«المجلة» ترصد ظاهرة «أمراء الحرب»

تجار «الخردة» حققوا ثروات طائلة بدول النزاع العربي... ويبحثون عن دور في مراحل السلم وإعادة البناء

تجارة الخردة الناتجة عن حطام السيارات والدبابات المتهالكة، والقذائف الفارغة، والبراميل المعدنية في بؤر الصراعات المسلحة بسوريا

«المجلة» ترصد ظاهرة «أمراء الحرب»

* حقق أمراء الحرب في كل من سوريا وليبيا والعراق واليمن ثروات طائلة من اقتصاد مختلف، ناتج عن المخلفات العسكرية والمدنية
* نشطت تجارة «الخردة» والمخلفات العسكرية في ليبيا منذ سقوط نظام القذافي، حيث يتم نقلها إلى موانئ الشمال، ثم إلى خارج البلاد
 

القاهرة: توقف المدافع وأزير الطائرات قد يعني انتهاء الحرب بحسب المفاهيم العسكرية، لكنه وفق العلوم السياسية يعني تغييرات جذرية تحدث في المجتمع منذ لحظات السلم الأولى، وهو أمر ينطبق على العواصم العربية التي أنهكتها سنوات الحرب على الإرهاب، وعلى الرغم من التشعب والتعقيدات التي تتخلل مسارات التغييرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يتوقع أن تفرض نفسها على منطقة الشرق الأوسط عقب انتهاء المواجهة العسكرية مع تنظيم داعش الإرهابي، فإن خبراء السياسة والاقتصاد يرون أن أكثر محركات هذه التغييرات خطورة ما يعرف باسم ظاهرة «أمراء الحرب»، وهم الأشخاص الذين يحققون ثروات طائلة خلال فترة الحرب والمرحلة الأولى من فترة السلم، إذ إن صمت المدافع يكون بمثابة إعلان رسمي عن وجودهم، حيث يبدأ دورهم في الاقتصاد والسياسة خلال مرحلة إعادة البناء.
حقق أمراء الحرب في كل من سوريا وليبيا والعراق واليمن ثروات طائلة من اقتصاد مختلف، هو تجارة «الخردة» الناتجة عن المخلفات العسكرية والمدنية من الطائرات المحطمة والدبابات والقذائف الفارغة والأسلحة المتهالكة، والكابلات الكهربائية المدمرة نتيجة تخريب البنية التحتية لمدن كاملة، والأدوات النحاسية التالفة وأنابيب النفط والأواني المنزلية القديمة.
ويسيطر على هذه التجارة ضباط من الجيوش النظامية وجماعات من الميليشيات ورجال أعمال قريبون من السلطة أو الجماعات السياسية والعسكرية المختلفة، حيث يتم تجميع هذه المخلفات وتصنيفها وإذابة بعضها في مصانع يملكها رجال أعمال، ثم تنقل إلى الحدود مع دول أخرى.
 

تنظيم داعش خلال خروجه من سوريا


ويرتبط اقتصاد «الخردة» بانتعاش تجارة التهريب عبر الحدود، وذكرت تقارير إعلامية أن بلدة عرسال البقاعية على الحدود اللبنانية السورية واحدة من أهم مراكز التهريب الرئيسية، حيث ترتبط البلدة مع منطقة القلمون بريف دمشق بشبكة من الطرق الجبلية الوعرة، وهو ما يسهل عمليات التجارة غير الشرعية لمختلف أنواع البضائع ومنها أصناف متعددة من المعادن كالنحاس والألومنيوم والحديد، إذ يتم جمعها من فرز النفايات أو من أنقاض البيوت المهدمة نتيجة الحرب، وتنقل الخردة من الداخل السوري إلى المناطق الحدودية بين عرسال وسوريا، ويعاد شحنها مرة أخرى تجاه بعض الموانئ اللبنانية لإعادة تصنيعها.
ويرى خبراء في السياسة والاقتصاد أن اقتصاد الحرب ومنه تجارة «الخردة» والمخلفات العسكرية، ينتج طبقة من الأغنياء الجدد يطلق عليهم «أمراء الحرب»، ويكونون أشخاصا محدودين في كل بلد، إذ يتم هذا النوع من التجارة بشكل احتكاري، ويعلنون عن وجودهم بمجرد توقف أصوات المدافع، ويسعون مع بدء مرحلة السلم وإعادة البناء إلى توسيع أنشطتهم الاقتصادية إلى مجالات مختلفة، كما يتجه معظمهم إلى القيام بدور سياسي للحفاظ على مكاسبهم الاقتصادية.
 

الدكتور رشاد عبده



ويقول الخبير الاقتصادي المصري الدكتور رشاد عبده لـ«المجلة» إن «الثروات الطائلة التي يحققها أمراء الحرب خلال المواجهات العسكرية لا تقارن بما يحققونه مع بدء السلم، إذ يسعون إلى تطوير أنفسهم وتوسيع أنشطتهم في مجالات اقتصادية كثيرة، ويصبحون نجوم مجتمع، وينخرط كثير منهم في العمل السياسي للحفاظ على مكاسبهم الاقتصادية، وغالبا ما تبدأ أنشطتهم بعد الحرب بالحصول على حصة كبيرة من اقتصاديات إعادة الإعمار».
ويضيف عبده: «هؤلاء الأغنياء الجدد يتحولون إلى نخبة اقتصادية وسياسية جديدة، ويكون لهم تأثير كبير في مستقبل الدول سياسيا واقتصاديا خلال مرحلة إعادة البناء، وغالبا ما يصبحون مكونا أساسيا في طبقة السلطة الحاكمة سواء من خلال دور سياسي مباشر، أو عن طريق سيطرتهم على مفاصل الاقتصاد».
ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية خلال الحرب، يضطر بعض السكان إلى العمل في جمع «الخردة» لتدبير نفقات معيشتهم بسبب عدم وجود أي مصدر مالي آخر، ويتسرب الكثير من الطلاب والتلاميذ من التعليم، ويتعامل كثير من السكان مع «الخردة» باعتبارها وسيلة لمواجهة أعباء الحياة وتوفير الطعام لأبنائهم.
ويرى مراقبون أن تجارة «الخردة» تعد أحد مصادر قوة الميليشيات المسلحة التي حققت منها أموالا طائلة، ووفقا لتقارير إعلامية حققت ميليشيات «الحشد الشعبي» في العراق ثروات كبيرة من تجارة مخلفات الحرب في المناطق التي تم تحريرها من سيطرة تنظيم داعش الإرهابي، حيث تستولي على معدات صالحة للتشغيل أو يمكن إصلاحها وبيعها في أسواق الخردة، مثل السيارات المحطمة والأسلحة المتهالكة وصهاريج المياه ومولدات الكهرباء وإطارات النوافذ، ويتم صهرها بعد ذلك للاستخدام في مواد البناء، وتحولت أطنان المعادن الخردة إلى مصدر ثروة لـ«الحشد الشعبي» عبر بيعها في المناطق الكردية مقابل ضعف السعر أو السماح لمجموعة من التجار بالقيام بذلك مقابل حصة من الأرباح للمرور عبر مناطق تسيطر عليها، كما تشرف ميليشيا الحرس الثوري الإيراني على عمليات نقل الحديد من العراق إلى إيران والاتجار فيها، حيث تدخل هذه الكميات من الخردة في صناعة قضبان الحديد التي تستخدم في البناء وصناعة السيارات والأسلحة، ثم تعيد إيران بيعها إلى العراق بأسعار باهظة.
ونشطت تجارة «الخردة» والمخلفات العسكرية في ليبيا منذ سقوط نظام معمر القذافي، حيث يتم تجميعها ونقلها في شاحنات إلى موانئ الشمال، وخاصة ميناء مصراتة، ثم تنقل إلى خارج البلاد، وهو ما دفع جهاز المخابرات الليبية إلى تحذير السلطات من خطورة عمليات تهريب المخلفات على الأمن القومي للبلاد، وأرسل الجهاز مذكرة في 27 أبريل (نيسان) عام 2017 إلى وزارة الاقتصاد في حكومة الوفاق عبر فيها عن تخوفه من مخاطر اتساع نطاق عمليات تهريب «الخردة» والمخلفات وخطورتها على الأمن القومي في ظل انهيار الاقتصاد وتدني قيمة العملة الوطنية.

 

الدكتورة أماني مسعود


من جانبها تقول الدكتورة أماني مسعود أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة لـ«المجلة»: «إن أمراء الحرب هم طبقة الأغنياء الجدد الذين يحققون ثروات طائلة من الحروب، ومع بداية السلم يحتلون مراكز اجتماعية مرموقة تمكنهم من التأثير أحيانا في القيم السياسية والاجتماعية السائدة، غير أنه في حالة الدول العربية التي خاضت الحرب على الإرهاب لا يمكن التنبؤ على وجه الدقة بطبيعة دورهم السياسي، إذ يتوقف الأمر على عوامل عدة، منها طبيعة النظام السياسي الذي سيحكم هذه الدول مستقبلا، وطبيعة هؤلاء الأغنياء الجدد، هل هم رجال أعمال يسعون إلى البناء لإعادة إعمار بلادهم؟ أم أنهم يسعون إلى الربح فقط؟ وكيف ستكون علاقتهم مع السلطة السياسية الحاكمة؟ ففي بعض الأحيان قد يشكلون تهديدا لهذه السلطة نتيجة نفوذهم الاقتصادي».
وتضيف مسعود: «في كل الأحوال يبحث الأغنياء الجدد عن المزيد من النفوذ عن طريق الانخراط في العمل السياسي، لكن يوجد كثير من المحددات التي سيكون لها تأثير على مسارات نفوذهم ودورهم السياسي، فما زال شكل السلطة السياسية التي يتوقع أن تحكم مستقبلا في دول الشرق الأوسط غير واضح، ومن البديهي أن تؤثر المتغيرات السياسية على كثير من الأمور وبينها دور رجال الأعمال بشكل عام والأغنياء الجدد على وجه الخصوص، إذ إن طبيعة السلطة السياسية تصوغ كافة العلاقات سواء بين المواطن والدولة أو توجهات النظام السياسي والاقتصادي».

font change