«مجموعة البجع» في تركيا

تفاقم الصراعات الداخلية في حزب العدالة والتنمية

«مجموعة البجع» في تركيا

* السمة الرئيسية للأحزاب السياسية التركية أنها تأتي من رحم أحزاب سابقة عليها. فقد خرج العدالة والتنمية من رحم حزب الفضيلة، بعد انشقاق إردوغان عن حزب نجم الدين أربكان
* تفاقمت الخلافات بين الرئيس التركي ورفقاء دربه، وفي مقدمتهم عبد الله غول، عقب سنوات من ابتعاد الأخير عن الحزب والحديث المتزايد عن خلافات عميقة بين الحليفين السابقين
* أحد محركات الصراعات السياسية والتوترات الحزبية التي باتت تعج بها ساحة حزب العدالة والتنمية الداخلية ترتبط بتصاعد أدوار مجموعة من الشخصيات، يطلق عليهم
«مجموعة البجع»، هي التي عملت على تصفية أي مراكز قوى للقيادات المؤسسة لحزب العدالة والتنمية
* إردوغان أصبح يعرف بأنّه «رجل تركيا المريض»، في إشارة إلى توصيف السلطنة العثمانية في آخر عهدها، حين كانت توصف بـ«الرجل المريض»، الذي تقاسم الحلفاء إرثها ومناطق سيطرتها ونفوذها
أنقرة: تتعدد جبهات الصراعات وتتفاقم حدة التوترات المركبة داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم، والذي استطاع على مدى سنوات خالية أن يهيمن على المشهد السياسي التركي. بيد أن هذا المشهد بات يعاني من اضطرابات مغايرة، لم يسمح من قبل بظهورها للعلن بفعل تنامي حضور الرئيس رجب طيب إردوغان في مراحل سمحت له بفرض حالة «الصمت الإجباري» على كل معارضيه داخل الحزب وخارج أسواره.
بيد أن المشهد يتغير على نحو سريع، بما جعل الذكرى الـ18 لتأسيس حزب تركيا الحاكم (14 أغسطس/ آب 2001) تأتي عليه بعدما غدا ليس ذا صلة بـ«العدالة والتنمية» القديم. فثمة حزب تركي جديد يعاني من آفة طالما ضربت مختلف الأحزاب السياسية التركية بفعل تنامي الانقسامات الداخلية إما لاعتبارات مصلحية وشخصية أو بسبب تباين الرؤي السياسية.
أنهت هذه الحالة الدرامية مرحلة «العصر الذهبي» للحزب، وطفت وهج رجاله بحسبانهم كانوا «شيوخ» الحياة السياسية التركية، وذلك بعد أن تزايدت الأصوات المعارضة في الداخل والخارج، وتنامت حدة الانشقاقات التي باتت تهدد بقاء منظومة الحزب التركي، الذي استطاع الرئيس رجب طيب إردوغان تسييره، بما يضمن بقاءه واستقرار حكمه.
جاء ذلك بفعل تزايد حركة الانشقاقات داخل صفوف الحزب وعلى مستويات مختلفة، عبر عن أحد مستوياتها إعلان كل من وزير الاقتصاد الأسبق، على باباجان، ورئيس الوزراء الأسبق، أحمد داود أوغلو، الاستقالة من حزب العدالة والتنمية والتوجه لتأسيس تجربة حزبية بديلة، جاء ذلك بالتزامن مع توجيه انتقادات لاذعة لأوضاع البلاد السياسية وتطوراتها الاقتصادية ونمط الحكم الذي حاول الرئيس ترسيخه، ووظف الحزب من أجله بأدوات مختلفة، منها تهميش أدوار شركائه لتأسيس حكم فردي ذي صبغة عائلية.

 
«العدالة والتنمية»... الدوافع الرئيسية للانشقاقات الحزبية
الوضع الدراماتيكي الذي بات يجابهه حزب تركيا الحاكم يرتبط بأن خروج «شيوخ الحزب» منه لا يجسد محض مواقفهم الشخصية، وإنما يتعلق بكون أن هذا الخروج يمثل تعبيرا عن رؤى وإرادة تيارات تقف وراء القرارات التي اتخذها هؤلاء حينما أقدموا على إعلان الاستقالة من «العدالة والتنمية» والانشقاق عنه سعيا إلى تأسيس أحزاب جديدة، وذلك في ظاهرة تتنوع أسبابها وتتعدد محركاتها، ويأتي في مقدمتها السعى إلى استنساخ تجارب حزبية سابقة، هروبا من مركب الأحزاب السياسية القائمة بمجرد أن يكتنف الغموض مصيرها وتهدد الانقسامات أرجاءها.
وتُعد السمة الرئيسية للأحزاب السياسية التركية أنها تأتي من رحم أحزاب سابقة عليها. فقد خرج العدالة والتنمية من رحم حزب الفضيلة، وذلك بعد انشقاق إردوغان ورفاقه عن حزب الراحل نجم الدين أربكان. ويبدو أن الرئيس التركي السابق، عبد الله غول، وعلي باباجان أرادا إظهار ذات السلوك الذي انتهجه إردوغان حينما أدار ظهره لمعلمه أربكان، هذا على الرغم من أن إردوغان لم يتصرف بنفس درجة نضج أربكان، إذ إنه اتهم «خصومه الجدد» بالخيانة، وقال: «إنهم سوف يسقطون مثل الأكياس الفارغة».
تتعدد الإشكاليات التي تجابه العدالة والتنمية الحاكم وتتفاقم أزمته تأسيسا على أن الخلافات والصراعات التي باتت سمت تفاعلاته الداخلية ترتبط بالقيادات التي اضطلعت بأدوار أساسية في المشهد السياسي طيلة السنوات الماضية، وبدا أن رؤيتها تتناقض مع الرئيس التركي لسببين رئيسيين، أحدهما يرتبط بتهميش رجب طيب إردوغان لأدوارها وإبعادها القسري عن المشهد السياسي، وفرض عليها ما يمكن أن يطلق عليه حالة «الصمت الإجباري»، والآخر، يتعلق باستفراد الرئيس وتوجيهه للدولة عبر تأسيس نظام مركزي ديكتاتوري.
ترتب على ذلك أن تفاقمت الخلافات بين الرئيس التركي ورفقاء دربه، وفي مقدمتهم عبد الله غول، عقب سنوات من ابتعاد الأخير عن الحزب والحديث المتزايد عن خلافات عميقة بين الحليفين السابقين. هذه الخلافات، التي حاول الطرفان إبقاءها طي الكتمان وعدم إخراجها إلى العلن للحفاظ على تماسك الحزب الحاكم، ظهرت آنذاك بشكل قطعي عقب توجيه غول انتقادات مباشرة لقانون أثار جدلاً واسعًا في البلاد، وهو ما قابله إردوغان بانتقادات لاذعة وغير مسبوقة للرئيس السابق.
جاء موقف غول في يناير (كانون الثاني) 2017 بعد أن صدرت حزمة قوانين جديدة، من بينها قانون ينص على إعطاء حماية قانونية شاملة لمدنيين شاركوا في إفشال محاولة الانقلاب، وذلك في محاولة من الرئيس التركي لضمان عدم محاكمة أنصاره بتهمة القيام بأعمال عنف ضد قوات الجيش والأمن التي شاركت في محاولة الانقلاب.
وقد تجلت أوجه الصراع بين إردوغان وغول على نحو واضح قبيل الاستفتاء الذي جرى في أبريل (نيسان) 2017 بشأن التعديلات الدستورية، التي تحول بموجبها نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي، حيث لم يشارك غول في أي فعاليات أقيمت آنذاك لتأييد التعديل الدستوري، وقيل إنه صوت بـ«لا» خلافًا لتوجه الحزب وزعيمه إردوغان، لقناعته بضرورة بقاء النظام البرلماني، وهو ما أثار غضب الأخير.
هذه الأسباب ربما هي ذاتها التي أفضت إلى تصاعد التوتر بين كل من إردوغان وداود أوغلو، والذي بدا أكثر جرأة خلال الشهور الأخيرة بشأن انتقاد النظام التركي وسياسات محركه، سيما بعد قرار إعادة الانتخابات في مدينة إسطنبول، ومن قبلها تدشين تحالف انتخابي بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، رأى فيه داود أوغلو أنه ينجرف بحزب العدالة بعيدا عن قيم مؤسسيه وتوجهاتهم السياسية. عبر عن ذلك في خطاب طويل نشره في أواخر أبريل الماضي عبر صفحته على «فيسبوك».
على جانب ثانٍ، ارتبطت محركات الانشقاقات السياسية التي يعاني منها العدالة والتنمية بطبيعة المواقف الشعبية الطارئة حيال الحزب وقادته. انعكس ذلك على مستويين. الأول تعلق، بطبيعة نتائج استطلاعات الرأي التي تشير إلى أن شعبية حزب العدالة والتنمية باتت في تراجع مستمر.
وفي هذا السياق، أشار بيكير أغديردير، رئيس مؤسسة الأبحاث «كوندا»، إلى أن الناخبين الذين يدعمون حزب العدالة والتنمية تقلصوا من نحو 38 في المائة إلى نحو 27 في المائة منذ الانتخابات المحلية الماضية. فيما وجدت مؤسسة استطلاع رأي أخرى، في يوليو (تموز) 2019 أن ثلث الناخبين من حزب العدالة والتنمية يعتقدون أن تركيا بحاجة إلى حزب وسطي جديد.
المستوى الثاني، تعلق بتنامي ظاهرة الاستقالة من حزب العدالة بين صفوف القاعدة الشعبية التي طالما أيدته وناصرته في مواجهة خصومه، وذلك بعد استقالة أكثر من مليون من أعضاء حزب العدالة والتنمية منذ عام 2018. وهو مؤشر يكشف عن تزايد حالة السخط وعدم الرضا التي تجتاح صفوف قواعد الحزب الشعبية. وقد أشارت بعض التقديرات إلى أن الآلاف من هؤلاء يعتزمون الانضمام للحزب الذي ينوي أحمد داود أوغلو إنشاءه، بالإضافة إلى الحزب الذي يحضّر وزير الاقتصاد السابق علي باباجان لإطلاقه بالتحالف مع عبد الله غول، وذلك على نحو ينذر بانهيار كامل لحزب إردوغان.
يوضح ذلك أن الانصراف الشعبي عن العدالة والتنمية يرتبط بتنامي الرهان متعدد المستويات على الأحزاب السياسية الجديدة، سيما بعد حالة الحراك السياسي التي أثمرتها نتائج الانتخابات البلدية، وبفعل طبيعة الحراك الجيلي الناتج عن بروز أدوار لقيادات سياسية شابة خارج أسوار العدالة والتنمية مثل أكرم إمام أوغلو عمدة مدينة إسطنبول. وربما يفاقم مأزق العدالة والتنمية في هذا الإطار أن هذه الحالة من المرجح أن تفضي إلى إحداث انقسام داخل صفوف الكتلة المحافظة، بما يُنتج مشهدا يهدد بخسارة الحزب للدعم الذي طالما أمنته له دوائر الإسلاميين في تركيا، والأكثر من ذلك العلمانيون، سيما بعدما سار إردوغان بالحزب نحو الديكتاتورية، وكرس تفرده بزعامته وأقصى من كان يخشى أن يشكل منافسا محتملا له داخل الحزب أو خارجه.
وثمة تقارير تكشف عن أن أعضاء «فريق النخبة» الذين يقودهم داود أوغلو، الذي بات جاهزا للتحرك وإعلان حزب جديد بداية من العام المقبل، ويشمل هذا الفريق مجموعة من الأشخاص المخضرمين، من بينهم نعمان كورتولموش، وبشير أتالاي، وحسين جليك، وشامل طيار، وأحمد باشتشي، وسلجوق أوزداغ، ومحمد غورماز الرئيس السابق لإدارة الشؤون الدينية.
وقد أشارت بعض الاتجاهات التركية إلى أن الحزب الثاني الذي يشكله علي باباجان قد يضم أيضا وزير المالية السابق محمد شيمشك. وكذلك بشير أتالاي، بحسبانه كان الاسم الألمع داخل حزب العدالة والتنمية، خاصة أنه من الدائرة المقربة للغاية من رئيس الجمهورية ورئيس حزب العدالة والتنمية رجب إردوغان، وعمل نائبا له (2011 - 2014)، كما عمل قبلها وزيرا للداخلية (2007 - 2011). ومن المرجح أن يضم الحزب أيضا سعد الله أرجين، ونهاد أرجين، ورئيس المحكمة الدستورية السابق هاشم كيليتش.

ويُعد كيليتش أيضا الاسم الأبرز بين المتحمسين للانضمام لحزب باباجان، وهو رئيس المحكمة الدستورية السابق الذي كان له دور في إلغاء قرار حل حزب العدالة والتنمية في 2008، بالإضافة إلى رئيس الجمهورية السابق عبد الله غول الذي يتحرك مع باباجان، وُيرجح أن يكون رئيسًا شرفيًا للحزب، دون أن يلعب دورًا نشطًا وفعالاً فيه.
وكانت جبهة غول - باباجان تنفذ استراتيجية لتحقيق النتائج في وقت قصير. لهذا السبب خططت للإعلان عن الحزب قبل داود أوغلو، سيما أنهم يتبعون سياسة تعمل على التركيز على عنصري الاقتصاد ومعايير الديمقراطية الغربية. أما أحمد داود أوغلو فإنه يخطط لتأسيس حركة سياسية قادرة على البقاء. وقالت اتجاهات أكاديمية مرتبطة بالرجل أنه «ليس مهما بالنسبة له الحصول على 5 أو 10 في المائة في المرحلة الأولى»، وإنما الأهم زرع بذور حركة مثل حركة «الرؤية الوطنية» (حركة أسسها أربكان عام 1969) والنمو في هذا الاتجاه عبر تشعب الجذور. بيد أن حركة سياسية يقودها داود أوغلو من دون باباجان، وكذلك حزب سياسي يرأسه باباجان من دون داود أوغلو يظل بناء غير مكتمل. لذلك فمن المحتمل، حسب تقديرات تركية، أن الرجلين سيجلسان على طاولة واحدة في المستقبل، لتشكيل تكتل واحد قادر على تغيير المشهد الحزبي في تركيا.
يرتبط ذلك بالرغبة التي يبديها عدد من مناصريهم بشأن ضرورة الاستجابة السريعة لنواتج الحالة التي شكلتها الانتخابات البلدية الأخيرة، والتي تُعد أحد محفزات الانشقاقات السياسية التي باتت تضرب حزب العدالة والتنمية، بحسبانها أثبتت صدقية الرؤى التي لا تتفق مع سياسات الرئيس التركي وممارساته داخل الحزب وخارجه، سيما بعدما أفضت إلى الخسارة المدوية في مدن تركيا الكبرى مثل أنقرة وأزمير وإسطنبول.
وقد كانت هذه النتائج الانتخابية فرصة سياسية لداود أوغلو لتأكيد رؤيته عبر تشخيص ثنائية أزمة الاقتصاد والانتخابات في تركيا. فقد وجه داود أوغلو انتقادات شديدة لحزب العدالة والتنمية الحاكم بعد الهزيمة المؤلمة في بلدية إسطنبول التي تعتبر على نطاق واسع نذر شؤم لإردوغان، مؤكدا على أن النتائج تأتي من جراء تراجع مبادئ الحزب الحاكم والتي انعكست عمليا من خلال الانتخابات، ولهذا يقول داود أوغلو أنه ينبغي على الذين تسببوا في «تراجع» مبادئ الحزب أن «يدفعوا الثمن».
ويمضي في تحليله للظاهرة الانتخابية قائلا: «عندما نخسر انتخابات أول مرة بفارق 13 ألف صوت، وفي المرة الثانية بفارق 800 ألف صوت، فإن المسؤول عن ذلك ليس رئيس الوزراء الذي فاز بفارق كبير في البرلمان (خلال الانتخابات العامة العام الماضي) ولكنهم الذين تسببوا في تراجع كبير للخطاب والإجراءات والقيم والسياسات».
سياسات داود أوغلو ومواقف علي باباجان ترتبط بإدراك خطورة المشهد الاقتصادي في تركيا، سيما أن حزب العدالة والتنمية استند في صعوده السياسي على حضور كتلة محافظة تدعمه، وجماعات مصالح وقوى شعبية تستفيد من الإصلاحات الاقتصادية التي تبناها الحزب في سنوات حكمه الأولى، بيد أن تراجع القوى الداعمة له في الأوساط المحافظة، عززها انصراف الكتل التي دعمت الحزب تأسيسا على سياساته الاقتصادية، تزايد ذلك مع تنامي معدلات البطالة وتفشي مظاهر الفساد ومعاناة الاقتصاد التركي من تراجع معدلات النمو ودخوله مرحلة الركود والانكماش، هذا بالتزامن مع خسارة الليرة التركية نحو 30 في المائة من قيمتها العام الماضي وتراجعها نحو 9 في المائة منذ بداية العام الحالي.
إن الانتقادات اللاذعة في هذا الشأن تنصب على الرئيس إردوغان نفسه وصهره وزير الخزانة براءات البيرق، فهما اللذان يتحملان نتائج القرارات الاقتصادية. ولهذا يقول داود أوغلو: «يجب فصل العلاقات العائلية عن هيكل الدولة تماما». مضيفا أنه: «يجب أن لا تكون هناك قرابة من الدرجة الأولى في التسلسل الهرمي للدولة».
 
سياسات الحزب في مواجهة معارضيه
لم يستطع حزب العدالة والتنمية تجديد قاعدته الشعبية وتوسعة نطاقها وفئاتها، ولم ينجح الحزب كذلك في استقطاب قطاعات عريضة من الشباب، والتي تظهر عليها بوادر الرغبة في التغيير وخوض تجربة حزبية مغايرة.
على جانب آخر، حاول الرئيس التركي استرضاء بعض القوى الرئيسية داخل الحزب الحاكم عبر منحها مناصب هامشية، وقد نتج عن ذلك أن اختار بولنت أرينج عضوًا في المجلس الاستشاري الأعلى للرئاسة، وهو هيئة استشارية تم تشكيلها في الآونة الأخيرة. كما تم اختيار عبد القادر أكسو، وهو اسم آخر من نفس الفريق المؤسس، رئيسًا للمجلس التنفيذي لبنك وقف.
جاء ذلك بعد أن تم إبعاد الرجلين عن المناصب الإدارية في الحكومة والحزب. بيد أن ذلك لم يكن أكثر من خطوة هامشية، إذ إن الرئيس لم يستطع تبني سياسات تسهم في إعادة تماسك الحزب وجمع شمل رموزه، عبر إحداث تحول جذري في السياسات، والعودة إلى ما سماه بعض الأتراك مرحلة «ضبط المصنع». بل إن التوجه السائد اعتمد على تبني استراتيجيات المواجهة لا تكتيكات الاحتواء إلا عبر خطوات محدودة ليس لها فاعلية، هذا بالتزامن مع انتهاج استراتيجيات «التصفية المعنوية» للخصوم، عبر شن حملات إعلامية تستهدف النيل من القيادات التي تختلف في الرؤى مع الرئيس التركي والمجموعات المحيطة به.
وفي مقابلة مع شبكة «يورونيوز» الإخبارية، زعم دوغو برينشيك، رئيس حزب الوطن اليساري، وأحد الموالين لرجب إردوغان، أن القيادات المستقيلة من حزب العدالة والتنمية تُعد «من الركائز الأساسية لحركة الخدمة»، والتي تتهمها أنقرة بتدبير الانقلاب العسكري في يوليو 2016. هذا فيما اتهم كبير مستشاري القصر الرئاسي يغيت بولوت، داود أوغلو وباباجان بأنهما يساعدان حركة فتح الله كولن المتهمة بتدبير الانقلاب.
 
تصاعد أدوار «مجموعة البجع»
أحد محركات الصراعات السياسية والتوترات الحزبية التي باتت تعج بها ساحة حزب العدالة والتنمية الداخلية ترتبط بتصاعد أدوار مجموعة من الشخصيات، يرى البعض أنها باتت المسؤولة عن عملية صنع القرار وتهيمن على المعلومات التي تُرسل للرئيس، وهذه المجموعة يطلق عليها «مجموعة البجع»، وهي التي عملت على تصفية أي مراكز قوى للقيادات المؤسسة لحزب العدالة والتنمية.
هذه المجموعة لديها أماكن تمركز رئيسية، ولها مقر يطل على مضيق البوسفور في إسطنبول، وتشير تقديرات تركية إلى أن هذه المجموعة تستخدم وسائل إعلام تابعة لها لاستهداف «وتصفية» الخصوم داخل العدالة والتنمية وخارجه. وهذه المجموعة تلعب أدوارا مركزية في المشهد التركي، فهي التي صاغت قرار إعادة الانتخابات في بلدية إسطنبول، وهي التي ضيقت الخناق على داود أوغلو لتدفعه للاستقالة من الحزب. وقد أعتقد البعض أن الرئيس التركي وبسبب الهزيمة المذلة التي تعرض لها في جولة الإعادة في الانتخابات البلدية في يونيو (حزيران) 2019. سينأى بنفسه عن هذه المجموعة، غير أن إردوغان على العكس من ذلك قام بزيارة مقر هذه المجموعة خلال انعقاد منتدى مركز غلوبال بوسفور في أغسطس الماضي.
وقد أسهم تصاعد حضور واتساع نفوذ هذه المجموعة في تزايد حدة التوترات بين «أجنحة» حزب العدالة، بسبب تفاقم الصراعات على وراثة إردوغان وقيادة الحزب، ويبرز في هذا السياق، من جهة وزير الخزانة براءات البيرق – صهر الرئيس - ورجال الأعمال المستفيدون منه، ومن جهة ثانية وزير الداخلية سليمان صويلو ومناصروه، بالإضافة إلى بلال إردوغان – ابن الرئيس - الذي كانت تقارير إعلامية ربطته بملفات فساد خطيرة. وهذه التكتلات الثلاثة تفتقر إلى الثقة بعضها ببعض، ويسود بينها جو من التنافس الخفيّ، سيما أن إردوغان أصبح يعرف بأنّه «رجل تركيا المريض»، في إشارة إلى توصيف السلطنة العثمانية في آخر عهدها، حين كانت توصف بـ«الرجل المريض»، الذي تقاسم الحلفاء إرثها ومناطق سيطرتها ونفوذها.
ينتج ذلك مشهدا غير مألوف وغامضا يحيط بمستقبل حزب العدالة والتنمية، وهو في الوقت نفسه يُسهم في تصاعد أدوار أحزاب المعارضة. فقد عزز استطلاع رأي أجرته مؤسسة «أفروآسيا» في سبتمبر (أيلول) الماضي آمال المعارضة بعد أن كشف أن حزب الشعب الجمهوري المعارض بات يقف في صدارة المرشحين للوصول للحكم. وبينما قد يرسخ ذلك مرحلة التحالفات الحزبية في تركيا، فإنه قد يفضي إلى ظهور المزيد من الأحزاب الجديدة والتي قد تضع حدا لحكم هيمن عليه حزب واحد ورئيس جمع كل أشكال السلطة في قبضته.
 
font change