شباب النيل... والبحث عن سودان أفضل

الجيش السوداني والفترة الانتقالية

شباب النيل... والبحث عن سودان أفضل

* اعلن الجيش اضطراره للتدخل لتأمين الدولة، في مواجهة التهديدات الأمنية، ولاحقاً لتأمين الانتقال السلمي للسلطة، ثم ما لبث أن دخل في مفاوضات مع السياسيين، للبحث عن شرعية مشتركة
* ثمة عوامل أربع، تؤثر على موقف الجيش من الثورات؛ وهي ظروف المؤسسة العسكرية، والدولة، والمجتمع، وأخيراً البيئة الخارجية
* لا دولة تشبه الأخرى، والسّودان أكثر تعقيداً من التعميمات العابرة، والاختزالات؛ حتى ولو كانت أكاديمية أو تدّعي الحياد
* ظلت دول العالم الثالث، أو تلك التي استقلت متعجلة، تركّز على أن أهم ما تركه الاستعمار، هو الجيش المؤهل للإدارة
* كانت قوة دفاع السودان وحرس الحدود، ولاحقاً جيش السودان، تتفاخر بقدرتها على الانضباط. وساهم اندلاع التمرّد في جنوب السودان، في رفع القدرات القتاليّة للجيش السوداني
* لا يمكن اتّهام الجيش السوداني وحده بأنّه مُسيّس؛ فكل ما في السودان تعرّض للتسييس، بل إنّ فعل الانقلاب العسكري في السودان، يُنظر إليه على أنّه فعل سياسي
* السودان يحتاج إلى التواضع، وفهم الواقع، والقبول بالمساومات، والتخلّص من الوثوقية المبالغ فيها

أبو ظبي: نجح السودانيون في إزاحة الجنرال البشير، وخَلَفِه الجنرال ابن عوف، وأثبتوا أنهم متمسكون بتحقيق الانتقال إلى عهد جديد، بدأتْه مظاهراتهم منذ ديسمبر (كانون الأول) 2019. وصولاً إلى اعتصام 6 أبريل (نيسان) أمام القيادة العامة للقوات المسلحة، وما صحبه من أحداث، يزعم الجيش اضطراره معها للتدخل لتأمين الدولة، في مواجهة التهديدات الأمنية، ولاحقاً لتأمين الانتقال السلمي للسلطة. ثم ما لبث أن يدخل في مفاوضات مع السياسيين، ليبحثا عن شرعية مشتركة لإنشاء حكومة انتقالية. فما هي الظروف المحيطة بهما: الجيش والمدنيين؟
 
أولاً: كيف تستجيب الجيوش للثورات... ولماذا؟
أجمل تتبع زولتان باراني Zoltan Baranyاستجابة الجيوش للثورات الشعبية، في ثلاثة خيارات، الأول منها أن يدعم الجيشُ الثورة، والثاني أن يُعارض الثوار، والثالث أن ينقسم بين الخيارين؛ فتدعم قطاعات من القوات المسلحة الثورة، في الوقت الذي تعارضها فيه قطاعات أخرى. (زولتان باراني، كيف تستجيب الشعوب للثورات... ولماذا؟ الشبكة العربية، ص 14 - 21).
وثمة عوامل أربع، تؤثر على موقف الجيش من الثورات؛ وهي ظروف المؤسسة العسكرية، والدولة، والمجتمع، وأخيراً البيئة الخارجية. كل مجال من هذه المجالات الأربع، غالباً ما يؤثر في الآخر.
تتمثل العوامل العسكرية، في التماسك الداخلي للقوات المسلحة؛ إذ تؤثر التباينات العرقية، والدينية، والقبلية، والمناطقية، في تماسك الجيوش، وهي تُقسّم الجيوش عادة، لا سيما تلك التي تتشكل أساساً من المجندين إجبارياً، الذين غالباً ما يمثلون قطاعاً رئيسياً من سكان البلاد.
والخوف من الانقسامات مؤثّر جداً؛ سواء الهرمية، أي بين الرتب الصغيرة والكبيرة، أو بين وحدات الجيش نفسه؛ خاصة بين القوات البرية وفروع الجيش الأخرى. ويمكن في الحالة السودانية إضافة المؤسسات الأمنية الأخرى، والتي باتت تعرّف باسم «المنظومة الأمنية».
ويضيف بارني إلى العوامل العسكرية المؤثرة، كلاً من الانقسامات الاجتماعية والسياسية داخل النخبة العسكرية، ورؤية قادة الجيش لشرعية النظام، وسلوك الجيش تجاه المجتمع في السابق.
أما العوامل التي تتعلق بالدولة، فهي تنحصر في طريقة معاملة النظام للجيش، واهتمام قادة النظام بالوضع المادي للجنود ورفاهية قادة الجيش، ومدى الاستقلال المهني المتاح للجنرالات، ونطاق سلطتهم في اتخاذ القرارات، والهيبة العسكرية واحترام المجتمع، اللذان سمحت بهما الدولة ونظامها للجيش. وبدرجة أقل، فإن الجيش ينظر إلى حجم وتكوين وطبيعة المظاهرات، وينظر أيضاً لصنّاع التغيير أو من يمثّلهم، وإمكانية إقامة علاقة معهم، كعاملٍ مؤثر.
أما العوامل الخارجية، فتتصدرها احتمالات التدخل الأجنبي، والعلاقات الخارجية السابقة، وتُضف خبرات الضباط مع الخارج، على أنها عامل يمكن أن يدفع لإحدى الخيارات.
وبعد هذه المقدمة، وضع الباحث مقارنة ليرى أي العوامل أهم؛ فابتدأها من التماسك الداخلي للقوات المسلحة؛ ومفاضلة الجنود المحترفين في مقابل المجندين إلزامياً؛ ثم وضع معاملة النظام للجيش؛ ومعها رؤية قادة الجيش لشرعية النظام؛ وبعدها حجم وتكوين وطبيعة المظاهرات؛ وأخيراً احتمالات التدخل الأجنبي.
ويمكن البناء على هذه المناقشة، لفهم تعامل الجيش، مع الفترة الانتقالية أيضاً؛ فهي عناصر مهمة، مع الاعتراف أن لا دولة تشبه الأخرى، وأنّ السّودان أكثر تعقيداً من التعميمات العابرة، والاختزالات؛ حتى ولو كانت أكاديمية أو تدّعي الحياد.
 
مفاهيم معقّدة ومُركّبة... لا تتّضح بالتكرار
خضع مفهوما السلطة والقوة، مثلاً، للجدال الفلسفي في الأروقة الأكاديمية، وبات من المتعارف عليه انفصال السلطات عن بعضها، طبقاً لنظام الدولة وطريقة تركيبها. عملياً، تَشَكّل فصل السلطات هذا في الأعراف داخل الدول العريقة، بحيث يختلف من دولة لأخرى، وظلّت خصوصية الأجهزة النظامية وتدخّلها في السياسة، تتباين من نموذج لآخر.
ولا يمكن زعم الانفصال المطلق بين الجيش والسياسة؛ فالتداخل في شؤون الأمن القومي، من جهة، وتوسع دخول الجيوش في العمليات الاقتصادية الكبرى من جهة أخرى، والتواصل المجتمعي، وفتح أبواب التجنيد الإلزامي، وعسكرة المجتمع العابرة، وحتى نظريات منع تسييس الجيش بتثقيفه سياسياً، كلها نقاط جعلت الخلط مبرراً.
ظلت دول العالم الثالث، أو تلك التي استقلت متعجلة، تركّز على أن أهم ما تركه الاستعمار، هو الجيش المؤهل للإدارة. كان ذلك على صيغة الحاكم العسكري، والسكرتير الإداري، ومعهما بعض الإداريين المساعدين. وترك النخبة المتعلمة التي جرى تأهيلها علمياً لتخدم في السّلك الإداري. وكانت الغلبة للجيش على المدنيين؛ بحكم انتشاره في البلاد، ومعرفة المجتمع ببطولاته العملية، وتبَنّيه للثورات الوطنية والتحررية. وبعد الاستقلال، انتصر لأنه يخوض الحرب، حتى كاد قولهم «في أي بلاد تخوض حرباً لا سيادة لمدني»، أن يصبح دستوراً غير مكتوب.
أنتج الطرفان إدارة يصفها الناقدون بأن أقصى طموحها محاكاة طريقة الاستعمار في الإدارة والحكم. ذلك أن الدولة في التفكير العربي، تغذّت على حزمة عوامل؛ أهمها هو طريقة الإدارة الاستعمارية، التي كانت تُبنى على الحل الأمني، والتأهّب لحسم التفلّتات «الداخلية». تسرّبَت هذه الروح إلى داخل القوى الوطنية، في طريقة تعاملها مع الشعب، ووصايتها عليه، وانفصالها عنه، من منطلق أنّ هذه الطريقة «مُشَرّبة بالوطنية»، ومحميّة بحق الدولة في ممارسة العنف الضروري.
سرعان ما قاد الضباط «الأحرار» في الدول العربية، انقلاباتهم أو حركاتهم أو ثوراتهم، واستولوا على الحكم تحت ستار شعبي، في مصر، والعراق، وسوريا، والجزائر، والسودان. وقدّموا أنفسهم أوصياء على الدستور، وحماة لعملية «السيادة» والتحديث القسري؛ يمنعون الأحزاب السياسية المتشاكسة، من العبث بمستقبل الشعوب!

 

المتحدث باسم المجلس العسكري الانتقالي في السودان شمس الدين كباشي يتحدث خلال مؤتمر صحفي في قصر الرئاسة في الخرطوم ، السودان ، في 13 يونيو 2019


 
السودان... الانقلابات السياسية
في السودان، كانت قوة دفاع السودان وحرس الحدود، ولاحقاً جيش السودان، تتفاخر بقدرتها على الانضباط. وساهم اندلاع التمرّد في جنوب السودان، في رفع القدرات القتاليّة للجيش السوداني، الذي وجد نفسه مؤهلاً لخوض حربٍ داخلية؛ على ضعفها استمرّت لعقود، وصعَدتْ معها أسهم القوات المسلحة، وبدرجة أقل، الشرطة.
حاول الجيش في السودان أن يكون متماسكاً باحترافيته العالية، مترفّعاً عن السياسة في بداية تأسيسه، حتى استولى الفريق إبراهيم عبود على الحكم في السودان. ذلك الانقلاب العسكري (نوفمبر/ تشرين الثاني 1958)، الذي يُصِر خصوم حزب الأمة أن يربطوه سياسياً برئيس الوزراء عبد الله خليل (ت 1970)، ويزعمون أن الانقلاب تمّ بتحريض من أطراف سياسية. ويطيب استخدام ذلك الزعم، مقدمة لرواية أنّ كل الانقلابات العسكرية اللاحقة، تمّت تحت إمرة أو بتحريضٍ من الأحزاب السياسية؛ فالتالي جعفر نميري (مايو/ أيار 1969) تمّ بدفعٍ من أحزابٍ يساريّة اضطرّت للانقلاب بعد طرد الحزب الشيوعي من البرلمان، أما انقلاب هاشم العطا فكان تصحيحياً، ثمّ جاء انقلاب البشير الإسلامي. ولم يظهر بعدُ لانقلاب أبريل 2019، حزب يتبناه، بعد أن تناكره الإسلاميون والحرية والتغيير معاً، ويأمل كثيرون أن يُعتبر انحيازاً للثورة؛ كانقلاب أو تحرك سوار الذهب في عام 1985 والذي جاء استجابة لانتفاضة أبريل.
جرّب السودانيون الحكم العسكري الصّرْف، خلال حكم الرئيس إبراهيم عبود، وكذلك في سنوات قليلة تَحرّر فيها النميري والبشير من اليساريين واليمينيين. وتقوم النظرية التسويقيّة لحكم الجيش دائماً، على أنّ هناك مفاضلة إجبارية، بين الأمن والديمقراطية؛ أي إن النخبة عليها إما الاختيار بين الديمقراطية التي تؤدي إلى فوضى، أو الحكم العسكري الذي سيؤدي إلى التنمية. وهذا ما قام في السودان في سنوات الحكم العسكري، التي توجّهت باجتهاد كبير، لتسخير السياسيين الآحاد، للنيل من الأحزاب أياً كان توجهها.
كما جرّب السودانيون، الحكم العسكري الانتقالي، في سنوات سوار الذهب، التي يُصِرّ الإسلاميون والعسكر، على تذَكّرها بإكبار وتقدير، بينما يصفها الإداريون بأنّها واحدة من أسباب وصول الإسلاميين للسلطة!
على أي حال، فقد ظل الجيش السوداني في عهوده يقف على قدمين، يضع إحداهما في ساحة المعارك في الجنوب، فيما ظلّت الأحزاب التي ترعى الانقلابات، تتعلّق بقدمه السياسية، حينما تحتاج لقوّته الإدارية في أوقات الأزمات.
وبقدر ما حاولَت النخب السياسيّة، والمثقّفون الفوقيّون، تشويه صورة العسكري السوداني، إلا أنّه انتصر عليهم بالوطنيّة الباذخة، وبالشعر والأدب والثقافة، فبرز لكل هؤلاء الفنون جهابذة من العسكريين. وأهم من هذا؛ فقد أحسن العساكر استغلال صراعات السياسيين؛ إذ طالما يلجأ إليهم الأضعف من بينهم. وحينها تُطِلّ الدعاية السياسية المبنيّة على فكرة «وطنيّة الضبّاط الأحرار» وتفوّقهم، يظلّ يشعر الضبّاط أنّ عليهم مسؤوليّة تفوق المواطنين الآخرين، وأنّ اسمهم متصل بسيادة الدولة.
 
عاطفية السلطة الانتقالية في السودان
حينما تولّى الرئيس المصري حسني مبارك الحكم، تحدّث عن عهده على أنّه مرحلة انتقالية. ظلّ هذا الإحساس يلازمه حتى انقضت عشر سنوات تقريباً من حكمه الذي استمر نحو ثلاثين عاماً. أمّا في السودان، فلا يزال البلد، يحكمه دستور انتقالي؛ إذ لم يتم التوافق على دستورٍ دائم يجيزه برلمان سوداني منتخب قط، وظلّت الدساتير مؤقّتة أو مجازة في عهد عسكري، لذا لن يكون غريباً أن نقول إن السودان، ومنذ استقلاله، يعيش مرحلة انتقالية طويلة!
وتاريخ الجيش في السودان، مؤثّر، وللناس تعلّق جماعي به؛ فالجندي السوداني عُرف منذ التاريخ البعيد بقوّته، وأهل السودان يحبون الفرسان، حتى إنّ الثورة المهدية انتهت إلى حكمٍ عسكري، قبل أن تسقط، وقاتل العسكريّون السودانيّون في الحروب العالمية، وأهاليهم يتناقلون بطولاتهم ومروءتهم ويفخرون بذلك.
أكلت بعض عناصر الإجماع الوطني هذه الصورة المعنويّة، حين احتاجت المعارضة السياسية أن تواجه الجيش الرسمي؛ سواء المعارضة العسكرية الجنوبية في الستينات، والتي باتت تعرف بالشماليّة في السبعينات، والتي حظيَتْ بدعمٍ ليبي وأفريقي إبّان حكم جعفر نميري، أو العناصر التي تشكّلت لمعارضة الإنقاذ، تحت مظلّة التجمّع الوطني الديمقراطي، والحركة الشعبية لتحرير السودان، قبل توقيع اتفاقية السلام في 2005. وورثتها حركة العدل والمساواة، وحركات تحرير دارفوريّة متقاتلة، وأحزاب عسكريّة في شرق السودان، وغيرها من أذرع مسلّحة لكل الأحزاب السياسية السودانية. تبنّت تلك الأذرع خطاباً تأسّس على نبذ الجيش، والذي وُصف بأنّه جيش الجبهة الإسلامية في بداية 1989. ثم انتهت إلى تسميته بجيش البشير، وفي أهون التسميات هو جيش النظام.
لا يمكن اتّهام الجيش السوداني وحده بأنّه مُسيّس؛ فكل ما في السودان تعرّض للتسييس، بل إنّ فعل الانقلاب العسكري في السودان، يُنظر إليه على أنّه فعل سياسي! فإلى اليوم، تتحاشى الأحزاب المبادرات التي تُجرِّم إدانة الانقلابات والاعتذار عنها!
ويَنظر الجيش إلى انتفاضة 1985، على أنها دليل كبير على ترَفُّعه عن السياسة. ولكن يمكن ملاحظة أن هذا الموقف، استخدم مراراً لمنح الجيش «فيتو» على العملية السياسية؛ يطلب استقالة الوزراء، في حكومة السيد الصادق المهدي المنتخبة في الثمانينات، وينصح في السياسة الخارجية، وتجتمع قيادته بالأحزاب السياسية وغيرها. وقد كان تدخّلاً مباشرا في الشأن السياسي، وهو، أي الجيش، وإن كان يقدم رأياً حكيماً في بعض الأوقات، إلا أنّ ما يقوم به، لا يزال يسمى «تدخّلاً» عسكرياً في شأن سياسي.
لاحقاً؛ «عَقْلَن» نظام البشير في سنواته الأخيرة هذا التدخّل، بأنّ صنع بعض الأجسام المختلطة، بين العسكريين والمدنيين؛ كمجلس الدفاع والأمن، الذي يضم وزارات الداخلية والمالية والخارجية، بالإضافة إلى أركان القوات المسلحة، والأمن والمخابرات، وبدرجة أقل كانت اللجنة الأمنية.
 

زعيم الاحتجاج السوداني محمد ناجي الأسام خلال مؤتمر صحفي في العاصمة الخرطوم في 17 يونيو   2019


 
مشاريع الإسلاميين وخصومهم لاستبدال الجيش
طوال الأشهر الأولى من حكمها، كانت الجبهة القومية الإسلامية في السودان تزعم أنها قامت بانقلابها العسكري بسبب مذكّرة قدّمها قادة الجيش حينها إلى رئيس الوزراء، السيد الصادق المهدي، يطالبونه كتابة بتحسين الأوضاع، صحبتها مطالبة شفاهية، بإبعاد الجبهة الإسلامية من ائتلاف الحكم.
عمل الإسلاميون سريعاً، على إدخال معانٍ إسلامية تنظيمية في الجيش. بل إن عراب النظام، قال للإسلامي عزام التميمي في مراجعة بثّتها قناة «الحوار» الإخوانية، إنّ الحركة الإسلامية كلها، تحوّلت إلى واجهات اجتماعية، سوى مكاتب قليلة، من بينها المكتب الذي يحكم الضباط الإسلاميين في الجيش.
كانت محاولات أسلمة الجيش، بالإضافة إلى القوات شبه النظامية، جارية، ولكنها تعرّضت لعراقيل كثيرة؛ أولها، أن الانقسام الذي ألمّ بالنظام الجديد في عام 1999، اضطَرّ الإسلاميين الحاكمين، إلى التضحية بكل الإسلاميين الذين يُشَكّ في تبعيّتهم للترابي. صحيح أنّ هذا كان أدعى إلى أن يظلّ فيهم إسلاميون يتبعون للجناح الآخر، ولكن تيّارات من التصفيات دخلت، فحاولَت أن تجعل الجيش، موالياً للجنرالات المقرّبين من المشير البشير وحده، خاصة بعد تمرّد دارفور، ومحاولة صلاح قوش وود إبراهيم الشهيرة للانقلاب.
بموازاة تمَنُّع نواة الجيش الاحترافية، كانت هناك أجسام ناشئة، نظاميّة مسلّحة، تنمو لأغراضٍ مختلفة؛ فكان الدفاع الشعبي يُعتبر تمَثُّلاً للنظريّة الجهاديّة، التي يُراد للجيش أن يستلهمها، ويُراد لها أن تصبح أكبر من الجيش من جهة، ومن جهة أخرى هو تحويل للشعب إلى شعب مقاتل نظرياً، أما عملياً، فيَنظُر إليه خصوم الإسلاميين على أنه الذراع المسلّحة شبه الرسمية للحركة الإسلامية.
لم يكن الدفاع الشعبي الذراع الوحيدة للحركة الإسلامية؛ فهناك من يعتبر حركة العدل المساواة، جناحاً عسكرياً لحزب المؤتمر الشعبي المعارض، وهذا حديث غير دقيق، ولكن ثمة حقائق متناثرة تُبرّره، تتمثّل في تحوّل الدكتور خليل إبراهيم؛ الإسلامي الدارفوري، إلى معارضة الحكومة بالسلاح، تزامناً مع خروج الدكتور الترابي منها.
يجادل الإسلاميون، بأنّ ثقافة الميليشيات المسلحة، لم يبتدعها نظامهم بعد 1989، فيُصرّون على تكرار أنّها بدأت عُقَيب انهيار سلام جعفر نميري، ونشّطها سوار الذهب، ويزعمون أنّ الصادق المهدي إبّان حكمه، أضفى عليها بُعداً عربياً في كردفان، ووظّفها في حرب الجنوب، وهذا زعم تدعمه، الدراسات الغربية التي تتبعت سلاح المجموعات المتناحرة في دارفور، في حروب العرب ضد العرب فيها!
أما الجسم الذي يفتخر البشير بأنه أنشأه، فهو الدعم السريع، الذي وُلد من مخاض حروب عرب دارفور فيما بينهم، ونتاجاً لجهود الاستخبارات العسكرية من جهة، والخلافات القبائلية من جهة أخرى. وكانت رعاية هذا الجسم الجديد، مسؤولية بين مجموعة جهات متوازية، بيد أن قائحمدان دقلو موسى (حميدتي)، انتزع بذكاء، تبعية مباشرة للسيد الرئيس؛ تبعية نالها بعد اعتصامٍ وتمرُّد قاده لمدة أشهر، بدأت في أغسطس (آب) 2007، تقريباً، وانتهت في بداية العام 2008.
تشير بعض الدراسات، إلى أنّ حميدتي، في الأشهر التي تمرّد فيها على البشير، حاول القيام بدورٍ سياسي استراتيجي؛ فقام بمحاورة عبد الواحد محمد نور، وحركة العدل والمساواة، ونجح في وضع مذكّرات تفاهم معهم، بل إن دراسات تزعم أنّه أنشأ مع «خاطر» حزبا سياسيا، سرعان ما نبذه، وهذا، على تردد المعلومات حوله، مهم لفهم أنّ له دوراً سياسياً.
لقي الدعم السريع، الذي كان ينسب تارة لجهاز الأمن والمخابرات الوطني، وتارة للاستخبارات العسكرية، ويرفض منسوبوه بحسم أن يُنَسَّبوا كأتباع موسى هلال لحرس الحدود، لقي عناية الجنرال البشير الخاصة، ونجح في تحقيق نجاحات لنظام البشير في دارفور.
وتطوّر الدعم السريع، من قوات غير نظامية، إلى خلطة فيها قَسَمات من القوات الخاصة، ومن قوات «الحرس الجمهوري» أو قل «حرس الثورة»، وحظي بتسليحٍ جيد، وتماسك كبير في بنيته الاجتماعية، القائمة على تركيبة خاصة من الولاءات المعقّدة.
 
البشير وإعادة موضَعة الجيش في قلب العملية السياسية
لا شك أنّ سنوات حكم البشير، شهِدَت خطابات كثيرة. ولكنّ الشهور الأخيرة من عهده؛ تلك التي بلغ فيها الغضب ضدّه ذروته، احتوَت وصفات مهمة، لا يمكن فهم الراهن السياسي دون المرور عليها، سيّما على آخرها. ففي خطاب فبراير (شباط)، أعلن البشير حالة الطوارئ، وأسند الحكم «الحقيقي» إلى القوات المسلحة، وأشار إلى رغبته الصريحة في أن تتولى القوات المسلحة المشهد السياسي. ثم قام البشير حينها بإقالة الولاة المنتخبين، وعيّن عسكريين مكانهم، وهو عين ما صنعه المجلس العسكري، لاحقاً.
في مارس (آذار)، لم يتردّد البشير في ترحيبه بأن يتولى أي عسكري في القوات المسلحة، الحكم. وكان هذا في صالح القوات المسلّحة، خصماً على الإسلاميين، وربما على جهاز الأمن، ويضيف آخرون دون تدقيق: الدعم السريع، والذي لم ينل حظاً من توزيعة البشير للمناصب على القوات المسلحة.
 
ما بعد البشير: هل سيضمن الجيش استمرار امتيازاته
في السنوات التي أعقبت اتفاقية السلام، جرى إهمال القوات المسلحة إهمالاً متعمّداً، وظلّ كبار مساعدي البشير، يشكون للسفراء والوفود الأجنبية من تدهور الجيش، وعدم قدرته على مجاراة الميليشيات المسلحة في دارفور، وكان دخول خليل إبراهيم إلى العاصمة السودانية، في عملية الذراع الطويلة، في مايو 2010، مناسَبة ليقوم وزير الدفاع السوداني، بالتصريح بأنّ جيشه يَستخدِم معدات متهالكة من أيام الحرب العالمية. توازى مع هذه التصريحات تسليح جيّد لجماعات أخرى، على رأسها قوات الدعم السريع.
وخلال السنوات الأخيرة من حكمه، لم يقم البشير بجهدٍ في شيء مثلما قام في محاولته تحديث القوات المسلحة، عبر صفقات خاصة. حتى إنّ المدنيين، من حزبه، كانوا يقولون، إن الرئيس يحوّل كل المساعدات والصفقات الخارجية، إلى صفقات للجيش، وربما سيزعم البعض أنّ استثمارات الحركة الإسلامية نفسها، تم تحويل بعضها لملكية الجيش؛ كما سيكون في التصنيع الحربي.
في مثل هذه الظروف التاريخية، يعقد القادة الأذكياء صفقات، تتيح للقوات المسلحة وللجهات الأمنية الأخرى، أن تبني إمبراطوريّة اقتصاديّة، وهو ما أتاحه البشير لهذه القوات في السودان. وفوق هذا، فإنّ الميزانية التي تحصل عليها هذه القوات، من الصعب على شخص غير عسكري أن يوافق على ربعها، ولو تَهدَّد الأمن، بينما لم يكن البشير يتردّد للحظة في إقرارها.
في ظل هذه المعطيات، سيتطلب إعادة إدماج القوات المسلحة داخل الدولة السودانية، أو إدارة الرئيس المدني، تفهُّماً كبيراً، عَزّ أن يوجد لدى المدنيين في السودان.


 
الرصيد السياسي للجيش
أحد المتشائمين، وهو يتابع استقبال صغار الضباط للمتظاهرين، قبل سقوط البشير بأيام، قال إنّ النظام قرر إعادة ترتيب المسرح السياسي عبر القوّات المسلّحة. وبالفعل، استخرجَتْ القوات المسلحة، تفويضات ميدانية سريعة قبل سقوط النظام، حتى قبل وصول قادة الحرية والتغيير إلى الميدان، فتعالى هتاف الجماهير: «تمسكها أنت»؛ لجندي يافع يحتضن سلاحه ويتذمر من تخاذل قادته عن الانحياز العاجل للجماهير. بل إن زعيماً بقامة الصادق المهدي، قدّم للبشير قبل سقوطه بيومين (9 أبريل 2019)، ثلاثة خيارات، كان ثانيها هو: تسليم السلطة لمجلس عسكري، يقود عملية التفاوض مع المتظاهرين في مرحلة انتقالية».
هذا غير ما كشفه عضو المجلس العسكري الانتقالي، الفريق ياسر العطا، من اتفاق العسكريين المزعوم مع بعض قوى الحرية والتغيير، قبل تغيير البشير، وأشار بوضوح إلى أنّهم «العسكريين» من طلبوا من قوى الحرية والتغيير أن يغيروا اتجاه مسيرة أو مظاهرة 6 أبريل، من القصر الجمهوري، إلى القيادة العامة، محل الاعتصام. وأشار في لقاءات لاحقة؛ إلى أنّ اللجنة الأمنية تواصلت باستمرار مع بعض السياسيين المعارضين، دون علم البشير! وظلّت محاولات فضّ الاعتصام الأولى، في عهد البشير، تُصنّف على أنها تمثيلية لكسب الشباب، سواء حسب تصريح الشامي، أو حسب نفي رئيس المجلس العسكري لحدوثها أصلاً، رغم أنّ من بين قتلاها جنود من القوات النظامية.
وسواء كان هذا بعلم البشير، أو من دونه، فإنّ الجيش تقدّم بسرعة نحو السياسة، منذ تعيين ابن عوف نائبا، بل؛ منذ تعيين سلَفه بكري حسن صالح، بعد مظاهرات سبتمبر (أيلول) 2013!
لا يمكن أن نزعم أن ما تمّ انقلاب صَرف، ولكن من الصعب إهمال «الدور السياسي» للجيش، والذي حاول إعادة تطبيق أو تسويق «نموذج سوار الذهب» البسيط ظاهرياً، ريثما يتمكن من أن يعيد ترتيب المسرح السياسي. كانت الفكرة جيّدة، بالنسبة لهم، لتحقيق الانتقال الناعم، ولكنها تجاهلت التعقيدات السياسية التي تكتنف القوات المسلحة السودانية وقادتها.
وفي إطار الرصيد السياسي، يمكن الزعم بأن موقع الدعم السريع داخل قيادة المجلس العسكري الانتقالي، لم يأتِ بحكم القوّة الميدانيّة المعروفة، ولا التوازنات العسكرية الدقيقة، أو التحالفات الإقليمية فحسب، بل إن بعض المعتصمين أمام القيادة - بوعي أو من دونه - كانوا من المطالِبين بالوصفة، والتي حمَلَتْ الجنرال عبد الفتاح البرهان وحميدتي، وأقصت الثلاثي ابن عوف، وكمال عمر، ورجل الأمن القوي صلاح قوش.
بعد تغيير البشير وابن عوف، وصعود شعبية الجيش؛ جاءت أخطاء التعامل مع الاعتصام، لتأكل الرصيد الشعبوي الذي صنعَته المنظومة الأمنية؛ وسرعان ما تبخّرت شعبيّتها الثورية، ولكن رصيدها السياسي، ما زال حافلاً.
نجح الدعم السريع، في سنوات البشير، في أن يكون شريكاً للجهات الدولية، في ملفات مكافحة الهجرة غير الشرعيّة، ومكافحة الاتّجار بالبشر، كما نجح، ضمن القوات المسلحة، أن يكون في أراضي نزاع.
وحينما كان البشير يتحدّث في آخر أيامه عن المصالحة في أفريقيا الوسطى وجنوب السودان، كان في تصوّره أن قوات الدعم السريع، بوسعها أن تكون هي الضامن للمصالحات التي يرعاها. والشاهد أن شهيّة الاتفاقيات الخارجية مفتوحة، وهو أمر لن يستطيع المدنيّون، في المرحلة الانتقالية أو ما بعدها، تفَهُّمه، ولا يمكن للقوات المسلحة التفريط فيه.
 
إدارة الفترة الانتقالية
يتعرّض الجيش السوداني اليوم لامتحانٍ عسير، ولن يقيس نجاحه بمستوى رضا السياسيين عنه، بل إن عينه وطموحاته تنتهي عند ضمان الأمن والأمان إلى حين إجراء انتخابات سياسية. وفي الأثناء، فإنه يجعل التعثّر السياسي مسؤولية الآخرين، وفي أحسن الظروف هو مسؤولية مشتركة، فكيف يمكن الخروج من النفق؟
يعرف العسكريون، أنّ الانقلابات العسكرية في السودان، لا تنجح إلا تحت ظل حكم المدنيين. لذا لن يسمحوا بأن تكون الفترة الانتقالية، كاملة المدنية؛ لأنهم يدركون أنّ عودة النظام القديم، أو النظام العسكري، قد تعني محاكمتهم بتهمة الانقلاب العسكري.
تَسبب تأخُّر الاتفاق المنتظر، في أن يمارس العسكريون كل مهام السياسة المدنية. فلو أن مجلس الوزراء المدني تشكّل، وشرع في أعماله، ربما كان سيحتفظ بحق التشريع المشروط. وبطول مدة غياب الحكومة، يقوم المجلس الانتقالي، بمهامها كاملة، وربما يقوم بالمهام التنموية؛ لا بوصفه حكومة، بل بوصفه القوات المسلحة، وهو ما يعزز فكرة انعزال القوات المسلحة عن جسم الدولة. ويستدعي نموذج «المبادئ فوق الدستورية»، التي تُحصّنها.
إن الشرعية التي يستند إليها العسكريون والمدنيون في السودان الآن، شرعية نظريّة، تتفوّق العسكرية، بوصفها حاكمة وأمراً واقعاً، بينما لا يمكن تحقيقها إلا عبر الصناديق الانتخابية، وهي التي يفرّ منها المدنيون، خشية التزوير.
 
خاتمة
يمكن تقسيم تجربة معارضة حكم الإسلاميين في السودان إلى عدة مراحل، ولكنّ المرحلة الأولى التي بدأت من صبيحة الانقلاب، تميّزت بأنّها احتوت على حوار حول الأفكار، فقد كانت تدرك جزئياً أن واحداً من أسباب انهيار الديمقراطية الثالثة، يكمن في ضعف الإطار الرؤيوي لنقل السودان من حالته القديمة؛ إلى دولة التشارك، وتوازن القوى، وأنّ السياسيين والعسكريين لم يطوّروا التعاون المشترك؛ فقد كانت الذهنية آنذاك، متشبعة بكراهية حقبة المشير جعفر النميري.
كان الفشل حافزاً لأن ينظم السياسيون السودانيون في التسعينات مبادرات جيدة لنقاش شكل الحكم، واتفاقات سياسية توافقيّة، ومقرّرات مصيريّة، وغيرها، كما أنّها تضمّنت تمثيلاً واسعاً لمكونات الدولة السودانية، بما فيها القوات المسلحة الشرعيّة، التي مثّلها القائد العام، الفريق أول فتحي أحمد علي مثلاً. وكان فيها تمثيل لسياسيين عسكريين؛ كالفريق عبد الرحمن سعيد، والعميد عبد العزيز خالد، والعميد محمد المأمون، وغيرهم. وكانت المعارضة السودانية، تضم في داخلها، أبناء القوات المسلحة، ولا تضع نفسها مقابلاً موضوعياً لهم.
على السودانيين اليوم أن يركّزوا على تراث تلك الفترة من الاعترافات والمكاشفات والأخطاء؛ فجريمة انقلاب الجبهة في 1989، يمكن البدء بإدانتها سياسيا وأخلاقياً، لتحقيق التعافي من أثرها الذي تركته في الجسد السياسي السوداني، والاستغلال للجيش أيضاً.
في هذا الظرف الدقيق من تاريخ السودان، في مرحلة الانتقال، الذي يمكن أن يصبح دائماً أو لا يصبح، يمكن الحديث عن جملة ضروريات مستعجلة؛ مثل: تعزيز منسوبي المنظومة الأمنية بدورات عاجلة في حقوق الإنسان، وثقافة القانون، والمناداة بوقف الإقصاء، وتوسيع ميثاق إعلان الحرية والتغيير، أو تغييره، ليشمل أكبر قطاع ممكن من الشعب. وربما إتاحة الفرصة، لمتقاعدي القوات المسلحة، للعمل في اللجان التفاوضية، وتشكيل أحزابهم.
لم يعد السودان معزولاً عن محيطه العالمي، واليوم ينتظر الناس من النخبة في الخرطوم، ما هو أكثر من التنظير حول تحدّيات الانتقال، بل يريدون معرفة تصوراتهم لاحتياجات المجتمع الدولي، في مكافحة الإرهاب، والتعامل مع المهاجرين، واستيعاب المتغيّرات الإقليمية.
لا مناص من العمل المشترك، وإجراء مصالحة معقّدة؛ بين السودان القديم وطموحات تحديثه المشروعة. وإن أكبر خطأ يقع فيه الجميع؛ هو السماح للمسألة السودانية أن تقع في ثنائيّة التخيير بين الاستقرار والفوضى.
تحدّيات كثيرة تطل برأسها، وحقائق تزعزعها الدماء البريئة، والتبريرات المتأخرة، والمزايدات التي يطلقها الجميع.
ولكن هذا، لا يغير من حقيقة واحدة؛ أنّ السودان يحتاج إلى التواضع، وفهم الواقع، والقبول بالمساومات، والتخلّص من الوثوقية المبالغ فيها، على أمل أن يحصل الشباب الشجعان على حلمهم في سودان أفضل!
 

font change