«كايلا مولر»

داعش بعد رحيل البغدادي

«كايلا مولر»

* أُطلق على عملية قتل البغدادي «كايلا مولر» نسبة إلى اسم عاملة الإغاثة الأميركية التي كانت رهينة لدى داعش قبل أن يقدم على قتلها في 6 فبراير 2016
جمع تنظيم داعش نحو 43 ألف مقاتل أجنبي من 120 بلداً، ويتسم 5 % منهم وحسب بأنهم على معرفة متقدمة بالشريعة الإسلامية
* دراسة: 25.8 % من المنظمات الإرهابية انهارت في أعقاب مقتل قائدها أو أسره. وتُستمدّ هذه النظرة من تقييم فقدان 35 قائدًا في 19 جماعة منذ عام 1750 إلى الوقت الحالي
* دراسة: نحو 90 % من الجماعات الإرهابية ظلّت فاعلة بعد اغتيال قائدها أو اعتقاله، ولم يتأثر على نحو دراماتيكي سوى ثلث الجماعات الآيديولوجية المبنية على آيديولوجيا يمينية أو يسارية.
* استطاعت عناصر التنظيم أن تنفذ نحو 665 عملية إرهابية منذ أوائل عام 2018 حتى 27 أبريل 2019
* أفكار داعش قد لا تظل باقية وحسب، وإنما قد تتوراثها أجيال جديدة، ذلك أن نحو 45.000 طفل ولدوا في مناطق سيطرة داعش السابقة لمواطنين من بلدان مختلفة
* منطقة آسيا الوسطى بأكملها وتركمانستان وأوزباكستان تبقى أيضًا من المناطق المرشحة لتمدد داعش

أنقرة: أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مقتل أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، في قرية باريشا بمحافظة إدلب، على يد وحدة من القوات الخاصة الأميركية (دلتا)، وذلك على نحو طرح تساؤلات بشأن ارتدادات ذلك على التنظيم الإرهابي وفروعه وعملياته الإقليمية والدولية، فضلا عن مستقبل تماسكه التنظمي وأثر ذلك على خريطة التنظيمات الإرهابية عبر العالم.
وقد أُطلق على العملية النوعية التي أفضت إلى مقتل البغدادي «كايلا مولر» نسبة إلى اسم عاملة الإغاثة الأميركية التي كانت رهينة لدى التنظيم الإرهابي قبل أن يقدم على قتلها في 6 فبراير (شباط) عام 2016. وقد تعددت الروايات والتقارير بشأن سياق وملابسات مقتل البغدأدى، سيما أن الكثير من المحاولات السابقة قد باءت بالفشل، على نحو جعل الشكوك تحيط بمصير أي عملية تستهدف «اصطياده» أو اغتياله.
وقد ولد «إبراهيم عواد البدري» أو أبو بكر البغدادي في العام 1971 لعائلة فقيرة في مدينة سامراء شمالي بغداد. وأبدى طموحًا للالتحاق بالجيش العراقي، غير أن ضعف بصره حال دون ذلك، ليتجه إلى الدراسات الدينية في بغداد قبل أن يصبح إمامًا في العاصمة العراقية في عهد صدام حسين.
ارتبطت نقطة التحول في مسار حياته بدخوله سجن «بوكا»، والذي غدا فيما بعد «جامعة الجهاد» بالعراق، ليُقدم بعد إطلاق سراحه في ديسمبر (كانون الأول) 2004. على مبايعة أبو مصعب الزرقاوي. وتسلم البغدادي مسؤولية «دولة العراق الإسلامية» في مايو (أيار) 2010. بعد مقتل زعيمها أبو عمر البغدادي ومساعده أبو أيوب المصري في غارة جوية عند الحدود السورية العراقية. وتمكن سريعا من تعزيز موقع تنظيمه وقيادته بين المجموعات الإرهابية عبر الإقليم، ليعلن في عام 2013 عن تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام».


 
خيارات متنوعة... مآلات داعش بعد البغدادي
لم يكن البغدادي محض قيادة عابرة، فقد استطاع أن يؤلف بين مجموعات متنوعة ويوحد أهدافها لينشأ أحد أخطر التنظيمات الإرهابية عبر التاريخ، لذلك فإن رحيله يطرح مسارات عدة قد يسلكها تنظيمه، تتراوح بين بقاء التنظيم وظهور قيادة بديلة أو تفككه وتسرب عناصره لتتحول إلى محض «ذئاب منفردة» تهدد أمن واستقرار وسلامة الكثير من المجتمعات الإقليمية والدولية، أو أن تتجه بعض المجموعات الباقية إلى إعادة الانضمام إلى تنظيمات إرهابية أخرى وفي مقدمتها تنظيم القاعدة.
ويرى عدد من الباحثين أن تنظيم داعش قد مثل ذروة تطور غير مألوفة في نشاط الجماعات «الجهادية» عبر العالم، وبدت أدواته وتكتيكاته مبتكرة في الكثير من خصائصها واستراتيجياتها. ومن الباحثين المتبنين لهذا الرأي كولين كلارك، الباحث في معهد أبحاث السياسة الخارجية، والأستاذ المساعد في جامعة كارنيغي ميلون الأميركية، ومؤلف كتاب «ما بعد الخلافة: تنظيم داعش والشتات الإرهابي».
ويرى كلارك أن خطورة تنظيم داعش ترتبط بتبنيه منذ بدايته هيكلا تنظيميا صارما ومنضبطا من أعلى قياداته إلى أصغر مراتبه، فضلا عن تمكنه من جمع نحو 43 ألف مقاتل أجنبي من 120 بلدا، ويتسم 5 في المائة منهم وحسب بكونهم على معرفة متقدمة بالشريعة الإسلامية، ويوصف نحو 70 في المائة منهم بأن لهم معرفة أولية بسيطة بالتعاليم الإسلامية. ويرى أن جفاف موارد التنظيم المالية، وهزيمته العسكرية، ومقتل قيادته الرئيسية يعني أن التنظيم سيعاني من إشكاليات تنظيمية مركبة.
هذا فيما أشار غيدو شتاينبرغ الخبير الأمني في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إلى أن ثمة تأثيرا كبيرا لمقتل البغدادي على تماسك تنظيم داعش، بحسبانه القيادي الذي استطاع تحويله منذ 2010 من تنظيم صغير محدود العدد يضم نحو 100 عنصر إلى تنظيم تقدر أعداده بالآلاف ويتخطى حدود تمركزه الجغرافي، ويسيطر على مساحات شاسعة في كل من سوريا والعراق، مشيرا إلى أنه «قد يكون من الصعب إيجاد بديل للبغدادي خلال الأشهر أو السنوات المقبلة، يتمتع بذات الحماسة الآيديولوجية والقدرة التنظيمية والعنف»، وأضاف: «من المرجح أن يضعف التنظيم ليس وحسب على مسرح العمليات في كل من سوريا والعراق وإنما أيضا في كل أنحاء العالم الإسلامي».
تُعبر آراء شتاينبرغ عن اتجاه يرجح أن يُحدث مقتل البغدادي اضطرابا في صفوف التنظيم لحين اختيار قيادة جديدة، أو اندماج ما تبقى منه مع تنظيم آخر، أو ربما انشقاقها لتصبح مجموعات جهادية أصغر. وقد يغدو ذلك ذريعة للثأر أيضا، خاصة حال هروب المزيد من المقاتلين من السجون الكردية، ليتعزز بذلك التنظيم عدديا ومعنويا. وقد أشار المقدّم في الجيش الأميركي نود تيرنر، إلى أن التنظيمات الإرهابية تجابه تحديات متراكمة جراء مقتل قاداتها، ذلك أنها بالأساس تمثل تنظيمات ذات هياكل سرّية، تعتمد في بقائها وتماسكها على قادتها.
وقد وجدت دراسة أجرتها ليزا لانغدُن، وألكسندر شارابو، وماثيو ولز أن 25.8 في المائة من المنظمات الإرهابية انهارت في أعقاب مقتل قائدها أو أسره. وتُستمدّ هذه النظرة من تقييم فقدان 35 قائدًا في 19 جماعة سياسية واجتماعية وانفصالية، تضمّ مائة أو أكثر من الأعضاء، منذ عام 1750 إلى الوقت الحالي. وتشير تقديرات صادرة عن وزارة الدفاع الأميركية، إلى أن ما بين 14 ألفا و18 ألف عضو يوالون تنظيم داعش في الوقت الحالي، إضافة إلى 11 ألف شخص يقبعون في أكثر من 30 مركز احتجاز شمالي سوريا. لذلك، فقد يترتب على وفاة البغدادي، زيادة ضعف سيطرة القيادة المركزية على الفروع أو الولايات، ومن ثم انهياره وتسرب عناصره للعمل السري أو الانضمام لتنظيمات أخرى.
 
تحدي البقاء... داعش بعد البغدادي
في مقابل ذلك، يبرز اتجاه آخر يعتبر أن استهداف قادة الجماعات الإرهابية يمثل إحدى الأدوات التي توظفها القوى التي تستهدفها لتفكيك بنيتها والقضاء عليها، وهذه القضية خضعت للكثير من الدراسات عبر العالم وشملت مجموعة متنوعة من التنظيمات الراديكالية. ففي دراسته بعنوان «كيف يسهم استهداف رؤوس المقاتلين في مكافحة الإرهاب؟»، قال براين برايس: إن الجماعة الإرهابية كلما تقدّم بها العمر صارت أكثر قدرة على التكيّف مع التغيرات. وجادل بأن الجماعات الدينية أكثر عرضة للتأثر قياسًا بالجماعات اليمينية واليسارية الأخرى.
هذا فيما تنبأ عسكريون في وزارة الدفاع الأميركية ببعث جديد للتنظيم خلال ما بين 6 أو 12 شهرا إذا لم يتواصل الضغط عليه ومطاردة أفراده، سيما أن الآلاف من مقاتليه لا تزال على قيد الحياة، وليسوا جميعا في السجون، وهم يصرون على مواصلة القتال من خلال ما وصفوه بـ«حرب استنزاف»، عبر سلسلة من الهجمات التي يُخطط لها في الخفاء.
وتشير اتجاهات أكاديمية إلى أنه لا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأنّ مقتل البغدادي سوف يؤدي إلى آثار سلبية كبيرة على ما تبقى من داعش، فالتنظيمات الجهادية تعتمد على رمزية «الشهادة»، كما أن العمليات الإرهابية لـداعش قد تتجدد بتجدد سياق التناقضات الدولية والإقليمية على الأراضي السورية والعراقية؛ وليس فقط بمقتل قيادات إرهابية مثل الزرقاوي وبن لادن والبغدادي.
وتستند هذه الآراء على أن التنظيمات الإرهابية تعتمد في بقائها على انتشار أفكارها أكثر من الاستناد إلى قوتها العسكرية رغم ضعفها، سيما في ظل تنامي قدراتها على التجنيد وتطويع التكنولوجيا لخدمة أهدافها. ولعل ذلك ما أشار إليه الرئيس الأميركي ذاته، حينما أعلن مقتل أبو بكر البغدادي، فقال: إن داعش يستخدم الكومبيوتر والإنترنت أفضل من دونالد ترامب نفسه، وهو ما يشير إلى حجم التهديدات المتزايدة التي يشكلها أفراد التنظيم المنتشرون حول العالم، وقدرتهم على شن هجمات جديدة.
وقد قامت دراسة حديثة للباحثة جينا غوردن برصد أثر استهداف قيادات الجماعات الإرهابية على تماسكها، فبدأت بتقييم نحو 300 حالة للقيادات وانتهت إلى نتيجة تشير إلى أن المنظمات الإرهابية ذات الأجندة الدينية، قادرة على مقاومة فقدان زعمائها؛ وتوصلت إلى أن نحو 90 في المائة من الجماعات الإرهابية ظلّت فاعلة بعد الاغتيال أو الاعتقال، ولم يتأثر على نحو دراماتيكي سوى ثلث الجماعات الآيديولوجية المبنية على آيديولوجيا يمينية أو يسارية.
وقد يؤدي استهداف قادة الجماعات الإرهابية إلى نتائج عكسية في بعض الأحيان؛ فقد يزيد من تماسك الجماعة الإرهابية، ويعزّز التعاون داخلها، ويطلق حملات الانتقام التي تتناغم مع مكونات الإرهاب الأساسية، والأخطر من ذلك أنه ربما يقود إلى حالة تعاطف مع الزعامات الإرهابية إذا ما رافقته حملة إعلامية غير مناسبة.
ويرى الخبير في المركز الوطني الأميركي لمكافحة الإرهاب، مايكل ناغاتا، وهو جنرال سابق في الجيش، أن مقتل البغدادي لن يشكل كارثة على مستوى القيادة في داعش، مشيرا إلى أن «التنظيم لن يصبح أعرج بسبب هذه الخسارة».
وفي هذا الاتجاه، يؤكد الكاتب والباحث في شؤون الإرهاب، أكي بيريتز، وهو محلل سابق لدى وكالة الاستخبارات المركزية في الولايات المتحدة، أن «الأمر لا يتعلق بمجموعة إرهابية وحسب، وإنما بإلآيديولوجيا أيضا، وبالتالي فإن القضاء على فكرة داعش تبدو أعقد بكثير من مجرد عملية استخباراتية وعسكرية ناجحة». ويؤكد تقرير لمعهد دراسات الحرب الذي يتخذ من واشنطن مقرا له، أن تنظيم داعش لا يزال يشكل تهديدا عالميا رغم مقتل زعيمه، والسبب يتعلق بأن التنظيم تشعب إلى فروع في مناطق ودول في قارات مختلفة.
وترى جريدة «التايمز» أن ما يميز تنظيم داعش الإرهابي يتمثل في القدرة على التأقلم مع الأوضاع المعقدة والضاغطة، ارتباطا بكون عناصره الإرهابية استطاعت إعادة التجمع رغم الحرب المستمرة التي خاضوها خلال السنوات الخمس الماضية، تحت ضربات التحالف الدولي. وأضافت أن التنظيم عاد إلى استراتيجية «حرب العصابات» بعدما كان يسيطر على مساحات واسعة من الأراضي، ووسع عملياته التفجيرية المباغتة والدامية لتشمل آسيا وأفريقيا وأوروبا.
وأشارت الجريدة البريطانية في تقريرها، إلى أنّه رغم الضعف الواضح فيما يخص قدرة التنظيم على التخطيط لهجمات كبرى وقيادتها وتنفيذها، إلا أنّه لا تزال لديه القدرة على التحريض لارتكاب الهجمات الإرهابية وتوفير التوجيه والتمويل والتكنولوجيا. وتابعت: «تنظيم داعش لا يزال باقيا على قيد الحياة في عقول الناس، إذ إنّ إنتاجه الدعائي، الذي تضاءل بشدة بسبب الخسائر في الموصل ثم الرقة، آخذ في الارتفاع مرة أخرى، إذ بدأ أعماله الدعائية تحت شعار العملية العالمية (الانتقام للشام)، كما أنّ الاحتجاجات الأخيرة في العالم العربي، مع سقوط الأنظمة في الجزائر والسودان والاضطرابات في العراق ولبنان، ستكون حاسمة لمستقبل التنظيم الإرهابي، ومن المؤكد أنّ الحركة الإرهابية ستحاول اختطاف هذه «الثورات»، كما فعلت في عام 2011.


 
تنظيم «القاعدة» في غياب البغدادي
يشكل مقتل البغدادي نقطة تحول بارزة وصفها السيناتور الأميركي ليندسي غراهام بأنه تغيير في قواعد المواجهة مع داعش وكذلك كافة التنظيمات الإرهابية بصفة عامة. وقد حاول الرئيس الأميركي التفاخر بما حققته إدارته من ملاحقة للتنظيمات الإرهابية، وبالأخص داعش، ولمح إلى أن لحظة قتل البغدادي كانت أكبر من لحظة قتل أسامة بن لادن. وقال: «هذه العملية تعد الأكبر من نوعها على الإطلاق»، ثم أضاف: «إن قتل أسامة بن لادن كان أمرًا كبيرًا بسبب الهجمات على مركز التجارة العالمي، لكن مقتل البغدادي يعد أكبر، بحسبانه كان يحاول بناء دولة وخلافة». وأشار ترامب إلى أنه حذّر من أسامة بن لادن وخطورة تصريحاته، في كتاب ألّفه قبل وقوع الهجمات، وطالب فيه بالقبض على بن لادن، مشيرًا إلى أنه لم يستمع إليه أحد في ذلك الوقت.
المقارنة بين مآل داعش والعلاقة مع القاعدة تعددت خلال الفترة الأخيرة. فقد قالت إليزابيث كندال، الباحثة في الدراسات العربية والإسلامية في جامعة أوكسفورد: بالنسبة للبعض فإن مقتل البغدادي قد يكون القشة الأخيرة التي تقصم ظهر التنظيم ليتخلوا عنه ويعودوا لتنظيم القاعدة. وقد تشهد الفترة المقبلة عودة القاعدة لتتصدر المشهد الإرهابي، كوريث لبقايا داعش، وقد تتراجع كثير من التنظيمات الإرهابية المحلية عن مبايعتها لـداعش، وتعود لراية القاعدة.
فبعد اغتيال الزرقاوي من طرف القوات الأميركية بالعراق في يونيو (حزيران) 2006. تولى أبو حمزة المهاجر زعامة التنظيم، وبعد شهر تقريبًا من قيادة هذا الأخير، تم الإعلان عن تشكيل «دولة العراق الإسلامية» بزعامة أبو عمر البغدادي، غير أن القوات الأميركية مرة أخرى نجحت في استهداف البغدادي ومساعده أبو حمزة، وذلك في أبريل (نيسان) 2010، فاختار التنظيم أبو بكر البغدادي المعروف بـ«أبو بكر البغدادي الحسيني القريشي»، أو كما ينادونه «أبو دعاء»، وتطلق عليه القوات الأميركية «الشبح».
وثمة الكثير من المؤشرات التي توحي بإمكانية عودة الكثير من عناصر داعش لتنظيم القاعدة، ومن أبرزها انهيار الهيكل التنظيمي لـداعش في سوريا وفي العراق عقب عملية تصفية البغدادي في ريف إدلب، فضلاً عن تراجع تمدد داعش في ولايات خراسان وغرب أفريقيا وشرق آسيا، من جراء وجود تنظيمات متطرفة مناوئة، خاصة تنظيم القاعدة. وحتى بالنسبة «للولايات الإرهابية» التي كانت تتبع داعش في دول مختلفة، ونقلت ولاءها إلى داعش عقب النجاحات الميدانية التي حققها في سوريا والعراق، وإعلانه «الدولة»، مثل تنظيم «بوكو حرام» في نيجيريا، ثم تنظيم «القاعدة في المغرب»، وتنظيم «الشباب» في الصومال؛ فمن الملاحظ أن هذه المبايعات كانت شكلية بدرجة كبيرة، بما قد يدفع بأن تتراجع لتعود إلى راية تنظيم القاعدة أو «التنظيمات التكفيرية» الأخرى مرة ثانية.

 
عناصر داعش... تحديات أمنية مركبة
بغض النظر عن الاتجاه الذي قد يسلكه تنظيم داعش وعناصره في مرحلة ما بعد رحيل البغدادي، فثمة ارتدادات قد تطول الكثير من البلدان بفعل العمليات الإرهابية التي قد تتزايد إما «انتقاما» أو تعبيرا عن المقدرة على الحفاظ على رمزية التواجد أو كأحد ارتدادات انهيار التنظيم وتسرب عناصره، سيما مع تزايد احتمالات توجه المئات من «الذئاب المنفردة» إلى تطبيق قاعدة «اقتل ولا تشاور أحدًا»، بحسبانها إحدى ركائز الخطاب الانتقامي لداعش خصوصا بعد خسارة التنظيم المساحات الجغرافية التي كان يسيطر عليها.
وقد استطاعت عناصر التنظيم أن تنفذ نحو 665 عملية إرهابية منذ أوائل عام 2018 حتى 27 أبريل 2019. كما انتشرت في أوروبا وآسيا وأفريقيا. وقد تزايدت احتمالات أن تشهد بعض البلدان الأوروبية عمليات إرهابية، سيما مع وجود الآلاف من المقاتلين من المواطنين الأوروبيين بين صفوف التنظيم، فعلى سبيل المثال بين 40 ألف مقاتل في العراق يوجد هناك 2000 مقاتل فرنسي. ورغم خسارة التنظيم للكثير من الأراضي التي كان يسيطر عليها في سوريا والعراق بنهاية عام 2017. إلا أنه كان وراء 3670 هجوما حول العالم في عام 2018 (نحو 11 هجوما يوميا).
ويضاعف من خطورة هذه التحديات أن أفكار داعش قد لا تظل باقية وحسب، وإنما أيضا أن هذه الأفكار قد تتوراثها أجيال جديدة، ذلك أن نحو 45000 طفل ولدوا في مناطق سيطرة داعش السابقة لمواطنين من بلدان مختلفة، وحرموا من الجنسية وهذا يعني الكثير لأنهم كانوا في مناطق يسيطر عليها التنظيم وهو ما يمثل تحديا وتهديدا مستقبليا لن يخفت في ظل الكثير من المؤشرات، من ضمنها ما أشار إليه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في تقريره لمجلس الأمن، والذي جاء فيه أن التنظيم لا يزال موجودا في العراق وقد تحول إلى العمل السري. وقال غوتيريش في تقريره: «إنهم في مرحلة انتقالية، انتقلت فيها مهام القيادات الرئيسية لخلايا التنظيم في الأقاليم».
كما جاء في التقرير أن «هذه الخلايا تخطط لأنشطة تستهدف تقويض سلطة الحكومات، وخلق انفلات أمني، وتخريب المصالحة المجتمعية، ومضاعفة كلفة إعادة البناء ومكافحة الإرهاب. وتتضمن هذه الأنشطة الخطف مقابل فدية، واغتيال القيادات المحلية، وشن هجمات ضد مؤسسات الدولة». وأن مقاتلي التنظيم ينشطون في المناطق المعزولة ذات التضاريس الصعبة، وذلك على نحو يسهل حركتهم وتخطيطهم لشن هجمات، مثل صحراء الأنبار ومناطق بمحافظة نينوى والجبال التي تحيط بكركوك ومناطق بمحافظتي صلاح الدين وديالى، وقد يوظف داعش الأحداث والتوترات التي تشهدها عدد من البلدان كالجزائر والسودان وليبيا والعراق. ووفق تقرير غوتيريش قدّر أعداد مقاتلي التنظيم في العراق وسوريا بما يتراوح بين 14 - 18 ألف مقاتل، بجانب ثلاثة آلاف من المقاتلين الأجانب.
وذكر جيمس جيفري، المبعوث الأميركي الخاص لسوريا، أن هناك ما يتراوح بين 15 إلى 20 ألفا من مقاتلي التنظيم النشطين في المنطقة، من بينهم خلايا نائمة. وبحسب تقرير لوزارة الدفاع الأميركية، قد يتمكن مقاتلو التنظيم، مرة أخرى، من الوصول للأسلحة الثقيلة، وتنفيذ تفجيرات واغتيالات في ساحات كل من خراسان ومنطقة القوقاز والفلبين والصومال ونيجيريا. وكان داعش قد أعلن مطلع هذا العام عن خططه لزيادة نشاطه في تونس، التي نفذ فيها من قبل هجومين على متحف ومنتجع شاطئي عام 2015. وأعلن كذلك لأول مرة عن وجوده في بوركينا فاسو.
ومن بين الهجمات التي وقعت عام 2018. كان نصيب العراق منها 1767 هجوما 48 في المائة، و1124 هجوم في سوريا 31 في المائة. كما شهد العام الماضي زيادة ملحوظة في نشاط الجماعات المرتبطة بالتنظيم، وذلك في محاولة لتعويض خسائره في العراق وسوريا، وليؤكد استمرار عملياته الإرهابية خارج منطقة الشرق الأوسط. ففي عام 2018، تبنى التنظيم 316 هجوما في أفغانستان، و181 هجوما في شبه جزيرة سيناء، و73 في الصومال، و44 في نيجيريا، و41 في اليمن، و27 في الفلبين.
وشهد مطلع هذا العام زيادة ملحوظة في عدد الهجمات التي تبناها فرع التنظيم في غرب أفريقيا في نيجيريا، والتي استهدفت الجيش بشكل أساسي، في محاولة للحصول على السلاح وتعزيز قدراته. وتبنى التنظيم 44 هجوما في نيجيريا خلال أول ثلاثة أشهر من العام، وهو ما يساوي إجمالي الهجمات التي نفذها في البلاد خلال عام 2018. وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، أصدر فرع التنظيم في غرب أفريقيا بيانا يطالب فيه المسلمين بالهجرة إلى المنطقة والانضمام إليه، في إشارة إلى استعداده لاستقبال مجندين أجانب.
ورغم الدعوات المستمرة التي بثها داعمو التنظيم، إلا أنه لم يتبن أي هجمات كبرى في الغرب خلال عام 2018. وفي عام 2017، تبنى التنظيم 4 هجمات في المملكة المتحدة، من بينها تفجير مانشستر، وهجمات برشلونة في إسبانيا، وإطلاق النار في لاس فيغاس في الولايات المتحدة. وفي عام 2018 تبنى التنظيم 7 هجمات محدودة في الغرب، شملت 4 هجمات بالسكين أو الذخيرة في فرنسا، وهجوما واحدا في كل من بلجيكا وكندا وأستراليا.


 
خيار التفكك التنظمي
خلال أقل من شهر، طرأ متغيران متناقضان بشأن مستقبل تنظيم داعش في منطقة الشرق الأوسط، فمع بدء العملية التركية، برزت مخاوف من إمكانية هروب عناصر التنظيم المعتقلين لدى قوات حماية الشعب الكردية، ومن ثم عودة نشاط التنظيم شمالي سوريا. وهناك خطران أساسيان في هذا السياق، أولهما يتعلق باحتمال فرار مقاتلي التنظيم من المحتجزين في سجون قوات سوريا الديمقراطية، بالإضافة إلى نحو 70 ألفا من ذويهم في مخيمات تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية أيضا، مثل مخيم الهول.
وهناك مخاوف متزايدة داخل أجهزة الاستخبارات الغربية بأنه في حال نجح مقاتلو تنظيم داعش في الفرار من سجون قوات سوريا الديمقراطية، فإن بعض المتشددين منهم سيعودون إلى أوروبا بطريقة ما، ويخططون لهجمات أخرى مثلما حدث في لندن وباريس وبرشلونة وأماكن أخرى.
وفي هذا الإطار، يبرز ما تم تقديمه في الكتاب الصادر حديثًا، والمعنون بـ«مستقبل داعش الإقليمي والتداعيات الدولية»، ويلقي الكتاب بعض الضوء على العوامل والمفردات التي تجعل من التنظيم أداة لإثارة الرعب والفوضى في العالم، على الرغم من الادعاءات المستمرة بالقضاء عليه، إذ يُعتقد أن نهايات عام 2017، والتي شهدت إعلان القوات العراقية استعادة الأراضي التي سيطر عليها داعش، وما أعقب ذلك من معارك ضد معسكرات التنظيم في سوريا، انتهت بتقارير إعلامية حول فشل الجماعة، ولكنها لم تفض إلى القضاء تمامًا على التنظيم.
لذلك، من السابق لأوانه الادعاء بأن داعش سيختفي، بل إنه من المرجح أن تتبدل المجموعة الإرهابية الحالية في تغير دراماتيكي يشكل استجابة لتغيير المشهد السياسي العالمي، وبالتالي سيبقى ذلك أمرًا بالغ الأهمية يحتم على الباحثين والمهتمين بملف الجماعات المتطرفة النظر بإمعان في الآيديولوجيات والمعتقدات المنظمة لداعش؛ من أجل التجهيز لما هو قادم، سيما في ظل فشل الأجهزة الاستخباراتية الدولية في التنبؤ بصعود داعش وإصرارهم في الماضي على أن القاعدة هي من سيشكل التهديد الأكثر خطورة في العالم... إن الفشل السابق مرشح للحدوث مجددًا.
ويشير الكتاب إلى أن الظروف الصعبة التي أحاطت بالأوضاع في سوريا والعراق إبان ظهور داعش، وتدخل القوى الدولية في العملية السياسية بالمنطقة مثل الأدوار التي لعبتها طهران لمد جسور تواصلها، وتنمية نفوذها بالمجتمع الدولي، بالإضافة إلى تركيا التي تسترت خلف مواجهة داعش من أجل القضاء على أكراد شمال سوريا، من المحتمل أن تعاود الظهور في ذات البقاع أو في مناطق جغرافية أخرى يحتدم عليها الصراع بين التيارات نفسها أو أخرى ذات مصلحة؛ ما سيتيح الظروف المناسبة لإعادة ظهور داعش.
وفيما يخص الأماكن الجغرافية التي يتوقع بأنها ربما ستكون الأكثر جذبا لـداعش في المستقبل فإن أفغانستان وباكستان تعدان الأكثر ترشيحًا لهذا الأمر، لوجود حركة طالبان منذ فترة في تلك المنطقة، ولطبيعة الصراعات السائدة، إلى جانب تناقضات مصالح الكثير من القوى الإقليمية والدولية، بما من شأنه أن يمثل مدخلا لإعادة بروز أدوار داعش في منطقة تعاني من هشاشة أمنية، وضعف في أداء النظام السياسي، وعدم القدرة على إنهاء وجود الجماعات المتطرفة مثل تنظيم القاعدة، كما أن منطقة آسيا الوسطى بأكملها وتركمانستان وأوزباكستان تبقى أيضًا من المناطق المرشحة لتمدد داعش.

font change