«هيروشيما كردستان»... الموت بطعم غاز الخردل وفقاعات الحروق

بعد مرور نحو 31 عاما على مأساة حلبجة

«هيروشيما كردستان»... الموت بطعم غاز الخردل وفقاعات الحروق

* لم يسمح مسؤولو الجمهورية الإسلامية لأسر ضحايا مجزرة حلبجة بالدخول إلى المدينة لدفن أحبائهم. وتبقت أجساد القتلى كما هي ليتمكن مصورو وكالات الأنباء ووسائل الإعلام العالمية من التقاط الصور
* لم تسمح إيران بدخول جهات أخرى إلى حلبجة لأنهم كانوا يريدون إرسال خبرائهم للمنطقة لأخذ العينات من الغازات الكيماوية المستخدمة في الهجوم
واشنطن: مر نحو 31 عاما على تلك الجمعة الدموية والهجوم الكيماوي على مدينة حلبجة، إحدى مدن كردستان العراق. الهجوم الكيماوي الذي شنته مقاتلات جيش الرئيس العراقي السابق صدام حسين على حلبجة أسفر عن مأساة حربية وإنسانية تعرف أيضا بـ«هيروشيما كردستان».

تقع مدينة حلبجة على بعد 15 كيلومترا من الحدود الإيرانية و225 كيلومترا شمال شرقي بغداد. تعرضت هذه المدينة في 16 مارس (آذار) 1988 أي بالضبط قبيل أعياد النوروز ورأس السنة الهجرية الشمسية لهجوم كيماوي من قبل المقاتلات العراقية.

كانت هذه العمليات التي استغرقت 5 ساعات جزءا من حملة الأنفال التي تكونت من 8 مراحل والتي قام بها جيش صدام حسين.

وقام الجيش العراقي وبأوامر من صدام حسين منذ فترة طويلة قبل الهجوم الكيماوي على حلبجة بتنفيذ عمليات الأنفال بهدف الإبادة الجماعية لأكراد كردستان العراق. وكان قائد العمليات هو علي حسن المجيد التكريتي، ابن عم صدام حسين، وعضو مجلس قيادة الثورة آنذاك. وأدت هذه العمليات إلى مقتل مئات الآلاف من المدنيين الأكراد في العراق أو اختفائهم.

وقامت القوات العسكرية الإيرانية بالاستيلاء على مناطق كردية وهي حلبجة وسيد صادق والمناطق المحيطة بهما في 10 و11 مارس 1988 في عملية عسكرية أطلق عليها اسم «الفجر 10».

وكان صدام حسين قد أمر علي حسن المجيد بالتخطيط لهجوم كيماوي واسع على مدينة حلبجة ليكون عبرة لبقية المواطنين العراقيين. وكان صدام حسين يريد الانتقام من العملية العسكرية الإيرانية وكان يتصور أن أكراد العراق سينتفضون ضد القوات الإيرانية ويدعمونه.

ويقول عيسى بازيار خبير إزالة الألغام وهو من أكراد إيران لـ«المجلة»: «يقول ابن عم صدام، علي حسن المجيد الملقب بعلي الكيماوي، إن مقر الاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة جلال الطالباني كان يقع في تلك المنطقة وكان الاتحاد الوطني الكردستاني يدعم القوات الإيرانية».


 

أشار بازيار إلى العقيد الطيار العراقي إيدن مصطفى حميد الذي تم إعدامه بأمر من صدام حسين بسبب رفضه قصف حلبجة.
 

وأضاف بازيار: «كان الطيار من المسيحيين العراقيين والذي تحول لرمز الإنسانية للأكراد، إذ نصب سكان حلبجة تمثالا له».

وأصبح المسرحي عمر خاور من حلبجة رمزا آخر لسكانها وكانت صوره منتشرة في وسائل الإعلام العالمية وهو يرتدي زيا كرديا ويحتضن طفلا محاولا أن يحميه من السلاح القاتل.

لن ينسى أهالي ضحايا حلبجة تلك الجمعة الدموية وما تعرضوا له في الساعة 2 ظهرا في 15 مارس 1988.

وكانت مدينة حلبجة تتعرض قبل الهجوم الكيماوي لقصف مدفعي وقذائف الهاون لمدة يومين بهدف كسر صمود السكان والتقليل من احتمال لجوئهم إلى ملاجيء تحت الأرض.

تصور سكان حلبجة في بداية الأمر أن ذلك قصف اعتيادي على غرار عمليات القصف في الأيام الماضية لأنهم اعتادوا على نيران القذائف والهاون. ولكن غيمة صفراء خيمت على سماء المدينة بعد دقائق معدودة وكانت رائحتها تشبه رائحة التفاح والبيض والقمامة المتعفنة وبعد ذلك، سقطت الطيور إلى الأرض وتبعها سقوط البشر والأحشام.

وسقطت مواد كيماوية سامة وقاتلة على غرار سيانوجين، وفي إكس، والسارين، والتابون، وغاز الخردل، على رؤوس السكان، وأدت إلى تداعيات كثيرة على الضحايا: فبدأ البعض بالضحك بصوت مرتفع وحالة عصبية، ومن ثم سقطوا على الأرض، فيما سقط آخرون على الأرض وتقيأوا سوائل خضراء ودخلوا في غيبوبة. وظهر على جلود مجموعة أخرى فقاعات الحروق وتورمات، فيما بدأ جلد مجموعة أخرى وحتى الأحشام والحيوانات شاحبة للغاية وعيونهم مفتوحة بشكل مرعب.

لم يعرف أحد ماذا يفعل لينقذ نفسه من ذلك الجحيم وكانت أصوات الصراخ والبكاء بـ«الغاز، الغاز» ملأت المكان. وبات هول الكارثة يتضح أكثر فأكثر بعد نشر صور هذه الجريمة البشعة، وهي صور مؤلمة تظهر بعضها رجالا ونساء متقدمين في السن لقوا حتفهم في غضون ثوان معدودة وهم يحاولون العثور على مخبأ لينقذوا أنفسهم. نعم، صور لآباء وأمهات يحضنون أطفالهم الرضع وأولادهم ظنا منهم بأن ذلك يحميهم من الموت. وغادر البعض الآخر المنطقة بأي وسيلة استطاعوا سواء مشيا على الأقدام أو بالسيارات.

وتابع عيسى بازيار في حديثه لـ«المجلة»: «كنت طفلا آنذاك ولكنني أتذكر أن مجموعة من سكان حلبجة قدموا إلى المدن الحدودية الإيرانية على غرار باوه وأقامت الجمهورية الإسلامية خياما لأهالي الضحايا».

لا توجد إحصائيات دقيقة ورسمية حول قتلى الهجوم الكيماوي الذي يعتبر «جريمة ضد الإنسانية» وفقاً لمعايير حقوق الإنسان ولكن الإحصائيات الصادرة عن وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية على غرار منظمة ضحايا كارثة حلبجة تتحدث عن مصرع 5 آلاف شخص وإصابة قرابة 10 آلاف آخرين.


 

ولم تكن هذه نهاية أكبر هجوم كيماوي ضد المدنيين، حيث إن الجروح والدهشة المتبقية من تلك الجمعة الدموية لم تندمل بعد، وذلك بعد مرور قرابة 30 عاما من ذلك اليوم. من نجا من ذلك الهجوم لقي مصرعه بعد سنوات إثر إصابته بالسرطان أو بعضهم يعانون من أمراض في الجهاز التنفسي أو رضع ولدوا بتشوهات خلقية متعددة أو اضطرابات جينية.

اغتنم مسؤولو الجمهورية الإسلامية هذا الهجوم الكيماوي لشن حملة دعائية ضد صدام حسين وقدموا صورة عنه كإحدى الجرائم التي ارتكبها صدام حسين ضد شعبه. لم يسمح مسؤولو الجمهورية الإسلامية لأسر ضحايا مجزرة حلبجة بالدخول إلى المدينة لدفن أحبائهم. وتبقت أجساد القتلى كما هي ليتمكن مصورو وكالات الأنباء ووسائل الإعلام العالمية من المجيء إلى المنطقة والتقاط الصور منها.

وأيد عيسى بازيار هذا الخبر قائلا: «كانت الذراع الخارجية للحرس الثوري الإيراني التي لم يكن لها عنوان خاص آنذاك أول جهة دخلت إلى حلبجة بعد الهجوم الكيماوي. لقد كانوا موجودين في المنطقة آنذاك. قام صدام بقصف حلبجة بسبب التعاون بين قوات بيشمركة الكردية والقوات الإيرانية. ولم تسمح إيران بدخول جهات أخرى إلى حلبجة ليس فقط بسبب التقاط الصور لضحايا الهجوم بل كانوا يريدون إرسال خبرائهم للمنطقة لأخذ العينات من الغازات الكيماوية المستخدمة في الهجوم».

 

ايدن مصطفى حميد

ويحيي الأكراد سنويا ذكرى الهجوم الدموي على حلبجة في شمال العراق ودول العالم. ولم تسمح السلطات خلال السنوات الأخيرة بإحياء ذكرى قتلى هجوم حلبجة في إيران حيث منعت مرات كثيرة عقد أي جلسات أو برامج نظمت من قبل الطلبة أو الأكراد.

وتسعى مجموعة من النساء في حلبجة بدعم مالي بسيط من سلطات السليمانية إلى أن تقوم بتغيير الأجواء الاجتماعية ورفع معنويات النساء هناك من خلال تأسيس المكتبات وإقامة دورات ثقافية وفنية على غرار الخياطة والكومبيوتر واللغة الإنجليزية وتشكيل فرق رياضية نسائية لمواجهة الظروف التي عاشها السكان في السبعينات والثمانينات في حلبجة.

يقال إن الأكراد لا يستطيعون ختم القرآن بسبب غصة في القلب تجعلهم يلتزمون الصمت عند سورة «الأنفال».

font change