النائب العام المالي في لبنان: أصبحت أشعر أنني غريب في هذا الوطن!

علي إبراهيم يحاور «المجلّة» لتعريف الشّعب والسلطة بوجود نيابة مالية تنجز رغم الضغوط

النائب العام المالي في لبنان: أصبحت أشعر أنني غريب في هذا الوطن!

* مراجع دينية تنادي على المنابر بالعفة، وعند سقوط أحد اتباعها تعلو صرخاتها: «شو وقفت علينا وعلى طائفتنا؟ روح شوف غيرنا»...
* من دون لف ودوران، عملنا اليوم يكمن بإعادة الأموال المسروقة بكل بساطة واختصار
* في الدولة اللبنانية عينة كبيرة من الوزراء والنواب والمسؤولين الأوادم، لكن فداحة الفساد وملفاته تخلط بين الصالح والطالح
 

بيروت:ينتهك الفساد حقوق الإنسان «المواطن» والقيم الأخلاقية والعدالة بشكلٍ خاص، ويشوه أسس الديمقراطية ويقف سدًا منيعًا بوجه النمو الاقتصادي.
ويعتبر الفساد من أخطر أدوات الجريمة المنظمة بحق المال العام، لما يتطلبه من ذكاءٍ وحنكة واستعمال لأساليب احتيالية تحول دون كشفها، وتنتج عنه أضرار مادية ومعنوية بحق خزينة الدولة والمجتمع.
وفي لبنان عانت مؤسسات الدولة من هذه الآفة منذ نشأتها، لعدة أسباب واعتبارات، حولت المال العام إلى مالٍ سائبٍ، تتناتشه السلطات المتعاقبة ومافياتها والجماعات الطائفية المسيطرة على المشهد العام.
وقد شهدنا في أكثر من محطة، محاولات عقيمة ويتيمة تحت اسم «الحد من الفساد ومكافحته»، باءت كلها تقريبًا بالفشل لعدة أسباب، باستثناء بعد الملفات التي تمت إثارتها والكشف عنها لتوريط فاعليها والتخلص منهم إفساحًا في المجال أمام صفقات أكبر وأدسم ضمن استراتيجية ذر الرماد في العيون.
لكن مؤخرًا، وفي ظل الأزمة الاقتصادية في لبنان، ومع بروز الجهود الحثيثة والخطط الإصلاحية التي اعتمدتها الحكومة اللبنانية الثانية برئاسة سعد الحريري، والهادفة إلى وقف الهدر بجدية غير مسبوقة، عاد عنوان مكافحة الفساد كضمانة أساسية، تؤكد جدية الدولة اللبنانية تجاه الجهات الممولة المدينة والمانحة لمؤتمر «سيدر»، وبرز دور النيابة العامة المالية بشخص رئيسها القاضي علي إبراهيم.
والقاضي إبراهيم ليس جديدًا ولا هاويًا في قضية مكافحة الفساد، فقد بدأ عمله كنائب عام مالي منذ العام 2010 وأنجز عشرات الآلاف من الملفات (بمعدل 8000 ملف سنويًا)، لكن شخصيته الهادئة والصامتة انعكست بوضوحٍ على سياق عمله.
لكن في الآونة الأخيرة، بدّل القاضي إبراهيم في استراتيجية عمله «مرغمًا»، وقرر التعاون مع الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي، وخص «المجلة» بهذه المقابلة دون تردد، وهنا نص المقابلة:
 
* في الآونة الأخيرة، لوحظ تبديل استراتيجية عمل القاضي إبراهيم وأعطيتم للإعلام موقعًا هامًّا في عملكم. ما هو الهدف من هذا التعاون؟
- منذ أن تسلمت مهامي كنائب عام مالي، وفريق عملي يحثني على التواصل والتعاون مع الصحافة والإعلام. واقتنعت مؤخرًا بذلك بعدما استوقفتني عبارة وجوب تعريف الشعب والسلطة بوجود نيابة عامة مالية تعمل وتنجز.
في البداية كنت منقطعًا عن الإعلام رغم اعترافي بدوره الهام، لكن التعاون فرض نفسه خصوصًا مع تبني الحكومة السابقة والحالية لمشروع مكافحة الفساد بشكلٍ جاد وفعلي. وهذه المعركة لا تتوقف على القضاء فقط، لكنها مجموع تضافر جهود القطاعات والأجهزة والأفراد والصحافة والإعلام، الذين يتضامنون في سبيل إنجاح هذه المهمة. ويبقى تواصلي مع الإعلام حذرًا خدمة للعدالة والتحقيق وسريته.
 
* بالعودة إلى الحكومة السابقة فقد تم استحداث وزارة دولة لشؤون مكافحة الفساد، لكنها فشلت فشلاً ذريعًا... ما أسباب فشل هذه التجربة برأيكم؟
- للأسف، استحدثت وزارة من دون أدوات فعالة من حواضر البيت (بحسب تعبير القاضي إبراهيم) وأطعم الوزير نيقولا التويني جوزًا فارغًا، واقتصر دوره على تجميع معلومات غير موثقة، حتى اصطدم بعقبات وعراقيل من الجهة التي حسب عليها ووزرته قبل غيرها!
 
* في الإطار عينه، سبق وأطلقت وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية في الحكومة السابقة، مشروع الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد... ما واقع مكافحة الفساد في الوقت الحالي؟
- مكافحة الفساد هي عملية متواصلة ومستمرة، والواقع لا يزال كما هو عليه من ناحية إيجاد المخارج والتبريرات والتغطية لملفات الفساد ومرتكبيها.
 
* ما دور النيابة العامة المالية اليوم في هذه الخطة التنفيذية؟
- من دون لف ودوران، إن عملنا اليوم يكمن بإعادة الأموال المسروقة بكل بساطة واختصار.
 
*ما الرابط بين الدولة المدنية ومكافحة الفساد من وجهة نظركم؟
- عندما تتحول الدولة اللبنانية إلى دولة مدنية تلغى فيها كل أوجه المذهبية والطائفية، تنتظم حينها أمور كثيرة عالقة، وأولها ملف مكافحة الفساد، وتسقط عقبات كبرى من أمام عمل القضاء عمومًا والنيابة العامة المالية خصوصًا.
 
* ما العراقيل والعقبات التي تواجه عملكم، وأنتم لا تخفون حجم الضغوطات التي تمارس عليكم كنتيجة حتمية لطبيعة عملكم؟
- العقبات المذهبية التي سبق وذكرتها لا توقف مثابرتي على إكمال عملي بما يمليه علي ضميري وقسمي، لكنها تتعبني وتؤخر عجلتي. والغريب أن كل هذه المراجع الدينية تنادي على المنابر بالعفة، ولدى سقوط أحد اتباعها تعلو صرختها: «شو وقفت علينا وعلى طائفتنا؟ روح شوف غيرنا!»...
ومن ناحية أخرى تواجهنا مشكلة الحصانات والأذونات بالملاحقة التي تقف حاجزًا أمامنا وهي عقبة جدية جدًا تحول دون ملاحقة ومتابعة الكثير من الملفات الكبيرة والهامة. وفيما يختص بالمحاسبة بموضوع الهدر العام فإن جرائم هدر المال العام التي حدثت قبل 7 سنوات مثلا وهي (جُنَح) يجب أن تأتي في سياق اسمه جريمة متعاقبة بمشروع جرمي واحد وجريمة مستمرة وذلك كي لا نصطدم بقانون مرور الزمن الذي يشكل عقبة قانونيّة أيضًا بحد ذاته.
 
* كيف يؤثر موقعكم كنائب عام مالي ورئيس لصندوق القضاة على حياتكم الخاصة؟
- قالت لي زوجتي ذات مرة: مش رح تخليلنا صاحب! وهذا تجسيد حقيقي لصعوبة وحساسية موقعي، وبعد التجربة وسنوات العمل والخبرة، أستطيع أن أقول لك إنني أصبحت أشعر أنني غريب في هذا الوطن!
 
 
* كيف تقيّمون أداءكم حتّى اليوم بكل تجرّد وشفافية؟
- بالمبدأ ما حدة بيقول عن زيتاتو عكرين، ولكن بكل مرارة أقولها، ليست هذه هي سياسة مكافحة الفساد التي كان يتمناها اللبنانيون وكنا نتمناها معهم.
يجب خلق مناخ وثقافة المواطنة ومكافحة الفساد الفعلي، لأن لبنان لم يعد قادرًا أن يحتمل أكثر مما احتمل حتى اليوم.
 
* مع إقرار الحكومة اللبنانية لمشروع الموازنة العامة وإحالته إلى لجنة المال والموازنة النيابية بعد 19 جلسة مناقشة، ما موقفكم منها في ظل الجدل القائم حولها مؤخّرًا؟
- أشبّه هذه الموازنة بصاحب شركة يسرق شركته طيلة أعوام حتى يوصلها لحد الإفلاس، ثم يعود ليجمع الأموال من جيوب العاملين في الشركة لتفادي الإفلاس.
 
* ما رأيكم كقاض باستمرار اعتكاف القضاة كل هذه الفترة؟
- دقوا فينا وبلقمة عيشنا وعيش ولادنا بدل ما يروحوا يسهلوا لنا شغلنا لنرجع الأموال المنهوبة، وساعتها سنمول 10 موازنات وليس موازنة واحدة!
 
* بعد هذه السنوات من العمل والخبرة، هل تجدون إمكانية لاستئصال الفساد من الدولة؟
- الفساد موجود في كل بلدان العالم ونحن هدفنا تخفيض الفساد إلى أدنى حد له على الأقل لكي نوازي الدول المتحضرة.
 
* كلمة أخيرة تخصون بها «المجلّة» وتختمون من خلالها هذه المقابلة...
- أرفض التعميم في طبيعتي، ففي الدولة اللبنانية عينة كبيرة من الوزراء والنواب والمسؤولين الأوادم، لكن فداحة الفساد وملفاته تخلط بين الصالح والطالح.

 
* القاضي علي مصباح إبراهيم
- ولد في العاشر من أبريل (نيسان) من العام 1957 في بلدة الوردانية.
أنهى دراسة الحقوق عام 1977.
التحق بمعهد الدروس القضائية وتولى المناصب التالية: قاض منفرد في صيدا وصور، رئيس محكمة الاستئناف في صيدا، رئيس محكمة الاستئناف المدنية في البقاع.
حصل على شهادة الدكتوراه في العام 1990 ودخل عالم التدريس في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية.
عيّن نائبا عامًا ماليًا في 10 سبتمبر (أيلول) 2010 وما زال في منصبه حتى يومنا هذا.
 
 

font change