النظام الإيراني ... سلسلة من الأكاذيب والتصريحات المتناقضة

بعد إسقاط الطائرة الأوكرانية

النظام الإيراني ... سلسلة من الأكاذيب والتصريحات المتناقضة

* لم يستطع أركان النظام الاستمرار في الكذب على الشعب الإيراني والرأي العام جراء الضغوط الخارجية، خاصة المتابعة الجادة للحكومات الأوكرانية والكندية والأميركية
* إذا كان إطلاق الصاروخ خطأ بشريا وأن المسؤول في نظام الدفاع الجوي لم يكن أمامه إلا 10 ثوان ليقرر إطلاق الصاروخ أو إلغاءه فما الذي يبرر إطلاق الصاروخ الثاني؟
 


طهران: لم تمض ساعات كثيرة على الهجوم الصاروخي للحرس الثوري على قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق حتى سقطت صباح الأربعاء (8 يناير/ كانون الثاني) طائرة ركاب أوكرانية من طراز «بوينغ 737» بعد أن أصابها صاروخ تابع لنظام الدفاع الجوي الإيراني مما أدى إلى مصرع كل من كانوا على متنها، وعددهم 176 شخصًا منهم 146 إيرانيًا. وكانت رحلة الخطوط الجوية الدولية الأوكرانية 752 مجدولة من طهران إلى كييف وتديرها الخطوط الجوية الدولية الأوكرانية.
وتحطمت الطائرة الأوكرانية بعد أقل من 6 دقائق على إقلاعها من مطار «الإمام الخميني» الدولي في طهران في منطقة «شاهد شهر» في مدينة شهريار في محافظة طهران.
وجاءت الضربات الصاروخية الإيرانية تنفيذا لمشروع «الانتقام القاسي» الذي أطلقه المرشد علي خامنئي انتقاما لمقتل القائد السابق لفيلق القدس.
 
ويستمر النظام في نفي الحقائق لمدة 3 أيام
في البداية قام كبار المسؤولين والقيادات العسكرية في القوات المسلحة بنظام الجمهورية الإسلامية بنفي فرضية إسقاط الطائرة الأوكرانية قائلين إن الطائرة تحطمت بسبب خلل فني. وهؤلاء القيادات والمسؤولون هم الذين نفوا قبل شهرين قمع الاحتجاجات التي اندلعت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 وكذبوا بشأن عدد القتلى والجرحى جراء الاحتجاجات. وكان هؤلاء المسؤولون وكبار القيادات العسكرية في الجمهورية الإسلامية على علم بالسبب الحقيقي وراء تحطم الطائرة الأوكرانية التي راح ضحيتها 176 من الأبرياء وكانوا يعلمون أنها أسقطت بفعل صاروخ تابع لنظام الدفاع الجوي.
 
وفي الوقت الذي احتفل فيه كبار مسؤولي الجمهورية الإسلامية لمدة 3 أيام بسبب هجومهم الصاروخي على القواعد الأميركية في العراق فقد بذلوا قصارى جهدهم لطمس الحقائق وقلبها بشأن الطائرة الأوكرانية. وقاموا بنفي فرضية إسقاط الطائرة من قبل نظام الدفاع الجوي للحرس الثوري واعتبروها «كذبة كبيرة» و«حملة نفسية ودعائية معقدة مناهضة لإيران».
ولم يستطع أركان النظام الاستمرار في الكذب على الشعب الإيراني والرأي العام أكثر من ذلك جراء الضغوط الخارجية خاصة المتابعة الجادة للحكومات الأوكرانية والكندية والأميركية وتقديم وثائق حول إسقاط الصاروخ للطائرة.
وفي النهاية اضطرت هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية إلى الإقرار بالحقيقة ولكن بكثير من التناقض، حيث اعتبرت أن السبب في وقوع هذه الكارثة هو مجرد «خطأ بشري» و«غير متعمد».
تجدر الإشارة إلى أنه ورغم التقييم الأمني لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة حول احتمال وقوع هجوم أميركي ردا على الهجمات الصاروخية التي شنها الحرس الثوري على قواعد أميركية في العراق ووضعها على أهبة الاستعداد فلم يتم إلغاء الرحلات الجوية في المطارات في طهران بل وكانت تسير الهيئة العامة للطيران المدني رحلاتها بشكل روتيني.
إلى ذلك، قال نائب رئيس لجنة العمران والبناء في البرلمان الإيراني أبو الفضل موسوي بيوكي إن «الطائرة الأوكرانية أخذت الإذن 3 مرات للإقلاع من نظام الدفاع الجوي الإيراني».
ونشرت جريدة «شرق» تقریرا حول الموضوع لفتت فيه إلى أمر يدعو للتأمل. وقال التقرير: «إذا نظرنا إلى ارتفاع الطائرة وسرعتها نرى أن سرعة الطيران الأخيرة التي تم تسجيلها للطائرة الأوكرانية هي 510 كيلومترات في الساعة وهو ما لا ينطبق أساسا مع سرعة المقاتلات الحربية والعسكرية. ثم إن أنظمة الدفاع الجوي بإمكانها التمييز بين الطائرات المدنية والحربية وهذا ما ينفي إسقاط الطائرة من قبل نظام الدفاع الجوي».
وفي الوقت الذي ظل فيه كبار المسؤولين الإيرانيين ينكرون إسقاط الطائرة من قبل نظام الدفاع الجوي الإيراني فإن تصريحات حاجي زاده قائد القوة الجوفضائية وهي المؤسسة التي تشرف على نظام الدفاع الجوي للحرس الثوري تشير إلى أنه هو وكل كبار المسؤولين في النظام كانوا يعلمون منذ البداية بحقيقة إسقاط الطائرة من قبل صاروخ كروز أي بعد الهجوم الصاروخي على القواعد الأميركية.
وينص الدستور الإيراني أن آية الله خامنئي القائد العام للقوات المسلحة يمنحه صلاحيات واسعة أكبر من أي مسؤول في الجمهورية الإسلامية. وبناء عليه فإن خامنئي أدلى بتصريحات في مدينة قم يوم 17 يناير (كانون الثاني) أي نحو 6 ساعات بعد تحطم الطائرة الأوكرانية. وركز خامنئي في تصريحاته على مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني وتحدث عن الحزن والألم على فراقه ولكنه لم يبعث برسالة حزن على ضحايا الطائرة المنكوبة.
ولم يبعث خامنئي برسالة تعزية لأهالي ضحايا الطائرة الأوكرانية إلا بعد أن خيمت أجواء الحزن والصدمة على المجتمع الإيراني وأعلنت هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة في بيان لها أن الطائرة أسقطت بفعل «خطأ بشري». ودعا خامنئي خلال رسالة إلى متابعة «أوجه القصور أو الإخفاقات المحتملة» التي أدت إلى الحادث.
وألقى خامنئي صلاة الجمعة يوم 17 يناير وذلك لأول مرة بعد 8 سنوات. وجاء خطابه في صلاة الجمعة في الوقت الذي تزايد فيه الاستياء الشعبي والاحتجاجات المناهضة للنظام في إيران. ولم يقدم خامنئي هذه المرة أيضا اعتذارا رسميا بشأن إسقاط الطائرة الأوكرانية بل واكتفى بالتطرق إلى هذه الكارثة بشكل مختصر للغاية وقدم شكره لقيادات الحرس الثوري بسبب توضيحاتهم حول إسقاط الطائرة.
وأعرب خامنئي عن استيائه بشأن عدم الاهتمام بـ«الأيام التاريخية والحساسة في الفترة الأخيرة» والتي وصفها بـ«أيام الله». والمقصود هو تشييع جثمان قاسم سليماني والهجوم الصاروخي الإيراني على القواعد الأميركية في العراق.


 
الغضب الشعبي
أثار حادث إسقاط الطائرة وكذب النظام بأكمله لبضعة أيام حول أسباب وقوعه ومحاولة إخفاء الحقيقة ومن ثم إقرار كبار المسؤولين والقيادات العسكرية بإسقاطها، موجة من الغضب والاستياء لدى الشعب وأسر ضحايا الطائرة.
وقد نزل المحتجون الغاضبون في كثير من المدن على غرار طهران وبابل وشيراز وأصفهان وهمدان إلى الشوارع مساء 11 يناير وانضم الطلاب في عدد من الجامعات إلى الحركة الاحتجاجية. وأطلق المحتجون هتافات مناهضة لخامنئي والحرس الثوري وأركان النظام. وتميزت الموجة الاحتجاجية الأخيرة بانضمام الطبقة الوسطى إلى المحتجين من الطبقات الفقيرة في المجتمع الإيراني.
وردا على الاحتجاجات الشعبية الواسعة المناهضة للنظام والتي طالت الإيرانيين المقيمين في خارج إيران فقد انصب اهتمام الأجهزة الأمنية على الحؤول دون زيادة الغضب والاحتجاجات من قبل عائلات ضحايا الطائرة الأوكرانية المنكوبة. فمنعت الأجهزة الأمنية أسر الضحايا من التحدث مع وسائل الإعلام وفرضت قيودا على مراسم تشييع أحبائهم وفرضت عنوان «الشهيد» على ضحايا الحادث وغطت النعوش بعلم الجمهورية الإسلامية وحمل العساكر التوابيت.
وأفادت تقارير كثيرة نشرتها وسائل إعلام إيرانية بأن الجهات الأمنية قامت بتهديد عدد من أسر الضحايا المعارضة لتصرفات النظام بهذا الشأن ولم تسلمهم جثث أحبائهم. وأظهرت مقاطع الفيديو التي انتشرت في الشبكات الاجتماعية أن المشاركين في مراسم تشييع عدد من الضحايا يطلقون هتافات مناهضة للجمهورية الإسلامية.
وشهدت مراسم التشييع تواجدا أمنيا مكثفا للحؤول دون تزايد حدة الاحتجاجات. وأظهر مقطع فيديو حول مراسم دفن أحد ضحايا الطائرة الأوكرانية في مدينة همدان أن القوات الأمنية وأفراد الأمن من ذوي الملابس المدنية يقومون بدفنها في حين لم يسمحوا للأم الثكلى بالمشاركة في دفن ابنتها.
وقد وصلت وقاحة قيادات الحرس الثوري ذروتها بعد أن قال حاجي زاده قائد القوة الجوفضائية التابعة للحرس الثوري خلال لقاء مع والد امرأة قضت في حادث الطائرة الأوكرانية إن العدو قام بإسقاط الطائرة وسننتقم لدماء هؤلاء الشهداء وأبارك لك استشهاد ابنتك.
وفي الوقت الذي مارس فيه المسؤولون في نظام الجمهورية الإسلامية شتى أنواع التهديد والضغوط والتدخل في مراسم تشييع الضحايا ودفنهم بعنوان «الشهيد» فيبرز سلوك الحكومة الكندية الذي تميز بالإنسانية وتحمل المسؤولية. واتخذت الحكومة الكندية إجراءات كثيرة لمساعدة أهالي الضحايا منها منح مبلغ 25 ألف دولار لكل عائلة في قالب المساعدات في صدور التأشيرات الفورية وبقية المشاكل المالية الناتجة عن هذه الكارثة. وشارك جاستن ترودو في مراسم تأبين ضحايا تحطم الطائرة وقام بمواساة عائلات الضحايا.
مع ذلك، وكما كان متوقعا فإن كبار المسؤولين في النظام والقيادات العليا في الحرس الثوري والقوات المسلحة والرئيس روحاني لم يتحملوا مسؤولية هذا الخطأ الذي لا يغتفر ولا يمكن التعويض عنه، بل ولم يقدم حتى مسؤول واحد استقالته من منصبه ولم يقدموا اعتذارا ولو شكليا إلى الشعب الإيراني وعائلات 176 شخصا ممن فقدوا أرواحهم في الحادث. واكتفوا جميعا بالتعبير عن الأسف والتعزية.
وأظهر فيديو آخر إطلاق صاروخين من قبل نظام الدفاع الجوي الإيراني على الطائرة الأوكرانية خلال 30 ثانية وتغيير مسار الطائرة بعد إصابتها بالصاروخ الأول، حيث تتجه إلى المطار وهذا ما رصدته الرادارات. فهنا يطرح سؤال هام نفسه وهو أنه إذا كان إطلاق الصاروخ خطأ بشريا وأن المسؤول في نظام الدفاع الجوي لم يكن أمامه إلا 10 ثوان ليقرر إطلاق الصاروخ أو إلغاءه فما الذي يبرر إطلاق الصاروخ الثاني؟
 

font change