الهلال الشيعي ينقلب على النظام الإيراني

علقت واشنطن العمليات الإيرانية في المنطقة خلال العقدين الماضيين بسبب تزايد تهديدات «القاعدة» و«داعش»

الهلال الشيعي ينقلب على النظام الإيراني

* رغم أن اغتيال سليماني لم يكن على الأرجح جزءًا من استراتيجية أميركية جديدة للمنطقة، فإن العملية قد تسببت في بدء عصرٍ جديد في الصراع الأميركي الإيراني
* يشل الردع الأميركي والاحتجاجات الداخلية إيران ويحد من خياراتها، فلا خيار يبدو جيدًا في هذه المرحلة
 

واشنطن:كان قاسم سليماني أكثر من مجرد قائد رفيع المستوى بالنسبة للنظام الإيراني. فقد كان بمكانة ولي الفقيه الإيراني في المنطقة والمرجع الرئيسي لجميع وكلاء إيران. وكانت تلجأ إليه كل الميليشيات الموالية للنظام الإيراني في لبنان وفلسطين والعراق وسوريا واليمن للحصول على الأوامر واللوجستيات والخطط. وكان سليماني يلعب دور الغراء الذي أبقى كل شيء مجموعًا سويًا، وقام بتنظيم عمليات إيران العسكرية والآيديولوجية والاقتصادية الإقليمية بدقة. وخسرت إيران أكثر مما يمكن أن تعترف به بعد فقد سليماني. ولكن الأهم من ذلك، سيكون عليها مواجهة حقبة جديدة من الضغط الأميركي ومن دون الرجل الذي كان بإمكانه صنع استراتيجية لمواجهتها.
وعلقت الولايات المتحدة العمليات الإيرانية في المنطقة خلال العقدين الماضيين بسبب تزايد تهديدات القاعدة و«داعش» ضدها وذلك لأن سلوك إيران الإقليمي لم يكن يمثل تهديدًا مباشرا لها بقدر ما فعل الإرهاب السني. وسمح هذا الموقف لإيران بالتوسع بشكلٍ كبير من خلال لبنان وسوريا واليمن والعراق دون أن يحتويه المجتمع الدولي. ولم تكن هيمنة إيران الإقليمية تعاني من خسائر فادحة قبل العقوبات الأخيرة التي فرضتها الولايات المتحدة عليها وعلى بعض وكلائها.
إلّا أن اغتيال سليماني قلب المعايير وبعد سنوات من التساهل العسكري، استطاعت الولايات المتحدة رفع مستوى الإرهاب الإيراني ليشكل تهديدًا مباشرا وخطيرًا لها.
وبالتالي، ستواجه إيران خلال الأشهر القادمة تحديات متعددة سيتعين عليها التعامل معها.
 
لبنان
استغل «حزب الله» فرصة توسع دور إيران وتعزيزه في المنطقة للسيطرة على لبنان. وفرض الحزب نفسه على مؤسسات الدولة وفاز نوابه في الانتخابات البرلمانية لعام 2018 وشكلوا الحكومة التي تخدم مصلحتهم.
وكان على «حزب الله» مواجهة تحديين يكمنان في تداعيات العقوبات على إيران - التي أدت إلى أزمته الماليةــ والاحتجاجات الأخيرة في الشارع اللبناني ــ التي أثرت على مصداقيته وأدت إلى استقالة حكومته. ومع ذلك، كان الحزب بشكلٍ عام قادرًا على مناورة هذه التحديات ولم يضطر إلى التخلي عن إمكانية الوصول إلى مؤسسات الدولة. وشعر «حزب الله» بالأمان في فقاعته الضعيفة ــ ولكن المحمية ــ عندما استطاعت إيران السيطرة على العراق وسوريا.
وأصبح الحزب أكثر عرضة للخطر من أي وقتٍ مضى بعد اغتيال سليماني. فلم يفقد فقط محاوره وزعيمه بل فقد في الواقع قائده العسكري.
عندما قُتل مصطفى بدر الدين في سوريا عام 2016. لم يتم تعيين شخصية تحل محله بشكلٍ رسمي. وأصبح سليماني القائد العسكري الافتراضي لـ«حزب الله» والميليشيات الشيعية الأخرى التي تقاتل تحت ولايته القضائية. وعلى ما يبدو، قرر سليماني بعد ذلك تبني نهج عملي أكثر في عمليات «حزب الله» العسكرية. وفي حين شكل القادة القدامى مثل إبراهيم عقل وفؤاد شكر وطلال حمية همزة الوصل بين سليماني وشُعب «حزب الله» العسكرية، إلّا أنهم لا يتمتعون بالثقة والقدرات الاستشارية التي كان يتمتع بها عماد مغنية ومصطفى بدر الدين.
وبناء على ذلك، فقد «حزب الله» اثنين من امتيازاته الميدانية: أولاً، قائده العسكري الذي كان يعرف تحديدًا متى وأين يجب نشر قوات «حزب الله» واستخدامها. ثانيًا، الرجل الذي كان يشكل همزة الوصل بينه وبين ميليشياتٍ أخرى في المنطقة.
ومع غياب سليماني، سيتعين على الحزب أن يركز على التحديات التي تواجهه في لبنان وربما يترك دوره الإقليمي حتى يقرر خامنئي خلاف ذلك. ولكن معادلة «حزب الله» المبنية على الاستقرار مقابل التغيير لم تعد صالحة حتى في لبنان. وبات المجتمع الدولي الذي كان دائمًا يفضل استقرار لبنان على أي جهد لاحتواء «حزب الله» يعيد النظر اليوم في هذه الأولوية. وعلى أي حال، فإن استقرار لبنان في خطر بسبب الاقتصاد الفاشل وقرب الدولة من الإفلاس. وقد يشكل هذا الوضع فرصة للمجتمع الدولي ــ وخاصة الولايات المتحدةــ لاحتواء ما يسمى «حزب الله». وقد تدفع التطورات الأخيرة في المنطقة لمزيدٍ من الضغط على الحزب.


 
سوريا
سمح غياب الولايات المتحدة لإيران بسد الفجوة في سوريا كما حصل في لبنان وحماية نظام بشار الأسد. وكان سليماني العقل المدبر الذي قاد قواته اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية في جميع أنحاء البلاد لتحقيق هدفين: الحفاظ على نظام الأسد وتعزيز مصالح إيران في سوريا. وشكلت الأزمة السورية في الواقع فرصة جيدة لإيران لتستطيع تعزيز وجودها الإقليمي، وبالتالي تأسيس الهلال الشيعي الذي سمح بالوجود المتقطع لقوات الحرس الثوري الإيراني وتعزيز قوته من طهران إلى بيروت.
وعلى الرغم من الهجمات الإسرائيلية والتدخل الروسي - اللذين تسببا في كثير من المشاكل لإيران – إلا أن سليماني ظل قادرًا على التحايل بشكلٍ استراتيجي في معظمها من خلال الحفاظ على وجود كبير على الأرض وتأثير قوي على النظام.
وتتعرض سلطة إيران في سوريا اليوم للخطر بسبب غياب سليماني. فمن سيقود الميليشيات؟ ومن سيتفاوض مع الروس؟ ومن المهم الإشارة إلى الزيارة غير المخطط لها التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى سوريا مباشرة بعد اغتيال سليماني - أراد من خلالها إرسال رسالة إلى النظام الإيراني مفادها أن سوريا تحت سيطرة روسيا وأنه لا يجب على إيران التفكير حتى في مهاجمة أي قواعد أميركية في سوريا.
ويدل ذلك على التحديات التي ستواجهها إيران في سوريا في المستقبل. بالإضافة إلى ذلك، أصبح من الواضح أن الهلال الشيعي - بجسره البري - سينقطع بشكلٍ أو بآخر، خاصة حول الحدود العراقية السورية في مدينة البوكمال في دير الزور، الذي احتفل سليماني نفسه بتحريرها منذ وقت ليس ببعيد.
وسيواصل عملاء سليماني في سوريا تنفيذ خطته إلى حين حصول تحولات سياسية أو عسكرية تؤدي إلى خروج الجميع.
 
العراق
شغلت العراق الدور الأكثر إثارة في ملحمة إيران، حيث تم اغتيال سليماني هناك مع زعيم قوات الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس. ومع ذلك، لم تستطع إيران سوى مهاجمة القواعد العسكرية الأميركية على الأراضي العراقية دون التسبب في أي خسائر.
وفهمت إيران خط إدارة ترامب الأحمر. وبينما كانت وسائل الإعلام الإيرانية تحتفل بالانتقام «المنتصر» ضد الولايات المتحدة، كان يُقتل المزيد من الإيرانيين: فقد قُتل 56 إيرانيًا خلال تدافع في جنازة سليماني، ثم قُتل 176 شخصًا في تحطم الطائرة الأوكرانية.
وتبدو قيادة الحشد الشعبي العراقي اليوم مرتعبة ومنقسمة. وتردعهم تهديدات الولايات المتحدة بمزيدٍ من ردود الفعل العسكرية عن تنفيذ أي عملية انتقامية، ولكن قد يضعهم الضغط الإيراني على قيادتهم للرد في موقفٍ صعب.
ومهما كان رد فعلهم، ستبقى القيادة تواجه التحدي من خلال الاحتجاجات المستمرة في شوارع العراق والتي تزداد حدة من حيث الخطاب المناهض لإيران.
وتستطيع إيران الضغط لزيادة نفوذها داخل مؤسسات الدولة العراقية والتأثير بشكلٍ أكبر على تشكيل الحكومة.
ولكن أثبت الشارع العراقي نفسه على أنه أداة قادرة على فرض نفسها على ديناميات العراق السياسية، خاصة أنه بات واضحًا قرار الولايات المتحدة عدم سحب قواتها من العراق.
 
إيران
انطلقت مظاهرات متعددة في الشوارع الإيرانية وتحولت إلى احتجاجات مناهضة للنظام بمجرد اعتراف الحكومة بمسؤوليتها عن تحطم الطائرة الأوكرانية. ويواجه النظام الإيراني لأول مرة تحديات متعددة في إيران والعراق ولبنان معًا، ولا يبدو أنهم يملكون الكثير من الخيارات لمواجهة هذه التحديات.
وتعتبر هذه الأزمة بالنسبة للنظام الإيراني الأسوأ حتى اليوم ويبدو أنه يتعثر بغياب سليماني لإيجاد خطة للحل. وتزداد هذه الأزمة عمقًا مع استمرار الاحتجاجات في إيران والعراق ولبنان.
على الرغم من أن اغتيال سليماني لم يكن على الأرجح جزءًا من استراتيجية أميركية جديدة للمنطقة، إلا أن العملية قد تسببت ببدء عصرٍ جديد في الصراع الأميركي الإيراني إذ سيستمر الضغط الأميركي مصحوبًا بوجود عسكري قوي وزيادة الردع الإيراني. 
ومن المؤكد أن النظام الإيراني قد تزعزع منذ لحظة اغتيال سليماني. وعلى الرغم من خطابه المنتصر ونظريات المؤامرة التي يتحدث عنها، إلّا أنه يعرف جيدًا أن أي عملية تطال المصالح الأميركية في المنطقة أو في أي مكان آخر ستؤدي إلى رد فعل مدمر. ويشل الردع الأميركي والاحتجاجات الداخلية إيران ويحد من خياراتها، فلا خيار يبدو جيدًا في هذه المرحلة.
* حنين غدار: زميلة زائرة في زمالة فريدمان الافتتاحية في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى
 

font change