن الاعتذار للشعب الكوري.
وكان أكيهيتو يريد أن ينجز طوال حكمه مهمة إحلال السلام، وطَي صفحات آلام اليابان مع نفسها ومع الجيران وباقي بلدان العالم.
 
6 -
وهل أراد أكيهيتو أن ينجز الصلح مع ذاته؟
لقد صحّ منه العزم منذ توليه العرش سنة 1989، وبعد 27 سنة يأبى الزمن أن يطيل به المدة في دوام النعمة، خاصة وأنه أصيب بسرطان البروستاتا قبل أكثر من عشر سنوات.
وفخامة الإمبراطور الآن يستجدي الرحمةَ من الدستور حتى يتفرغ لتقاعد سعيد، وبلا أتعاب، ففي العام الذي مضى أمضى أكيهيتو على ما لا يقل عن ألف نص قانوني ووثيقة وإجراءات واردة من الحكومة، كما حضر 270 حفل استقبال.
 
7 -
لقد تعب الإمبراطور من المصافحة والابتسام، ولا شك أن الألم الذي يعانيه جسده هو أكبر بكثير من كلمته الموحية بالاعتزال، ولكن دون أن ينطق كلمة: (إنّي أعتزل).
 
 
 

font change