صراع الجغرافيا

حرب تركيا «الثالثة» في الميدان السوري

صراع الجغرافيا

* عملت تركيا على مواجهة الأكراد عبر تعزيز حضور «وكلائها المحليين» على الساحة السورية من خلال إعادة تدريب وتنظيم صفوف الجيش السوري الحر
* يُعد التخلي الأميركي عن الأكراد، مؤشراً لما يحدث في أروقة واشنطن، من تغيرات، وما يدور في البيت الأبيض من مراجعة للحسابات السياسية، على بُعد سنة تقريبًا من الانتخابات الرئاسية
* الموقف الروسي أكثر اتزاناً، ذلك أنه لم يرفض العدوان التركي، وإنما سعى إلى توظيفه لخدمة العوامل اللازمة لإبعاد أنقرة سياسياً عن واشنطن
* حكومة روسيا والنظام السوري أكبر المستفيدين من العملية التركية؛ إذ إن العملية التركية قلصت من ناحية النفوذ الكردي وأضعفت من ناحية أخرى موقف الأكراد فيما يخص التفاوض على إقليم ذي حكم ذاتي
* الموقف الأوروبي بدا أكثر تشدداً، وأكثر رغبة في التصعيد حيال العدوان التركي على الأراضي السورية
* ثمة «قلق حقيقي» من مشكلة هجرة جديدة قد تكون أكبر من الموجة السابقة وتتسبب فيها سياسة الرئيس التركي ردًا على الإجراءات الأوروبية التي يصفها بأنها «معادية»
* اتخذت أغلب البلدان العربية مواقف تصعيدية حيال العدوان التركي على الأراضي السورية
* الأمم المتحدة: نحو 700ألف شخص على الأقل من أصل 1.7مليون مواطن في شمال سوريا بحاجة إلى مساعدات إنسانية
* يتوزع 12ألف شخص من عائلات التنظيم المتطرف على ثلاث مخيمات تسيطر عليها القوات الكردية، هي مخيمات عين عيسى(شمال)، وروج، والهول (شمال شرق).ويقبع غالبية هؤلاء في مخيم الهول
* إذا ما تصاعدت تكلفة التدخل التركي، ثمة احتمالات بأن يدفع ذلك ربما الجانب الروسي إلى تقديم مقترحات بشأن العمل على إعادة صوغ اتفاق «أضنة» بين دمشق وأنقرة

أنقرة: لم تنتف الذرائع ولم يكتف الساسة الأتراك بعمليتين عسكريتين على مسرح العمليات السوري، إذ أعلنت أنقرة عن تدخل عسكري جاء هذه المرة في شمال شرقي سوريا، التي لم تشكل تهديدا لتركيا وأراضيها، وشهدت مؤخرا تنسيقا مع واشنطن لتيسير دوريات مشتركة لضبط أمن الحدود. بيد أن أنقرة لم يكفها توافقات جزئية أو سلام ضمني مع جميع الأطراف يضمن أمن حدودها ويحد من قدرة «قوات سوريا الديمقراطية» ذات الأغلبية الكردية، على تهديد الوجود التركي سواء القائم داخل الجغرافيا السورية أو القابع خلف الحدود السورية.
أطلقت تركيا عملياتها العسكرية «نبع السلام» والتي حمّلت برسائل التصعيد والعنف من أجل تأسيس ما يعرف بـ«المنطقة الآمنة» على طول حدودها الجنوبية مع سوريا، لتستكمل عبر «عدوانها الثالث» ما بدأته خلال عمليتي «غصن الزيتون» و«درع الفرات». وعلى الرغم من أن واشنطن اقترحت تفاهمات ثنائية مع أنقرة تضمن تأسيس المنطقة الآمنة بعمق 14كلم وعرض 70 - 80كلم بين مدينتي تل أبيض ورأس العين. غير أن تركيا توجهت للتصعيد العسكري حيال المدينتين بعد ساعات من تفكيك واشنطن قاعدتين لها فيهما، ليبدأ القصف الجوي والمدفعي ويتمدد تدريجيا إلى عمق 30كلم ليصل إلى حدود كوباني والقامشلي.


 
محركات العدوان التركي وأهدافه
* تعزيز شرعية النظام التركي
جاءت العملية العسكرية التركية في وقت يعاني فيه حزب العدالة والتنمية الحاكم من تحديات داخلية غير مسبوقة، كما يجابه فيه إشكاليات خارجية مركبة، يرتبط بعضها بتداعيات ضعف الأداء الاقتصادي وتأثيراتها على قاعدته الشعبية، بالتزامن مع تصاعد حضور المعارضة السياسية شعبيا بفعل تنامي مظاهر الضعف التي بات يعاني منها الحزب على أكثر من مستوى، وذلك على النحو الذي دفع بتوالي إعلان قيادات الحزب من «الحرس القديم» عن التوجه لتأسيس أحزاب جديدة.
هذه التحولات الدراماتيكية باتت تأتي على خلفية مشهد سياسي معقد ومضطرب، يسوده هيمنة التيار القومي على الأوضاع السائدة داخل الحزب الحاكم وخارجه، وهو ما يُعد أحد محركات التحولات التي تشهدها سياسات تركيا الخارجية ونزوعها الدائم، خلال السنوات الأخيرة، نحو التصعيد وانتهاج الأدوات القهرية حيال تعاطيها مع دول الجوار الجغرافي.
وتستخدم القيادة التركية الأعمال العسكرية في الشمال السوري كأداة لتعزيز التوجه الشعبي نحو إحياء «الإمبراطورية العثمانية»، وإثارة المزاعم التي تتعلق بحقوق تركيا التاريخية في دول الجوار. وتعتبر أنقرة أن من شأن هذه العملية أن تفضي إلى القدرة على تأسيس «منطقة آمنة» تمتد على طول 480كلم يسيطر عليها حلفاء تركيا من الجيش السوري الحر، وينقل إليها اللاجئون السوريون، الذين أصبحوا، في الآونة الأخيرة، مصدرا للتململ الشعبي الذي باتت تطول تداعياته الحضور الجماهيري للحزب الحاكم، وذلك على النحو الذي عكسته نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة. يرتبط ذلك على جانب آخر، بطبيعة الصراع في مناطق شرق الفرات التي تضم نحو 90  في المائة من النفط السوري (كان 380ألف برميل قبل2011) ونحو نصف الغاز السوري. وتصدر قوات سوريا الديمقراطية نحو 50 – 60 ألف برميل يوميا إلى كردستان العراق، و25ألفًا إلى مناطق الحكومة السورية.
 
*إحياء داعش وإقصاء الأكراد
تنطلق المقاربة التركية حيال العمليات العسكرية بحسبانها تأتي لإنهاء تهديد أمني يجابه الدولة التركية، بيد أنها تُعبر في واقعها عن قلق تركي من مستقبل الإدارة الكردية الذاتية في سوريا، سيما بعد أن تحول تصور الأكراد لمناطق سيطرتهم خلال السنوات الأخيرة، من الحديث عن «روج افا» (غربي كردستان) إلى «فيدرالية الشمال» وصولاً إلى «الإدارة الذاتية ضمن وحدة سوريا»، وذلك في تطور اعتبرته أنقرة يمثل خطرا على أمن تركيا القومي.
وعملت تركيا على مواجهة ذلك عبر تعزيز حضور «وكلائها المحليين» على الساحة السورية من خلال إعادة تدريب وتنظيم صفوف الجيش السوري الحر، هذا بالتوازي مع العمل على إعادة إحياء المواجهة الكردية مع تنظيم داعش والجماعات الإرهابية في سوريا، والتي وفرت لها أنقرة في السابق ممرات آمنة للقدوم إلى سوريا، ووظفت صراعاتها المسلحة لخدمة حسابات تركيا الخاصة. وثمة تقديرات تشير إلى أن أنماط القصف التركي على بعض المناطق السورية واستهداف الكثير من المعتقلات المخصصة لعناصر الجماعات الإرهابية، يكشف عن محاولات ممنهجة لتحرير عناصر داعش، لكي يعيد التنظيم ترتيب صفوفه، استعدادا لإعادة إشعال المواجهة مع الأكراد، بما يضمن لتركيا استنزاف قوات سوريا الديمقراطية، على جبهتين معا، إحداهما مع ميليشيا الجيش السوري الحر والقوات التركية المساندة له، والأخرى مع عناصر التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها تنظيم داعش.
وتعتبر الفوضى الأمنية التي ترتبت على عمليات تركيا العسكرية في شمال سوريا بمثابة فرصة أخرى لإعادة نشاط 18ألف مقاتل «داعشي» مختبئين في مختلف المناطق السورية. ويبدو أن إعادة توظيف السلطات التركية للدواعش قد لا ينحصر بالساحة السورية، وإنما قد يمتد إلى ساحات الجوار الأخرى. وكان الرئيس التركي قد لوح من قبل بإمكانية انتقال عناصر داعش من سوريا إلى شبه جزيرة سيناء. هذا في حين أعرب الجيش الوطني الليبي، عن مخاوفه من إقدام تركيا على نقل آلاف الإرهابيين إلى ليبيا، وذلك في إطار تدخلها الأخير في الأراضي السورية.
وقال اللواء أحمد المسماري، الناطق باسم الجيش، إن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قد يعمل على إرسال الإرهابيين الموجودين في سوريا إلى ليبيا، عبر موانئ ومطارات طرابلس ومصراتة وزوارة، الخاضعة لسيطرة حكومة السراج، لافتا إلى أن «الخلايا النائمة لتنظيم داعش الإرهابي هي حاليا في يد الأتراك، الذين يسعون لنقلهم إلى مأوى آمن، وربما تكون ليبيا هي وجهتهم، بسبب الفراغ الأمني، خاصة في هذه المناطق». معتبرا أن الغزو التركي سيؤدي إلى هروب عناصر داعش من السجون، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية.


 
*«حرب الديموغرافيا» مع الأكراد
سعت تركيا إلى توظيف اللاجئين السوريين في إطار الصراعات الداخلية عبر محاولة تبدبل ديموغرافية جنوب شرقي البلاد من خلال توطين اللاجئين في هذه المناطق، غير أن هذه المخططات لم تنجح إثر توجه قطاعات واسعة منهم إلى العمل والإقامة في مراكز المدن التركية الرئيسية. استدعى ذلك العمل على خطة بديلة تقوم على إعادة توطين اللاجئين السوريين في مناطق تمركز الأكراد في الشمال السوري، لتشكل مناطقهم «جدران عازلة» تتبع تركيا، وتحول دون وصول المقاتلين الأكراد، إلى الأراضي التركية، وتقطع التواصل الجغرافي بين مناطق تمركزهم على الحدود التركية -السورية -العراقية.
يتداخل ذلك مع طبيعة ما أجرته تركيا في المناطق التي سيطرت عليها إثر عمليتي «درع الفرات»، و«غصن الزيتون»، من تحولات نقلت تبعية هذه المناطق إداريا إلى السلطات التركية، وتم تعميم تعلم اللغة التركية، ورفع على بعض المؤسسات فيها العلم التركي، بل وصل الأمر إلى استخدام اللغة والعملة التركية في التعاملات، ونشر صور إردوغان في المرافق العامة. يعكس ذلك أنماط المطامع التركية في مناطق شمال وشرق سوريا، بحسبانها لا تختلف عن مطامع الطورانية في الموصل العراقية، فالمطامع في الاستحواذ على الأراضي السورية بدأت منذ احتلال تركيا للواء الإسكندرونة، الذي يحاول إردوغان استنساخ مشهده، بإعادة تشكيل الخريطة والفسيفساء السورية عبر العبث بالديموغرافيا السورية.
 
*إحباط المسار الدبلوماسي
يأتي العدوان التركي في إطار محاولة تستبق مخرجات أي تسوية سياسية قد تسفر عنها الجهود الأممية لإنهاء الصراع في سوريا، سيما بعد التطورات الإيجابية الأخيرة، التي تمثلت في إقرار انعقاد أول اجتماع للجنة صياغة الدستور السوري، وذلك في29 أكتوبر (تشرين الأول) 2019. وهو حدث قد يتم تعطيله بسبب الهجوم التركي وما قد يسفر عنه من تعقيدات عسكرية وإشكاليات سياسية بين مختلف الأطراف المعنية. وتحاول تركيا التذكير الدائم بوجود «أساس قانوني» لتدخلاتها العسكرية في سوريا، يتعلق باتفاق أضنة الموقع في عام 1998، والذي تعتبر أنقرة أنه «ينظم العمل المشترك لمواجهة النشاط الإرهابي على الحدود، ويضع أساسًا لمراعاة المخاوف الأمنية لتركيا».


 
العدوان التركي... أنماط المواقف الإقليمية والدولية
على عكس التدخلات العسكرية التركية السابقة في سوريا، فقد طغى الرفض والتنديد بالعملية التركية الأخيرة على المواقف الإقليمية والدولية، وبدا الموقف الأميركي هو الأكثر توترا واضطرابا، ذلك أن الولايات المتحدة أقدمت على سحب عناصرها من الشمال السوري قبيل بدء التحركات التركية واجتياحها للحدود الشمالية الشرقية لسوريا، بما فُسر من قبل البعض على أنه بمثابة ضوء أخضر أميركي للعملية التركية، وتوافق ضمني بين الجانبين على حدود هذه العملية.
بيد أن ذلك ربما عكس عددا من المعطيات من ضمنها طبيعة الانقسام داخل الإدارة الأميركية، حيث رؤية الرئيس الأميركي، دونالد ترامب -الذي رأى إمكانية غض الطرف عن الاجتياج التركي وإتاحة الفرصة لإقامة منطقة آمنة على حدودها الجنوبية، على أن يتم ضبط السلوك التركي وحدود تحركه العسكري، بأدوات اقتصادية وعسكرية - وبين الكثير من المؤسسات الأميركية المعنية التي رأت ضرورة معارضة التحركات التركية كونها ستفضي إلى مشكلات سياسية مستقبلية وتعقيدات أمنية قد تضر بالأمن القومي الأميركي وسياسات واشنطن فيما يخص مكافحة الإرهاب.
بدا من ذلك طبيعة الازدواجية التي كست موقف واشنطن، ففي الوقت الذي حاول فيه الرئيس الأميركي التأكيد على أن الولايات المتحدة الأميركية غير معنية بالصراع التركي - الكردي، وجذوره العميقة ومحركاته المختلفة، معلنا قدرة واشنطن على تغليظ العقوبات التي فرضتها على تركيا وشملت وزراء الدفاع والداخلية والطاقة الأتراك، وإلغاء مفاوضات اتفاق التجارة الحرة بين البلدين، ومضاعفة رسوم الواردات على صادرات الصلب التركي لواشنطن. 
بيد أن التحركات السياسية في واشنطن وعمليات إعادة التموضع قبل الانسحاب مرة أخرى في بعض مناطق الشمال السوري، أوضحت أن ثمة اتجاها آخر لا يشاطر الرئيس الأميركي مواقفه.
وكانت واشنطن قد أقامت خمس قواعد عسكرية وعددًا من نقاط التمركز المتنقلة. وانخفض عدد القوات الأميركية من ألفي عنصر إلى نحو 500. وعوضت بريطانيا وفرنسا ودول أخرى القوات الأميركية التي انسحبت بعد قرار ترامب بداية العام الحالي. وهناك أيضًا قاعدة التنف في زاوية الحدود السورية -الأردنية -العراقية التي تضم قوات خاصة ومقاتلين سوريين، وانسحبت منها واشنطن أيضا قبيل العدوان التركي. ويُعد التخلي الأميركي عن الأكراد، مؤشرا لما يحدث في أروقة واشنطن، من تغيرات، وما يدور في البيت الأبيض من مراجعة للحسابات السياسية، على بُعد سنة تقريبًا من الانتخابات الرئاسية.
 
حسابات الموقف الروسي من العدوان التركي
في مقابل ذلك، بدأ أن الموقف الروسي أكثر اتزانا، ذلك أنه لم يرفض العدوان التركي، وإنما سعى إلى توظيفه لخدمة العوامل اللازمة لإبعاد أنقرة سياسيا عن واشنطن، وتعظيم فرص وميادين المواجهة التركية -الكردية على نحو يستنزف قدرات الجانبين، ويفضي إلى إنهاء التحالف الأميركي - الكردي، وكذلك يسهم في إعادة ضبط مواقف قوات سوريا الديمقراطية حيال النظام السوري، ويدفعه بقبول الرؤية الروسية الخاصة بضرورة عودة قوات النظام السوري إلى كافة المناطق التي سيطرت عليها القوات الكردية بعد تحريرها من قبضة تنظيم داعش.
بدا من ذلك أن حكومة روسيا والنظام السوري أكبر المستفيدين من العملية التركية؛ إذ إن العملية التركية قلصت من ناحية النفوذ الكردي وأضعفت من ناحية أخرى موقف الأكراد فيما يخص التفاوض على إقليم ذي حكم ذاتي بعد تراجع واشنطن عن دعمهم في مواجهة تركيا، بل وربما إجبار طرفي الصراع التركي - الكردي على إيجاد قنوات اتصال مع النظام السوري، وهو أمر كان متعذرًا بسبب الوجود الأميركي في الشمال السوري.
وقد يشكل ذلك النجاح في فتح قنوات اتصال بين الحكومة السورية وتركيا نصرًا كبيرًا من الناحية الجيوسياسية، وفقا لآندريه كورتونوف، رئيس المجلس الروسي للشؤون الدولية، والذي قال:«إذا أمكن ترتيب ذلك، فسيُعد الأمر نصرًا سياسيا كبيرًا». وأضاف أنه «يمكن لبوتين أن يقول إن الأميركيين أخفقوا في حل ذلك، لكننا استطعنا.. بما يعني ضمنًا أن نهجنا حيال الصراع أكثر فاعلية من منافسينا على الساحة الجيوسياسية». هذا فيما قال الدبلوماسي الروسي، بارزفلاديمير فرولوف، إنه إذا اقتصرت العملية التركية على منطقة أمنية عمقها 30ميلاً داخل سوريا، وكانت سريعة، فمن المرجح أن تغض موسكو الطرف عنها، مرجحًا أن يلتزم إردوغان بعدم توسيع نطاق المعركة، ومحاولة حسمها سريعًا.



 
التصعيد الأوروبي حيال العدوان التركي
الموقف الأوروبي بدا أكثر تشددا، والأكثر رغبة في التصعيد حيال العدوان التركي على الأراضي السورية. فقد تم الإعلان عن أن السياسات التركية ستكون موضع نقاش خلال اجتماع وزراء الخارجية الأوروبيين في لوكسمبورغ وأيضًا خلال القمة الأوروبية في 18و19أكتوبر 2019، وعملت باريس وبرلين في هذا السياق على الوصول إلى قرار أوروبي موحد، من أجل إقرار عقوبات ضد تركيا. تأسس ذلك على عنصرين أساسين، أولهما ارتبط بتداعيات التدخل التركي على تنظيم داعش وعناصره من الأوروبيين الذي يمكن أن يشكلوا «قنابل موقوتة» بالنسبة لمجتمعاتهم، وثانيهما، تعلق بالابتزاز التركي الذي عبر عنه الرئيس إردوغان من خلال التلويح بإعادة توظيف قضية اللاجئين مرة أخرى في مواجهة البلدان الأوروبية.
وقال الرئيس التركي إنه سيفتح الحدود أمام توجه 3.6مليون لاجئ جلهم من السوريين وهم موجودون على الأراضي التركية ليتدفقوا إلى أوروبا على غرار ما حصل في عامي 2015و2016. ورغم اتهام دونالد تاسك، رئيس الاتحاد الأوروبي لإردوغان بممارسة «الابتزاز»، وهو ما كرره جان إيف لودريان وزير الخارجية الفرنسية، فثمة «قلق حقيقي» من مشكلة هجرة جديدة قد تكون أكبر من الموجة السابقة وتتسبب فيها سياسة الرئيس التركي ردًا على الإجراءات الأوروبية التي يصفها بأنها «معادية».
وسارعت الدبلوماسية الفرنسية إلى طلب اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي بالتشارك مع البلدان الأوروبية الأخرى الممثلة في المجلس. لكن هذه المبادرة لم تفضِ إلى إعلان رئاسي أو بيان جماعي بسبب ارتباك الموقف الأميركي، والرفض الروسي. وطلبت باريس بعدها اجتماعًا لدول التحالف الذي نشأ في عام 2014لمحاربة تنظيم داعش. وقالت سيبين نديا، الناطقة باسم الحكومة الفرنسية، إن فرنسا «قلقة» بعد هروب نحو 800من عائلات وأقارب داعش، وإن هذا هو السبب الذي من أجله تطلب باريس من أنقرة أن «تضع حدًا لعمليتها بأسرع وقت».
ولم تترك باريس تهديد الرئيس إردوغان بفتح الحدود لتدفق ملايين السوريين على البلدان الأوروبية من غير رد؛ إذ اتهم لودريان أنقرة بممارسة «الابتزاز» وبأنها ليست المرة الأولى التي ترفع بوجه أوروبا خطر وصول اللاجئين إلى حدودها مع ما يمكن أن يثيره ذلك من صعوبات اجتماعية واقتصادية، وخصوصًا سياسية. ونبه الوزير الفرنسي إلى أن الاتحاد الأوروبي «لن يخضع أبداً للابتزاز». وبحسب المصادر الأوروبية، فإن تركيا «بحاجة لأوروبا أكثر من حاجة أوروبا إليها»، وأن الطرف الأوروبي قادر على «عزل» تركيا سياسيا ودبلوماسيا، وعلى فرض عقوبات تجارية واقتصادية ومالية، فضلاً عن فرض حظر على صادرات السلاح إليها كما فعلت الكثير من البلدان الأوروبية كالنرويج وفرنسا وألمانيا وفنلندا وهولندا، وعلى إغلاق الأبواب بوجه انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. 
وما قاله لودريان أكد عليه أيضًا رئيس الحكومة الإيطالية، الذي دعا الاتحاد إلى «عدم الإذعان» للتهديدات التركية.
وقد جاء قرار حظر صادرات السلاح لتركيا ضمن تحركات الدول الأوروبية، في إطار مقترح قدمته السويد، وتسعى لتحويله لقرار جماعي من قبل وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي المزمع عقده لاتخاذ «تدابير تقييدية» بحق تركيا، وهو ما يمكن أن يشمل عقوبات سياسية واقتصادية. وكانت دول الاتحاد الأوروبي قد وقعت مع تركيا اتفاقية في مارس (آذار) عام 2016. لإعادة القبول تسمح للجانب الأوروبي بإرسال أي مهاجرين غير شرعيين يصلون من تركيا إلى أي دولة من دول الاتحاد. وفي المقابل، عرض الاتحاد الأوروبي 3مليارات يورو (3.3مليار دولار) من المساعدات المالية العاجلة إلى الحكومة التركية، بالإضافة إلى 3مليارات يورو أخرى بحلول نهاية عام 2018الماضي.
وفي السنوات التي أعقبت التوقيع على الاتفاقية، أعاد الاتحاد الأوروبي ما لا يتجاوز 2في المائة من طالبي اللجوء السياسي والمهاجرين الذين وصلوا إلى الجزر اليونانية قادمين من تركيا. ولتفادي الترحيل مجددًا، بدأ اللاجئون في التقدم بطلبات الحصول على اللجوء السياسي فور وصولهم إلى الجزر اليونانية عوضًا عن انتظار بلوغ الوجهات الأوروبية المقصودة مثل ألمانيا على سبيل المثال. وثارت مشكلة مزمنة لدى السلطات اليونانية التي لم تتمكن من معالجة الكم الهائل من طلبات اللجوء المتراكمة لديها، وصارت الجزر الساحلية الآن موئلاً لمخيمات اللاجئين التي تضم أكثر من 30ألف شخص أو يزيد.
وفي يوليو (تموز) الماضي، أعلنت تركيا عن تعليق العمل باتفاقية إعادة القبول، ردًا على العقوبات الاقتصادية من جانب الاتحاد الأوروبي (وهي عقوبات طفيفة بدرجة ما) بسبب التنقيب على الغاز الطبيعي الذي تقوم به تركيا في المياه المتنازع عليها بالقرب من السواحل القبرصية. والذريعة التركية الحالية لفتح البوابات الأوروبية ليست ذات أهمية بالغة في الآونة الراهنة، إذ لا بد لإردوغان من التخلص من وجود بعض السوريين على أراضي البلاد بصورة أو بأخرى.
 
التصعيد العربي حيال العدوان التركي
اتخذت أغلب البلدان العربية مواقف تصعيدية حيال العدوان التركي على الأراضي السورية، حيث رفض الكثير من البلدان العربية المبررات التركية، وفي هذا الإطار قرر مجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية، النظر في اتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهة «العدوان التركي» على سوريا؛ بما في ذلك خفض العلاقات الدبلوماسية، ووقف التعاون العسكري، ومراجعة مستوى العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياحية مع تركيا.
وأدان المجلس العدوان التركي على الأراضي السورية باعتباره خرقًا واضحًا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن التي تدعو إلى الحفاظ على وحدة واستقلال سوريا. وعدّ المجلس العدوان التركي تهديدًا مباشرا للأمن القومي العربي وللأمن والسلم الدوليين، مؤكدًا على أن كل جهد سوري للتصدي لهذا العدوان والدفاع عن الأراضي السورية هو تطبيق للحق الأصيل لمبدأ الدفاع الشرعي عن النفس وفقًا للمادة «51» من ميثاق الأمم المتحدة.
بيد أن الموقف اللافت في هذا الإطار ارتبط باستقبال وزير الخارجية المصري سامح شكري وفدًا من «مجلس سوريا الديمقراطية» يضم رياض درار الرئيس المشترك للمجلس، وإلهام أحمد رئيسة الهيئة التنفيذية للمجلس، وسيهانوك ديبو عضو مجلس الرئاسة، في القاهرة، قبل الاجتماع الوزاري العربي. ويمثل ذلك تصعيدا مصريا غير مسبوق ضد السياسات التركية. وصرح المستشار أحمد حافظ المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، بأن «مصر تولي أهمية كبيرة لوحدة سوريا وشعبها وسلامتها الإقليمية وتحرص دائما على العمل على صيانة ذلك، كما تقف على مسافة واحدة من جميع مكونات الشعب السوري الشقيق»، مُعربًا عن «إدانة مصر للعدوان التركي على سوريا، واعتباره احتلالاً لأراضي بلد عربي شقيق»، ومؤكدًا أن مقاومته تُعد حقًا شرعيًا للدفاع عن النفس بموجب المادة 51من ميثاق الأمم المتحدة».
 

ارتدادات العدوان التركي
تتعدد ارتدادات العدوان التركي على شمال شرقي سوريا وتتنوع مستوياتها، ويبدو أن الوضع الإنساني هو الأكثر تضررا، وذلك بعد نزوح أكثر من 130ألف شخص من ريف رأس العين وتل أبيض بسبب القصف التركي، هذا في وقت تشير فيه الأمم المتحدة إلى أن نحو 700ألف شخص على الأقل من أصل 1.7مليون مواطن في شمال سوريا بحاجة إلى مساعدات إنسانية. هذا في وقت حذرت فيه مجموعة من 14وكالة إغاثة دولية من الأزمة الإنسانية المتصاعدة في شمال شرقي سوريا. وأفادت في بيان أن «المدنيين في خطر مع تصاعد العنف وتعليق العمل الإنساني» في المنطقة. وأضافت أن ما يقدر بنحو 450ألف شخص يعيشون على مسافة خمسة كيلومترات من الحدود السورية -التركية وأن هناك بالفعل أكثر من 90ألف نازح داخلي في المنطقة وعشرات الآلاف من المقاتلين الذين لديهم أسر محتجزة في المخيمات ومراكز الاحتجاز.
ومن المرجح أن يتزايد مأزق أنقرة وتتصاعد حدة الإدانة الدولية كلما تزايدت الأزمات الإنسانية الناتجة عن العدوان التركي، سيما مع المؤشرات التي تكشف عن تزايد احتمالات عودة العمليات الإرهابية لتنظيم داعش، سيما بعد التراجع الأميركي عن دعم الجانب الكردي، وإعلان قوات سوريا الديمقراطية، وقف عملياتها العسكرية ضد تنظيم داعش. وكانت الإدارة الذاتية الكردية قد أعلنت مؤخرا فرار المئات من أفراد عائلات تنظيم داعش من مخيم عين عيسى للنازحين بعدما طاله قصف القوات التركية. وأعلنت قوات سوريا الديمقراطية أنه لم يعد لديها ما يكفي من الأفراد لحراسة المخيم. 
ويتوزع12ألف شخص من عائلات التنظيم المتطرف على ثلاث مخيمات تسيطر عليها القوات الكردية، هي مخيمات عين عيسى(شمال)، وروج، والهول (شمال شرق).ويقبع غالبية هؤلاء في مخيم الهول.
وفيما يخص وضع تركيا الداخلي، فقد يكون تعافي تركيا من الركود الاقتصادي أحدث ضحايا توغل جيشها في سوريا، ذلك بعد أن هددت قيادات بـ«الكونغرس» الأميركي ومسؤولون أوروبيون بعقوبات قد تزيد من المشكلات التي تجابهها العملة التركية. وتتضمن المخاطر المحتملة في هذا الإطار ارتفاع العجز وتكاليف الاقتراض وتباطؤ السياحة إذا انخرط الجيش التركي في العملية لفترة طويلة.
لذلك إذا ما تصاعدت تكلفة التدخل التركي، ثمة احتمالات بأن يدفع ذلك ربما الجانب الروسي إلى تقديم مقترحات بشأن العمل على إعادة صوغ اتفاق «أضنة» بين دمشق وأنقرة. وقد يتبع التدخل التركي في شمال شرقي سوريا تصعيد محتمل من جانب النظام السوري وروسيا في مدينة إدلب، فالعمليات التركية السابقة في الميدان السوري تبعها مباشرة تصعيد عمليات الجيش السوري في مناطق «خفض التصعيد». وكانت موسكو قد أعطت مهلة إضافية لأنقرة للتوصل إلى حل ينهي أزمات مدينة إدلب، وقد يعني ذلك أن العملية العسكرية التركية قد لا تمثل بابا لتحقق وضمان المصالح التركية، بقدر ما تفضي إلى مشكلات أكثر عمقا وعلى جبهات متعددة.
 

font change