معتقلو البيئة في إيران

تجاوزات دائمة وانتهاكات مستمرة

معتقلو البيئة في إيران

* الخارجية الأميركية: سبب اعتقال طهران للنشطاء البيئيين هو تصديهم للأنشطة النووية والتخريبية للنظام بحق المناطق البيئية النادرة
* إقدام الحرس الثوري على بناء السدود بشكل لا يتناسب مع الظروف البيئية، وكذلك تشييده قواعد ومنصات للصواريخ في المحميات الطبيعية والبرية، يُعد أبرز ما يسعى نشطاء البيئة في إيران للوقوف ضده
* السجل الحقوقي الإيراني يضيف مزيداً من الحبر الأسود الذي يملأ صفحاته، فبعد اعتقال المعارضين والحقوقيين، يأتي اليوم اعتقال نشطاء يعملون على حماية البيئة

باكو: في خطوة جديدة تؤكد على السجل الأسود لإيران في مجال حقوق الإنسان، جاء التقرير الذي نشرته مجلة «دير شبيغل» الألمانية، في النصف الثاني من أغسطس (آب) الجاري، وكشفت فيه عن أن الذي يقف خلف محاولة إيران إعدام عدد من نشطاء البيئة المعتقلين منذ فبراير (شباط) 2018، هو اكتشافهم لوجود مركز سري للصواريخ بعيدة المدى والمتطورة تابع للحرس الثوري الإيراني في محمية «خارتوران» الوطنية الطبيعية، الواقعة شرقي محافظة سمنان في شمال شرقي إيران، حيث أورد التقرير أنه: «وفقًا لصور الأقمار الصناعية، يعمل الحرس الثوري الإيراني منذ سنوات كثيرة على تطوير صواريخ بعيدة المدى، في منشآت بناها داخل هذه المحمية الطبيعية، بهدف إبعاد أنظار أجهزة التجسس الغربية عنها». 
ما سبق يفتح الباب مجدداً للحديث عن معتقلي البيئة في طهران بعد مرور ما يزيد على العام ونصف العام، منذ اعتقال ثمانية من نشطاء البيئة الإيرانيين، وهم: «هومان جوكار، ومراد طاهباز، وسبيدة كاشاني، ونيلوفر بياني، وأمير حسين خالقي، وسام رجبي، وعبد الرضا كوهبابه»، وهم أعضاء في منظمة بيئية محلية غير حكومية تسمى «إرث الحياة البرية الفارسية»، بل وفي بعض التقديرات وصل عدد المعتقلين إلى 12 معتقلا. ويذكر أن السيدتين المعتقلتين من بين هؤلاء المعتقلين قد دخلتا في إضراب عن تناول الطعام بسبب التعذيب والظروف القاسية للسجن. 
كما يذكر أيضاً أن «كاووس سيد إمامي» وهو أستاذ جامعي معروف في مجال البيئة، ويرأس المنظمة البيئية التي ينتمي إليها هؤلاء المعتقلون قد توفي في الحجز في ظروف غامضة، وبعد أسابيع من اعتقاله، حيث زعمت الرواية الرسمية انتحاره، غير أن عائلته ومحاميه أكدوا العثور على آثار أولية بجسده ترجح تعرضه للتعذيب، ولم يجرِ تحقيق محايد في وفاته.



وقد وجه المدعي العام الإيراني «عباس جعفري دولت آبادي» إلى المعتقلين تهمة «التجسس لجهات معادية من خلال استخدام المشاريع البيئية كغطاء لجمع معلومات استراتيجية سرية»، وبناء على هذا الادعاء وجهت ما يُسمى «محكمة الثورة الإسلامية»، تهمة «الإفساد في الأرض» ضد أربعة منهم، وهي التهمة التي تترتب عليها عقوبة الإعدام، كما وجهت تهمتي «التجسس» و«التآمر على الأمن القومي»، للأربعة الآخرين، وهي التهم التي يترتب عليها الحكم بالسجن مددًا طويلة.
والحقيقة أن «دير شبيغل» في تقريرها قد كشفت عن أن هؤلاء المعتقلين كانوا ممن يعملون على كيفية المحافظة على المحمية والحياة البرية بها بالتنسيق مع منظمة حماية البيئة الإيرانية الحكومية، وأن هذه التهم لا أساس لها من الصحة، وهو ما يتفق مع ما ذكره تقرير صدر عن وزارة الخارجية الأميركية نُشر في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) 2018، جاء فيه أن «سبب اعتقال طهران للنشطاء البيئيين هو تصديهم للأنشطة النووية والتخريبية للنظام بحق المناطق البيئية النادرة... وأن إقدام الحرس الثوري على بناء السدود بشكل لا يتناسب مع الظروف البيئية، وكذلك تشييده قواعد ومنصات للصواريخ في الأراضي والمناطق البيئية الخاصة كالمحميات الطبيعية والبرية، يُعد أبرز ما يسعى نشطاء البيئة في إيران للوقوف ضده»، ويؤكد على صحة هذا الرأي سواء المنشور في «دير شبيغل» أو الوارد في تقرير الخارجية الأميركية ما أعلنه رئيس كتلة البيئة في مجلس النواب الإيراني «محمد رضا تابش» بضرورة الإفراج عن هؤلاء النشطاء لأنه لا توجد تهم بحقهم»، وهو ما طالب به أيضا النائب الإصلاحي «محمود صادقي» على حسابه في «تويتر» بأن المجلس الأعلى للأمن القومي لم يعترف بنشاطات المشتبهين البيئيين كحالات تجسس، وأيده في ذلك مساعد رئيس الجمهورية ورئيس منظمة حماية البيئة الإيرانية «عيسى كلانتري» عقب اعتقالهم مباشرة وتحديدا في مايو (أيار) 2018، حينما قال إن: «وزير الاستخبارات أعلن أن هؤلاء النشطاء ليسوا جواسيس، وأن الوزارة هي السلطة الرسمية الوحيدة المخولة بالبت في تهم التجسس»، مشيرا إلى أن «الحكومة الإيرانية شكلت لجنة تتكون من وزراء الاستخبارات والداخلية والعدل ونائب الرئيس للشؤون القانونية، فخلصت إلى عدم وجود أدلة توحي بأن المحتجزين جواسيس، وأن اللجنة أوصت بالإفراج عن النشطاء البيئيين».
وغني عن القول إن ما أقدمت عليه طهران في هذا الخصوص لم يكن أمراً مستغرباً، وإنما هو نهج إيران المستمر في مجال مخالفتها لكافة اتفاقاتها والتزاماتها الدولية، إذ يذكر أن إقدام طهران عبر الحرس الثوري والذي يُعد منظمة إرهابية من وجهة النظر الأميركية، على تطوير قدراتها الصاروخية في مناطق بعيدة عن النظر، يعكس السياسة الإيرانية المراوغة في إدارة ملفاتها الخارجية. فكما يعلم الجميع أن الأمم المتحدة اعتمدت سلسلة إرشادات بخصوص التكنولوجيا الصاروخية الحساسة، التي وضعتها مجموعة من 34 بلدًا معروفة باسم «نظام تقييد التكنولوجيا الصاروخية» بغية فرض قيود لتصدير أي معدات تُستخدم للأسلحة النووية أو أيا من أسلحة الدمار الشامل، وأنه طبقا لهذا النظام فإن أي صاروخ باليستي يصل مداه إلى أكثر من 300 كيلومتر، وحمولة أكثر من 500 كيلوغرام، هو صاروخ قادر على حمل رأس نووي. ومن ثم، فإن برنامجها الصاروخي المتسارع يخالف الاتفاق الذي تم إبرامه عام 2015 مع ست دول عالمية كبرى والذي انسحبت منه واشنطن عام 2018، وهو ما يشكل– كما يرى الخبراء العسكريون- تهديدًا مباشرًا للأمن والاستقرار في المنطقة خاصة في ظل سياستها التدخلية في شؤون دولها.


 
المنظمات الحقوقية الدولية... المعتقلون البيئيون ضحايا انتهاكات جسيمة:
تزامناً مع تقرير مجلة «دير شبيغل» الألمانية، جاء التقرير المنشور على الموقع الإلكتروني لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» (وهي منظمة حقوقية دولية مقرها نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية) والذي طالبت فيه السلطات الإيرانية بالإفراج الفوري عن النشطاء الثمانية البيئيين المحتجزين في طهران منذ أكثر من 18 شهراً؛ وذلك في ظل عدم تقديم السلطات لأدلة تثبت الجرائم المزعومة ضدهم، وفي خضم الانتهاكات الجسيمة التي ترتكب بحقهم لا سيما بعد أن دخل بعضهم في إضراب عن الطعام احتجاجاً على استمرار احتجازهم وعدم تقديم السلطات العلاج الطبي اللازم، وهو ما أشار إليه «مايكل بيج» نائب مديرة قسم الشرق الأوسط في المنظمة، وذلك بقوله: «يقبع أعضاء مؤسسة إرث الحياة البرية الفارسية خلف القضبان منذ أكثر من 550 يوماً، بينما تقاعست السلطات الإيرانية بشكل صارخ عن تقديم أي دليل على جرائمهم المزعومة... ولذا، يتعين على السلطات اتخاذ الخطوة التي تأخرت كثيرا، بإطلاق سراح هؤلاء المدافعين عن الحياة البرية المعرضة للخطر في إيران، وإنهاء الظلم بحقهم»، وهو ما أكدت عليه الناشطة البيئية المعتقلة «نيلوفر بياني» في دفاعها أمام القاضي بقولها: «عذبوني وهددوني لانتزاع اعترافات بالإكراه.. وأن هذه الاعترافات تمت تحت وطأة التعذيب الجسدي والنفسي والضغوط النفسية الشديدة، وأنني تراجعت عن هذه الاعترافات بعد الجولة الأولى من التحقيقات»، ويتفق مع كل هذا ما جاء في تقرير لجنة حقوق الإنسان في إيران (مقرها نيويورك) والمنشور في يناير (كانون الثاني) 2019 متضمنا معلومات موثقة عما يقوم به المحققون الإيرانيون من تعمد تهديد النشطاء المعتقلين بالموت لانتزاع اعترافات قسرية منهم، خاصة أن القضاء الإيراني يرفض منحهم حرية اختيار محامين للدفاع عنهم، وإنما يلزمهم بالاختيار من قائمة تتضمن أسماء محامين محددين بعينهم، بدعوى أنهم متهمون في قضايا أمنية وسياسية، وذلك تطبيقا لنص المادة 48 من قانون الإجراءات الجنائية الإيراني الصادر عام 2014. والتي تنص على أن «على المعتقلين المتهمين بجرائم مختلفة، مثل جرائم الأمن القومي والدولي والجرائم السياسية والإعلامية، اختيار محاميهم من مجموعة محامين معتمدة من القضاء أثناء التحقيق».
ومن نافلة القول، إن المطالب الحقوقية لهؤلاء النشطاء لم تقتصر على المنظمات الدولية فحسب، وإنما طالب بها مساعد الرئيس الإيراني رئيس منظمة حماية البيئة «عيسى كلانتري» حينما طلب الكشف عن مصير هؤلاء النشطاء، إذ نقلت عنه وكالة الأنباء الرسمية «إرنا» قوله: «نحن لا نطالب بالإفراج عنهم أو بإعدامهم، نحن نطالب فقط بكشف مصيرهم. هذا جزء من حقوقهم كمواطنين»، ليؤكد هذا القول على مدى ما وصل إليه سجل حقوق الإنسان الإيراني من أوضاع مزرية دفعت بمساعد رئيس الجمهورية للمطالبة بتوفير الحد الأدنى من هذه الحقوق وهي معرفة المواطن لمصيره حال تعرضه للسجن أو الاعتقال، الأمر الذي دفع الكثير من النشطاء عبر منصات التواصل الاجتماعي لإطلاق هاشتاغات تحت عنوان «ناشطو البيئة» و«الأمل من أجل الطبيعة» بتنظيم حملة دولية تطالب بالضغط على طهران لإطلاق سراح هؤلاء الناشطين.
نهاية القول، إن السجل الحقوقي الإيراني يضيف مزيدا من الحبر الأسود الذي يملأ صفحاته، إذ ما بين الاعتقال للمعارضين السياسيين والنشطاء الحقوقيين، يأتي اليوم اعتقال نشطاء بيئيين يؤدون عملهم في حماية البيئة الإيرانية ضد التهديدات التي يرتكبها نظام الملالي الذي يستبيح كل القوانين والأعراف في سبيل بسط الهيمنة والسيطرة والتمدد وفقا لرؤية تحمل التهديد للجميع. وإذا كان صحيحا أن هذه الرؤية التوسعية للنظام الإيراني ضد كافة المعارضين أو النشطاء تمنحه قوة وهيمنة وهمية، فإنه من الصحيح أيضا أن هذا النظام سيفيق يوما ليس بالبعيد على كارثة محققة لا محالة، فلم يعد في العالم من يتحمل مثل هذه التجاوزات والانتهاكات.

font change