سقوط «الطائف» واستحالة العودة إلى الوراء

سقوط «الطائف» واستحالة العودة إلى الوراء

* النظام الطائفي نظام فاسد وبائد، دفع اللبنانيون ثمنه اقتتالاً أهليًا وحروباً وأزمات، آخرها تلك الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي نعيشها

القول بأن اتفاق الطائف انتهى، قد يكون توصيفًا دقيقًا، نظرًا لعجزه عن حلّ الأزمات السياسية التي يعيشها لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وانسحاب جيش النظام السوري منه. فالاتفاق كان فضفاضاً أو غير دقيق في أكثر من مكان، ربما عن قصد بحيث يولد تلقائيًا أزمات تلو الأخرى بين أركان الحكم في لبنان ويعطي الذريعة آنذاك للرئيس الراحل حافظ الأسد الذي كُلف من الدول الإقليمية والغربية بتطبيق الاتفاق، بإشعال الخلافات ثم المبادرة لحلها، بشكل يوحي للعالم بأن اللبنانيين غير مؤهلين لحكم أنفسهم، بينما في الحقيقة المشكلة في مكان آخر.
 
مع اغتيال الحريري وخروج جيش النظام السوري، بدأ يظهر الخلل في اتفاق الطائف. فبالإضافة إلى البنود التي لم تطبق طوال أكثر من عقدين ونيف، مثل انتخاب مجلس نيابي من خارج القيد الطائفي، أو مثلاً سحب سلاح جميع الميليشيات، أو إنشاء مجلس شيوخ، لم يملك «الطائف» آلية تتيح من خلال بنود صريحة تخطي وتفكيك الأزمات السياسية التي من الطبيعي أن تواجه لبنان أو أي بلد آخر، فكانت النتيجة شلل البلد ومؤسساته.
 
ظل لبنان نحو السنتين ونصف السنة، من دون رئيس جمهورية، وذلك لامتناع النواب عن حضور جلسات الانتخاب. دستور الطائف لم يملك نصًا واضحًا يمنع من إيقاف العمل بمؤسسة رئاسة الجمهورية مثلاً. ولم يتم انتخاب ميشال عون رئيسًا إلا بعد أن توافقت جميع الجهات السياسية على تبني ترشيحه.
 
من عورات اتفاق الطائف أنه لم يضع مهلاً زمنية تُلزم رئيس الجمهورية بدعوة النواب إلى استشارات من أجل تكليف شخصية سنية بتأليف الحكومة، كما لم يعط مهلاً زمنية لرئيس الحكومة المكلف لتقديم تشكيلته إلى رئيس الجمهورية. من هنا الأزمة التي يتخبط بها الأقطاب السياسيون ويقفون عاجزين عن تأليف حكومة في ظل انهيار اقتصادي ومالي واجتماعي خطير.
 
قبل ثلاث سنوات، فشل النواب في انتخاب رئيس للجمهورية، فعمدت حكومة الرئيس تمام سلام إلى اختراع آلية لتسيير الأعمال ترضي المكونات الطائفية للبلد وتتضمن اتخاذ كل القرارات الحكومية بإجماع الوزراء مما شل عمل الحكومة لاستحالة توافق كل الوزراء الذين أصلاً لم يكونوا متجانسين يوم تأليفها.
 
حتى مع انتخاب عون رئيسًا للجمهورية وتكليف سعد الحريري بتأليف الحكومة وشيوع جو من التفاؤل بشأن هذه التسوية ظل الحريري عاجزًا عن تقديم تشكيلة تحظى برضا الرئيس وتوقيعه لشروط وضعها «حزب الله» تتعلق بتمثيل حلفائه من غير الطائفة الشيعية ورفضه القاطع تولّي حزب القوات اللبنانية وزارات عرفت بالسيادية كالدفاع أو الداخلية. وهكذا ظل لبنان يدور في دوامة الفراغ الحكومي أمام ذهول الدول التي اتفقت على مساعدة لبنان ماليًا في تنفيذ مشاريع بنى تحتية وغيرها كان بحاجة لها من أجل النهوض باقتصاده المتعثر.
 
معضلة أخرى لم يستطع الطائف حلّها؛ هي المناصفة الطائفية في الوظائف العامة والتي كان نصه قد ألغاها، ولكن مؤخرًا امتنعت الدولة عن توظيف الناجحين في مباريات الخدمة المدنية بسبب أن أعداد المسلمين الناجحين فاق أعداد المسيحيين الناجحين ما حدا بالمسؤولين إلى تعطيل النتائج ليتسنى تحقيق توازن طائفي في الوظائف العامة.
 
كل هذا غيض من فيض عن عجز الدستور معالجة أزمات البلد التي تسببها الطائفية إجمالاً.
 
من هنا، يبدو واضحًا أن «الطائف» رسخ من خلال الثغرات الكثيرة في نصه والتي لم تعالج، ديكتاتورية الطوائف على حساب مؤسسات الدولة وسير عملها، فأمام الطائفية يغيب القانون وهذا ما أرساه الطائف، ليفتح المجال أمام أمراء الطوائف للتوافق على حساب مالية الدولة واقتصاد البلد، وذلك بحجة تحقيق توازن طائفي. فالسدود المسيحية مثلاً يجب أن يقابلها أخرى مسلمة، كذلك الأمر في موضوع معامل الكهرباء والبنى التحتية، حتى وصل الأمر إلى النفايات التي خضع لمها وطمرها أيضًا إلى المعيار الطائفي.
 
النظام الطائفي نظام فاسد وبائد دفع اللبنانيون ثمنه اقتتالاً أهليًا وحروباً وأزمات، آخرها تلك الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي نعيشها.. وهو، أي النظام الطائفي، على كل الأحوال، لا يلبي مطالب وتطلعات جيل الشباب الذي وبفضل التطور التكنولوجي أصبح يرى ما يجري من حوله في العالم ويرتبط مع الآخرين في مطالبهم بأن يعيشوا في نظام اقتصادي أقل توحشًا وبيئة نظيفة وبنية تحتية عصرية وفرص عمل... إلخ. وهذا ما لا يمكن لنظام طائفي أن يحققه لهم.
 
اليوم يتمحور حراك الشباب حول تلك المطالب، ويجب على الدول الغربية والمؤسسات الدولية التي تعنى بالأزمة اللبنانية أن تساعد الشباب على تحقيق مطالبهم بالوقوف إلى جانبهم وبعدم السعي إلى إنقاذ هذه الطبقة السياسية التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه.

font change