أبواب القاهرة القديمة ... أطلال تتحدى الزمن

«المجلة» تنفرد بمخطط تطوير سور العاصمة المصرية القديمة التاريخي

باب النصر

أبواب القاهرة القديمة ... أطلال تتحدى الزمن

*عبرت خلال أبواب القاهرة القديمة جيوش وشنق عليها سلاطين
* مدير عام مشروع تطوير القاهرة التاريخية: العاصمة التاريخية أحد أكبر وأهم موقع للتراث العالمي
* أستاذ في الآثار والحضارة الإسلامية: العمارة الحربية الأوروبية اقتبست نماذج بوابات القاهرة القديمة
* تعظيم الاستفادة من هذه الآثار ضرورة ملحة، ولذا فلا بد من إجراء عملية تنمية أثرية وسياحية مستدامة للمواقع الأثرية

 

القاهرة: رغم مرور أكثر من ألف عام على تشييدها ما زالت أبواب القاهرة القديمة تقف شامخة تتحدى الزمن، محتفظة بالكثير من رونقها، فقد كانت ولا تزال شاهدة على قصص وحكايات من موسوعة حضارية طويلة تروي صفحات من تاريخ مصر والعالم، حيث عبرت من خلالها مواكب للجيوش عادت منتصرة أو منكسرة، وشنق عليها سلاطين، وعاصرت أحداث غيرت مجرى التاريخ لدول وثقافات كانت هذه البوابات أكبر شاهد عليها، فالبوابات الثماني القديمة - والتي لم يتبق منها سوى ثلاث فقط - كانت المنفذ الوحيد للعبور إلى داخل القاهرة التي حرص مؤسسها المعز لدين الله الفاطمي عام 358هـ 969م على دفع قائد قواته جوهر الصقلي لبناء سور حولها له بوابات لأسباب كثيرة من بينها تأمين القاهرة من الأعداء وحفظ هيبة الدولة الفاطمية.
«المجلة» غاصت في حكايات هذه البوابات خلال تاريخها ومحاولات تطويرها من قبل حكام مصر عبر التاريخ، وتنفرد بنشر نماذج مقترحة تدرسها وزارة الآثار المصرية التي تقوم بعملية تطوير مستمرة لإعادة ترميم وتوظيف سور القاهرة الشمالي مثلما أكد محمد عبد العزيز مدير عام مشروع تطوير القاهرة التاريخية.
 

باب زويلة



أطلال تاريخية
الأماكن التي كانت موجودة بها الأبواب القديمة ما زالت تحمل نفس اسمها مع بقايا أطلال تاريخية من بعضها فيما لا تزال الأبواب الثلاثة باقية وراسخة شاهدة على تاريخ جزء مهم من حضارة العالم ومن بينها باب زويلة- الذي سمي بهذا الاسم نسبة إلى قبيلة من البربر بشمال أفريقيا انضم جنودها إلى جيش جوهر الصقلي لفتح مصر- الذي يقاوم عوامل الزمن مع بابي النصر والفتوح، ويعتبر هذا الباب أجمل الأبواب الثلاثة الباقية، ويشغل مساحة مربعة، طول كل ضلع من أضلاعها 25 مترا، وعندما بنى الملك المؤيد أبو النصر شيخ مسجده عام 818هـ، اختار مهندس الجامع برجي باب زويلة وأقام عليهما مئذنتي الجامع، ويطلق على باب زويلة أيضا «بوابة المتولي» حيث كان يجلس في مدخله «متولي الحسبة» لتحصيل ضريبة الدخول إلى القاهرة.

 

باب الفتوح


 
أبواب السور الشمالي ما زالت تقاوم الزمن
السور الشمالي للقاهرة القديمة لا يزال يقاوم الزمن أيضا مع بوابتين هما «بوابة الفتوح»، وكذلك «باب النصر» وهو الباب الثاني الباقي في السور، ويقع على بعد 250 مترا إلى الشرق من باب الفتوح، وأطلق اسم «باب البحر» على بابين أحدهما من أبواب القصر الفاطمي الشرقي الكبير والثاني من أبواب الأسوار الأيوبية، ويرجع تاريخ باب البحر في القصر إلى عصر الحاكم بأمر الله الذي أضافه إلى أبواب القصر، وكان يغطيه قبو شيد على أعمدة، وكان موضع الباب غربي القصر أمام المدرسة الكاملية ضمن المنطقة التي شغلها فيما بعد قصر بشتاك المملوكي الذي ما زال قائما وقد هدم الظاهر بيبرس باب البحر هذا في سنة 672 هـ 1371م ليأخذ منه أعمدة بعض عمائره.
وسمي باب البحر بهذا الاسم نسبة إلى قربه من النيل وبقيت آثاره حتى عام 1847م ثم هدم بأمر محمد علي والي مصر ولم يبق منه شيء سوى اسمه الذي لم يندثر وأطلق على المنطقة التي تقع عند تقابل شارع كلوت بك مع ميدان محطة مصر الحالي، ويعد «باب التوفيق» أحد أبواب القاهرة الفاطمية وكان في الضلع الشرقي للحصن وكان يعتقد أن آثاره في الجهة الشرقية قد اختفت واندثرت تماما وكشف عن ذلك الباب أثناء عملية إعداد منطقة من الأرض في حي الدراسة.
وقد كشفت تلك الأعمال أيضا عن بعض أبراج وأجزاء لم تكن ظاهرة من السور الحجري الذي شيده صلاح الدين الأيوبي عندما كان وزيرا للدولة الفاطمية في خلافة العاضد قبل أن يصبح سلطانا على رأس الأسرة الأيوبية، ويفصل سور صلاح الدين عن باب التوفيق في هذه الجهة الشرقية من القاهرة مسافة نحو 25 مترا يطلق عليها منطقة «بين السورين».
ويعد «باب الشعرية» أيضا من أبواب القاهرة القديمة وعرف بهذا الاسم نسبة إلى طائفة من البربر يقال لهم «بنو الشعرية»، وهو أحد بابين كانا في جزء من السور الشمالي الذي شيده بهاء الدين قراقوش وزير السلطان صلاح الدين الأيوبي، والذي كان يحتوي على باب البحر أيضا، وكان يمتد بين الناصية الشمالية الغربية لحصن القاهرة الفاطمي وبين قلعة المقس التي بنيت عند ضفة النيل في ذلك الوقت.
وعرف مكان باب الشعرية في شارع «سوق الجراية» الذي يوازي شارع الخليج المصري وكان يعرف أحيانا بباب العدوي نسبة إلى جامع العدوي الذي بني بجانبه، وبقي باب الشعرية حتى عام 1884م فقد سجل في كراسة لجنة حفظ الآثار العربية في تلك السنة وكانت أجزاء منه باقية، منها لوحة بالخط الكوفي، كما شوهد رسم نسر محفوظ على حجرين من الأنقاض وكان النسر رنكا (أي شارة) لصلاح الدين الأيوبي، وما زالت المنطقة حول الباب تسمى باب الشعرية كما عرف به ميدان كبير يتقاطع عنده شارع بور سعيد بشارع الجيش الذي يصل بين ميدان العتبة الخضراء وشارع العباسية حاليا.

 

محمد عبد العزيز مدير عام مشروع تطوير القاهرة التاريخية


 
القاهرة التاريخية أحد أكبر وأهم موقع التراث العالمي
محمد عبد العزيز مدير عام مشروع تطوير القاهرة التاريخية قال: «القاهرة التاريخية تعد أحد أكبر وأهم مواقع التراث العالمي المسجلة على قائمة اليونيسكو، وتحتوي على كثير من الكنوز الأثرية ذات القيمة التاريخية المهمة ومنها بالطبع بوابات القاهرة التاريخية التي اندثر منها الكثير، ومنها (باب اللوق، باب الخلق، باب الشعرية، باب الوزير، باب العزب، باب القنطرة، باب سعادة، باب المحروق، باب البرقية، باب الزهومة)، فيما تبقى منها ثلاثة فقط وهي: باب الفتوح، وباب زويلة، وباب النصر. ويتكون باب الفتوح من برجين مستديرين مصمتين إلى ثلثيهما، أما الثلث العلوي فيحتوي على غرف للجند وفتحات لرمي السهام، ويتوسط البرجين مدخل معقود تعلوه فتحة كان يصب منها الزيت المغلي على العدو المقتحم، أما بالنسبة لباب النصر فكان جامع الحاكم خارج أسوار القاهرة، ولما قدم بدر الدين الجمالي ونقل سور القاهرة وباب النصر ووسع المدينة دخل جامع الحاكم في نطاقه، ويتكون الجزء البارز من برجين مربعين بينهما ممر مكشوف يؤدي إلى باب المدخل يرتفع كل برج من البرجين إلى ثلثي الارتفاع الكلي في بناء مسمط أما الثلث العلوي فعبارة عن حجرة دفاع لها سقف يغطيه قبة ضحلة وبجدران الحجرة فتحات لرمي السهام، وفي عهد الحملة الفرنسية أدخلت تعديلات جوهرية على باب النصر لتوسيع فتحات مرامي السهام في حجرتي الدفاع بحيث تصبح من الخارج أكثر اتساعا من الداخل لاستعمالها في الضرب بالمدافع بدلا من السهام».

 

الدكتور محمد حمزة إسماعيل الحداد


 
أبواب تاريخية شاهدة على العصور
الدكتور محمد حمزة إسماعيل الحداد أستاذ الآثار والحضارة الإسلامية وعميد كلية الآثار جامعة القاهرة الأسبق قال: «عندما أسس جوهر الصقلي القاهرة بعد قضائه على الدولة الأخشيدية دخل مصر ووضع حجر أساسها في 17 شعبان 358 هجرية الموافق 6 يوليو (تموز) 969م، وكانت عبارة عن مساحة مربعة تبلغ 360 فدانا في كل ضلع من أضلاعها الأربعة يوجد بابان، في الشمال بابا النصر والفتوح، وفي الجنوب بابا زويلة (عقدان أو قوسان)، وفي الشرق باب البرقية وباب القراطين (باب درب المحروق)، وفي الغرب بابا القنطرة وسعادة، وأحاطها بسور من البناء اللبن، وفي زمن الخليفة المستنصر عندما استدعى بدر الجمالي والي عكا بعد الشدة المستنصرية العظمى، والتي استغرقت 7 سنوات، قام بتوسيع القاهرة بزيادة مساحتها من الجهات الأربع بمعدل 150 مترا شمالا وجنوبا، و30 مترا و15 مترا في الشرق والغرب وشيد أبوابا جديدة من الحجر على نفس امتداد الأبواب القديمة، فمثلا جامع الحاكم في الشمال كان خارج أسوار وبوابات جوهر الصقلي وبعد الزيادة التي قام بها بدر الجمالي أصبح داخل بوابات الجمالي، وما زال جامع الحاكم ملاصقا لباب النصر والفتوح حتى الآن»، مشيراً إلى أن النقوش التأسيسية الموجودة على الأبواب لها أسماء أخرى مثل باب العز وباب الإقبال ولكن الأسماء القديمة هي التي طغت واشتهرت ولا تزال تعرف بهذه الأسماء حتى الآن.
 
العمارة الحربية في أوروبا تأثرت بأبواب القاهرة القديمة
وعما تبقى من هذه الأبواب، تابع الدكتور الحداد: «الباقي باب النصر والفتوح في الشمال، وكذلك باب زويلة المعروف باسم بوابة المتولي في الجنوب، وفي الشرق تم اكتشاف باب التوفيق، وباب القراطين نسبة إلى القرط (البرسيم) الذي كان يباع أمامه، وفي زمن المماليك البحرية بعد مقتل أقطاي كان هناك نحو 700 من المماليك وجدوا الباب مغلقا وحاولوا الهرب من عز الدين أيبك الذي كان يريد القضاء عليهم لأنهم من أنصار فارس الدين أقطاي فقاموا بحرق الباب حتى يتمكنوا من الهرب إلى الشام لذلك عرف باسم «باب المحروق» فيما عرف الحي الملاصق له بـ«درب المحروق».
وأهم هذه البوابات– والحديث لا يزال للدكتور محمد الحداد - هما بابا النصر والفتوح، وباب زويلة (المتولي) وهذه الأبواب لها قيمة تاريخية وأثرية وفنية كبيرة جدا سواء من حيث معاصرتها لأحداث تاريخية مهمة، أو من حيث تصميمها التاريخي لأنها تمثل نماذج بوابات الحصون الضخمة جدا والتي تأثرت بها العمارة الحربية الأوروبية، وبنيت على غرارها بوابات في أوروبا، فعندما كان سفراء الفرنجة يزورون الخلفاء الفاطميين شاهدوا هذه البوابات وأخذوا رسومات لها ونقلوها لنماذج العمارة في أوروبا.

 

نموذج مقترح لتطوير سور القاهرة الشمالي وبواباته


 
قيمة تاريخية عظيمة
وعن القيمة التاريخية لهذه البوابات أضاف: «قيمتها التاريخية كبيرة جدا حيث إنها بوابات القاهرة عاصمة الفاطميين، والتي أصبحت عاصمة مصر بعد القضاء على الفاطميين على يد صلاح الدين الأيوبي عام 567. حيث عرفت العواصم الثلاث قبل القاهرة باسم مصر وهي الفسطاط والعسكر والقطائع، وفي العصر الحديث أصبحت القاهرة العاصمة لمصر، وتمتلك هذه البوابات قيمة أخرى تاريخية عظيمة حيث إن بداخلها مجموعة من أبرز وأشهر الآثار الإسلامية في العالم، ومن بينها الشارع المحصور بين باب الفتوح في الشمال وباب زويلة في الجنوب والمعروف منذ 1936م بشارع المعز لدين الله الفاطمي، وهذا الشارع بداخلة ما يقرب من 90 أثرا إسلاميا من كافة العصور الفاطمية والأيوبية، والمماليك البحرية والشراكسة، والعصر العثماني، وعصر محمد علي فضلا عن العمائر التراثية التي تتجاوز 100 عام».
 

نموذج مقترح لتطوير سور القاهرة الشمالي وبواباته



الجيوش مرت عبر البوابات إلى المعارك الحربية
وتابع الدكتور الحداد: «هذه البوابات كانت المنفذ الوحيد لدخول القاهرة والخروج منها، سواء أثناء الخروج للمعارك الحربية أو العودة منها، وأيضا مواكب السلاطين، ومر ضيوف مصر جميعا عبر هذه الأبواب، وحتى بعد بناء القلعة كمقر للحكم في عصر السطان الكامل محمد الأيوبي احتفظت الأبواب بأهميتها، فالوصول إلى القلعة كان يتم عن طريق شارع المعز سواء كان الدخول من باب النصر أو من باب الفتوح، والخروج من باب زويلة الذي يؤدي إلى منطقة الدرب الأحمر وباب الوزير ويصعد إلى القلعة عبر هذا الطريق، وكذلك مواكب الجنازات، والاحتفالات الرسمية وموكب المحمل، وكان لباب زويلة أهمية كبيرة حيث كان يشنق عليه كل الخارجين عن القانون والمغضوب عليهم، أو الثائرين وأشهر من شنق عليه طومان باي على يد السلطان سليم عندما قضى على دولة المماليك».
 
تنمية سياحية وأثرية مستدامة
تعظيم الاستفادة من هذه الآثار ضرورة ملحة، مثلما طالب الدكتور الحداد، قائلا: «لا بد من إجراء عملية تنمية أثرية وسياحية مستدامة للمواقع الأثرية، حيث إن المنطقة المحصورة بين بوابات القاهرة تعد ضمن أفضل وأعظم المناطق الأثرية والتاريخية الإسلامية في العالم، وتشمل هذه العملية ثلاثة عناصر: المجتمع والبيئة والاقتصاد، فلا بد أن يتم تفعيل عدد من المشروعات الاستثمارية داخل هذه المنطقة الأثرية بحيث تعظم الاستفادة القصوى من المردود السياحي بما يدعم الناتج القومي ويستفيد المجتمع، وكذلك المحافظة على البيئة الأثرية والتاريخية في ذات الوقت، أيضا لا بد من التخطيط السياحي الجيد وفق المواثيق الدولية، والتسويق السياحي، والإدارة الجيدة، والرقابة والمتابعة، من خلال خطط استراتيجية على أعلى مستوى تتفق مع المعايير الدولية».

 

نموذج مقترح لتطوير سور القاهرة الشمالي وبواباته


 

نموذج مقترح لتطوير سور القاهرة الشمالي وبواباته
font change