مقاهي القاهرة... فصول من التاريخ

ارتادها ملوك ورؤساء وأدباء وشهدت خروج ثورات

مقاهي القاهرة... فصول من التاريخ

* أستاذ علم اجتماع: صفوة الفكر والأدب كانوا من روادها ولم تعد مثل سابق عهدها
* وريث مقهى الفيشاوي بخان الخليلي: أنتمي للجيل السابع ونجيب محفوظ كتب الثلاثية بداخلها
* الإمبراطورة أوجيني والملك فاروق وأم كلثوم والسادات وأحمد رامي ومصطفى وعلي أمين من روادها
* المقاهي كانت إحدى وسائل مقاومة القوى الاستعمارية
* أجواء شهر رمضان تزيد من روادها

 

القاهرة: اختلف دور المقهى في مصر بمرور مئات السنين على ظهورها لأول مرة وانتشارها في ربوع المدن شرقا وغربا كظاهرة اجتماعية لافتة تنامت وانتشرت بشكل دراماتيكي لدرجة يصعب معها حصر أعدادها بعد توغلها في كل مكان، بداية من الشوارع المعروفة داخل المدن الكبرى في مصر، وأبرزها العاصمة القاهرة، وانتهاء بالأزقة والحواري الصغيرة التي تنتشر على جنباتها، حيث تجاوزت الدور الذي لعبته منذ ظهورها كمكان تجمع به الأدباء والمثقفون والشعراء والذين حظي بعضهم بشهرة واسعة نتيجة أعمالهم الخالدة، ومن بينهم الكاتب الكبير الراحل نجيب محفوظ، صاحب جائزة نوبل في الأدب، والتي سميت إحداها باسمه، إلى وظيفة أكثر شمولا، حيث أصبحت ملجأً لشرائح واسعة من المجتمع بصرف النظر عن تشابه دورهم مع روادها القدامى، وكانت ولا تزال مكانا للعمل، وتجمع الأصدقاء، والسمر، والطرب، والراحة من عناء عمل هنا أو هناك لتناول كوب من الشاي الساخن، أو القهوة، وتزداد وتيرة هذا التجمع الشعبي في المقهى خلال شهر رمضان الكريم حيث تكون مسرحا يكتظ بالناس من كل حدب وصوب عقب صلاة القيام إلى وقت السحور وحتي موعد صلاة الفجر وخاصة في القاهرة التاريخية القديمة وفي حي الحسين والجمالية، ومنطقة خان الخليلي حيث مقهى الفيشاوي الشهير.

 

مقهى نجيب محفوظ في خان الخليل


 
تطور عصري
وأخذت ظاهرة المقاهي منحى التطور العصري ليضاف إلى بعضها كلمة العصر «الإنترنت» لتواكب التطور التكنولوجي من خلال شبكات الواي فاي اللاسلكية للدخول إلى كل أنحاء العالم من خلال الشبكة العنكبوتية
وارتبط الجلوس على المقهى بتدخين النرجيلة أو ما يسمى «الشيشة»، وهي بلا شك من العادات الضارة التي يعشقها الكثيرون رغم خطورتها على الصحة والتحذير من أضرارها، ولكنها أصبحت أحد الموارد المهمة لظاهرة «المقهي» والتي تدفع نسبة كبيرة إلى العمل في هذه المهنة نظرا لما تدره من دخل على صاحبها.
واشتهرت خلال القرن الماضي في مصر كثير من المقاهي، وأبرزها مقهى «الفيشاوي» التي لم تعد بتلك المساحة الكبيرة التي ظهرت عليها منذ نشأتها قبل أكثر من قرنين ونصف القرن من الزمان، عندما أقامها الحاج فهمي الفيشاوي في منطقة الحسين التاريخية في وسط القاهرة ودعمها بعدد من مقتنيات القصور الملكية كإهداء من الأسرة المالكة في هذا الوقت، وكان من روادها كما يتردد نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية على مصر، والإمبراطورة الفرنسية أوجيني، والملك فاروق، ورؤساء مصر عبد الناصر وأنور السادات، وكذلك صفوة المجتمع والأسر الحاكمة في مصر قبلهم، بالإضافة إلى الفنانين والأدباء والمفكرين، ولم تقتصر المقاهي التاريخية الشهيرة في القاهرة على الفيشاوي فقط، ولكن ظهر مقهى «ريش» في شارع سليمان باشا في قلب القاهرة التي كانت مملوكة لمواطن قبرصي وتم بيعها لشخص فرنسي جعلها على غرار كافيه «ريش» تجمع المثقفين في باريس، وكانت ريش ملتقى للأدباء والمثقفين أيضا وما زالت، وكانت تعقد ندوات ثقافية وأدبية داخل المقهى لكبار الكتاب المصريين وأشهرهم نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وعباس العقاد، وصلاح جاهين، وجمال الغيطاني، وأمل دنقل، واشتهرت أيضا في هذه الفترة مقهى «متاتيا» في ميدان العتبة، المملوكة لأحد اليونانيين الذي عاش في القاهرة وتمت تسميتها بهذا الاسم نسبة إلى أحد المهندسين الإيطاليين الذي صمم المنطقة الموجودة فيها، وكان يجلس عليها جمال الدين الأفغاني، وبعض رموز الأمة المصرية، ومنهم الزعيم سعد زغلول، والشيخ محمد عبده، وكانت ملتقى عدد من الشعراء والمفكرين الكبار، منهم محمود سامي البارودي، وعبد الله النديم، وحافظ إبراهيم، وسميت كذلك بمقهى «البوستة»، وشهد هذا المقهى اجتماعات ثورة 1919. وبيانات الثورة ومنشوراتها.
 
مقهى أم كلثوم يحمل صورها رفقة أقطاب الفن
ويعد مقهى أم كلثوم في أحد الشوارع المتفرعة من شارع رمسيس في وسط القاهرة من الأماكن التي اشتهرت منذ عصر سيدة الغناء العربي، وما زال يحتوي على صورها مع أقطاب جيلها من الفنانين ويعرض أغانيها لرواده.
ومن بين المقاهي التي اندثرت حاليا ولم يعد لها وجود مقهى «الريتز» بشارع قصر النيل الذي كان مكانه في عمارة الإيموبيليا الشهيرة في وسط القاهرة، وكان يجتمع فيه عدد من مشاهير الفن والأدب، ومنهم توفيق الحكيم، ومحمد التابعي، وإبراهيم ناجي، وعباس العقاد، وعبد القادر المازني، وبالقرب منها يوجد مقهى «اللواء» التي أطلق عليها هذا الاسم نسبة إلى جريدة «اللواء» التي كان يصدرها مصطفى كامل باشا، وكانت مكان جلوس المثقفين والأدباء والسياسيين، ومنهم الشاعر كامل الشناوي، والدكتور زكي مبارك، والشيخ عبد العزيز جاويش، واشتهر كذلك مقهى «عرابي» الذي كان يعقد به الكاتب نجيب محفوظ لقاءاته، وسميت باسمه، وكان يوجد فيه رفقة «الحرافيش» ومن بينهم يوسف جوهر، وأحمد مظهر، وعلي أحمد باكثير، ومحمد عفيفي، وغيرهم من المثقفين والفنانين.
ومن أشهر المقاهي في مصر في القرن الماضي مقهى «محمد عبد الله» في الجيزة، التي كانت ملتقى للأدباء والمثقفين، ومن بينهم سمير سرحان، ويوسف إدريس، ورجاء النقاش، وصلاح عبد الصبور، ومحمود السعدني، وكان يجلس عليها الرئيس الراحل أنور السادات، وشهد هذا المقهى مناقشة كثير من الأعمال الأدبية والثقافية لكتاب مصريين وعرب أيضا.
ويوجد أيضا عدد كبير من المقاهي الشهيرة في القاهرة ومنها «دار الكتب» في المنطقة التي تحمل نفس الاسم، ومقهى «الكومبارس» في ميدان الأوبرا، والتي يتجمع عليها صغار الفنانين ممن يؤدون الأدوار الصغيرة في الأفلام والمسلسلات، ومقهى الدراويش خلف مسجد الحسين، ويتجمع فيها عدد من منشدي الذكر والمداحين بالإضافة إلىكثير من المقاهي التي يتجمع بها المهنيون من أصحاب الحرف اليدوية.

 

مقهى الفيشاوي


 
مقهى الفيشاوي عمره 257 عاماً
أكرم الفيشاوي، سليل أسرة الفيشاوي، الذي ينتمي – بحسب حديثه لـ«المجلة» – إلى الجيل السابع لأسرة الفيشاوي العريقة، قال: «يعتبر الفيشاوي من أقدم مقاهي العالم وليس مصر فقط، وكون المقهى موجودا في منطقة حي الحسين التاريخي منذ القدم فهذا يؤكد عراقته، حيث إن هذه المنطقة (الحسين والأزهر والجمالية) تعد بمثابة مصر القديمة والتاريخية، فلم يكن هناك أماكن أخرى للسهر في مصر قبل مقهى الفيشاوي، فهو الذي ابتدع السهر».
وتابع أكرم الفيشاوي: «المكان كان صغيرا في البداية، وأخذ في التوسع حتى وصل إلى شكله الحالي بعد رحلة امتدت 257 عاما هي عمر المقهى التاريخي الشهير الذي افتتح عام 1761م لمؤسسه الحاج فهمي الفيشاوي الذي كان لقبا واسما، وكان جدي السابع (كبير المنطقة)، بحسب تعبير الفيشاوي الصغير. ولم يكن هناك أي محلات عند افتتاحه، فالمقهى كان من أول الإنشاءات في المنطقة كلها، وشهد المقهى أحداثا تاريخية كبرى، وعاصر وجود الاحتلال الإنجليزي والفرنسي، وكان ملتقى الفنانين والشعراء، وخرجت منه ثورات، وأحداث سياسية مهمة طوال تاريخ مصر والقاهرة التاريخية».

 

اكرم الفيشاوي


 
ندوات أدبية وثقافية
وأشار الفيشاوي إلى التقاء الشعراء في المقهى وإقامة الندوات الأدبية والتي كان يحضرها أسرة الأدب في مصر والكثير من الشعراء والمثقفين، فلم يكن المقهى مكانا فقط لتناول الشاي والقهوة ولكنه كان كيانا ثقافيا وأدبيا وعلميا وتراثيا وأيضا تاريخيا، ولم يكن قاطنو الأقاليم بعيدا عن الفيشاوي حيث كانوا يأتون لزيارته عند قدومهم للقاهرة والجلوس به لرؤية عمالقة الفن والأدب.


 
نجيب محفوظ من رواد الفيشاوي
وكان يرتاد الفيشاوي عدد كبير من مشاهير الفن والأدب والسياسة، ومنهم بحسب ما يتذكر أكرم الفيشاوي الأستاذ الكاتب الكبير نجيب محفوظ ابن المنطقة، وكان من أكبر رواد المقهى الشهير، وكتب الثلاثية الشهيرة فيه والتي تحولت إلى أعمال درامية فيما بعد، وهي «السكرية» و«قصر الشوق» و«بين القصرين»، وتم تصوير جزء منها داخل مقهى الفيشاوي أيضا، وجميع الفنانين الكبار الذين تواجدوا في أعمال فنية في مصر حضروا إلى المقهى حيث كان المكان الوحيد للتجمع والسهر، وشهد مقهى الفيشاوي أيضا تجمع عدد من الكتاب الكبار والشعراء المعروفين أمثال مصطفى وعلي أمين، وأحمد رامي، وسيدة الغناء العربي أم كلثوم، وجلس بها عدد كبير من رؤساء الدول والسياسيين والدبلوماسيين.
وتابع أكرم الفيشاوي: «مر مقهى الفيشاوي بعصور كثيرة، والحمد لله حافظنا على شكله التراثي القديم الذي يتكون من خشب الأرابيسك والمرايات القديمة، والتي تم تقليدها في الكثير من المقاهي الحديثة، مشيرا إلى تردد كثير من السفراء والوزراء عليها في الماضي كإحدى الأماكن الثقافية المعروفة».
 
مكان لقضاء أوقات الفراغ
الدكتور فوزي شرف الدين أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة بنها في مصر يرى أن المقاهي تغيرت بشكل كبير، فبعد أن كانت صالونات للثقافة والأدب تحولت إلى مكان لمحاولة قضاء وقت الفراغ، إضافة إلى أشياء قد يكون من بينها ما لا يفيد، فكانت سابقا ملتقى المثقفين ونخب المجتمع لنقاش هموم الوطن، والاستعداد للنضال والكفاح، وتيسير مصالح العباد، فمنها خرجت ثورة 1919 والتي كان قوامها كل فئات المجتمع، والآن أصبحت كبيرة الحجم وكثيرة العدد، ومنتشرة في ربوع مصر، وحتى الأزقة والأرصفة والحواري تحولت إلى مقاهٍ، وأصبح بعض من يمتلك أرضا خالية يحولها إلى مكان يقدم فيه المشروبات تحت اسم مقهى، وأصبح الموضوع سهلا جدا ومربحا للكثيرين كمشروع تجاري.
 
صفوة الفكر والأدب والثقافة كانوا من رواد المقاهي
وتابع الدكتور فوزي: «لم يعد الغرض من الجلوس على المقهى في غالبيته مثل السابق لمناقشة الفكر والأدب والأوضاع الثقافية والسياسية، ولكنه أصبح مجرد (تضييع وقت)، أو (قضاء مصلحة) بين شخص وآخر أو مجموعة أشخاص فتحولت من الهدف الذي تم إنشاؤها من أجله«، ملمحا إلى ذكر كلمة (مقهي) في السابق والتي كانت تعني أنه «مكان محترم يتواجد به عدد من صفوة الفكر والأدب والفن لمناقشة أفكار ومواضيع تتعلق بالأوضاع السياسية أو الثقافية والأدبية والفنية سابقا، وكان عليه في الماضي رقيب من ضمير الشعب وحاليا لم يعد الأمر كذلك، ولم تعد مثل السابق لها منظومة، والكثير منها يتفنن في السلوكيات السيئة ومنها إشغال الطريق».

 

دكتور فوزي شرف الدين


 
دور المقهى اختلف عن السابق
وطالب الدكتور فوزي بضرورة النظر لمنظومة المقاهي نظرة مختلفة من قبل الباحثين والمختصين وفق مفهوم عملي ونقدي بعد أن اختلف دورها، والنظر فيما يفيد منها بعد أن أصبح الوضع «استهلاكيا» وليس مثل دورها سابقا خاصة بعد أن تنامت ظاهرة جلوس الشباب بأعداد كبيرة عليها حيث يتواجد الكثير من الشباب للعب الطاولة أو الدومينو أو تدخين النرجيلة في الوقت المفروض أن هذه الفئة تمثل الشريحة الكبرى المفترض أنها منتجة، والمبرر لكبار السن والمتقاعدين موجود في الانكماش بها للراحة والتسلية، مشيرا إلى تغير النظرة الحالية للمقاهي عكس الماضي تماما.
 
قوى استعمارية
وأضاف الدكتور فوزي: «كان التواجد بالمقهى في الماضي ينظر له على أنه أمر مشرف حتى أن القوى الاستعمارية التي قامت بغزو مصر عرفت أن المقاهي هي من تجمعات المقاومة ضدهم، والأمر ليس مقصودا به المقاومة العسكرية، ولكن الثقافية والفكرية والتوعوية، في نشر الثقافة الخاصة بالمقاومة بين روادها وبين الشعب بشكل عام، ونشر ثقافة الفكر والوعي، وبالتدريج خرجت عن المسار الطبيعي المرسوم لها كأحد أوعية الثورات، وعمليات الحشد ضد الاستعمار والتغيير، وخلق الوعي والتباحث فيما يفيد، وحاليا لم تصبح حتى ملجأ لمن يعانون من ضغوطات الحياة حيث أصبحت مكانا لتضييع الوقت والهروب من مشاكل المنزل، وفي السابق أيضا كان الجميع يتجمع حول مشكلة شخص معين في محاولات جادة لحل مشكلته ومساعدته على الخروج من الضائقة التي يعاني منها، وأيضا كان الجميع يتباحثون في المشاكل العامة، لكن حاليا لم يعد الأمر كذلك».
وأشار الدكتور فوزي إلى إحدى فوائد المقهى قديما فقد كانت تمثل مكانا لتجمع للحرفيين من مهن معينة لسرعة وسهولة التعرف عليهم في حالة وجود أشغال لدى البعض كصبغ المنازل أو أعمال البناء والسباكة والكهرباء وغيرها، ولم يعد الأمر كذلك حالياً.
 

font change