الأزمة المالية تعصف بمستشفيات لبنان

شح في الأموال ونقص في الأدوية وغياب في الأجهزة الطبية الضرورية

الأزمة المالية تعصف بمستشفيات لبنان

* عدد من المستشفيات قد تعلن عجزها عن استقبال المرضى
* أطباء أمراض معضلة يحذرون من انقطاع العلاج والتراخي في حل الأزمة الطبية الحاصلة في لبنان

بيروت: منذ منتصف شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بدأت الرحلة اليومية لفرح لمرافقة والدتها إلى المستشفى لتلقي العلاج الإشعاعي. والدة فرح مصابة بسرطان الثدي.
السرطان فرض حضوره على الأسرة الصغيرة، حيث تم اكتشاف السرطان باكراً أي في مراحله الأولى، ولكن هذا لا يعني أن رحلة علاج الوالدة لم تكن شاقة ومرهقة معنوياً وماديا.
في 20 يناير (كانون الثاني) يوم كانت والدة فرح تتجهز لإجراء الجلسة السادسة أخبرتها الممرضة أن عطلاً طرأ على جهاز العلاج الإشعاعي ويحتاج الجهاز إلى عملية تصليح عاجلة. طلبت الممرضة منهما أن يتوجها إلى المنزل لينتظرا اتصالها في حال تم إصلاح الآلة بسرعة. انتظرا يوماً كاملاً ولم يأت الاتصال.
في اليوم التالي اتصلت الممرضة نفسها بفرح لتخبرها أن العطل الحاصل في الجهاز كبير، ويحتاج إلى وقت إضافي لإصلاحه. هكذا تحولت ساعات انتظار الأم وابنتها إلى أيام ولاحقاً إلى أسبوعين تاليين.
ليس واضحاً إلى الآن آثار هذا الانتظار في حالات أشد سوءاً من حالة المريضة. وبدورها، لم يهمل المستشفى الحكومي الأمر، فكان قد أجرى اتصالاته بشركة خارج البلاد وطلب منها إرسال قطعة تدعى المسرع الخطي. وصلت القطعة إلى بيروت بعد 9 أيام من توقف جهاز الأشعة عن العمل، ولكن ظلت القطعة المرسلة من الخارج، بضعة أيام إضافية في مركز البحوث الذرية الذي قام بفحصها للتأكد من عملها. خلال هذه الفترة شهدت مواقع التواصل الاجتماعي ضغطاً شعبياً، لمطالبة وزير الصحة اللبناني بالتدخل؛ لتعجيل تسليم القطعة إلى المستشفى، ولعب الضغط الشعبي دوراً حاسماً في وصول القطعة إلى المستشفى.
السرطان لا ينتظر إذن أحد كي يجتاح جسد الإنسان. مع الأزمة التي دخلتها لبنان على وقع انتفاضة 17 تشرين، خرجت إلى ضوء مشاكل عدة من بينها أزمة المصارف وانهيار العملة الوطنية مقابل العملة الأجنبية ولكن الثمن قضايا إنسانية لا يهتم الإعلام اللبناني لها، من بينها قضيّة المصابين  بالأمراض المستعصية وكيف تلقي الأزمة اللبنانية أثقالها عليهم وعلى أسرهم.
مرضى السرطان في لبنان ضحايا النظام اللبناني المتآكل. ففي لبنان تستورد معظم المستشفيات المعدات والأدوية من الخارج، وفي ظل الأزمة المالية الخانقة المتمثلة بارتفاع سعر صرف الدولار مقابل انخفاض قيمة الليرة أصبحت عملية استيراد الموارد الطبية صعبة جداً، ليقع مرضى السرطان ضحية، فلا يعيلهم أحد على مواجهته رغم التطمينات الصادرة عن وزارة الصحة اللبنانية.
ما حصل مع فرح ووالدتها ليس حدثاً استثنائياً، فعدة مستشفيات لبنانية بحسب ما كشفته مصادر خاصة لـ«المجلة»، تعاني من مشاكل عدة على صعيد المعدات الطبية، وتواجه صعوبات في توفير السيولة المادية لشراء القطع البديلة، بالإضافة إلى إهمال الدولة للقطاع الصحي.
في الوقت نفسه لم ينف وزير الصحة اللبناني جميل جبق خوفه من أن تؤثر الأزمة اللبنانية على القطاع الصحي من ناحية المعدات الطبية بينما قال إن الأدوية المخصصة للأمراض المستعصية مؤمّنة إلى شهر كامل.
في لبنان تختلف تكلفة العلاج الإشعاعي بين المستشفيات الخاصة والمستشفيات الحكومية. نسبة كبيرة من اللبنانيين يتعالجون على حساب الدولة، إذ تقوم وزارة الصحة بتغطية كمية معيّنة من المبلغ بينما يكون على المريض دفع باقي المبلغ. هذا المبلغ الذي يبقى على عاتق المواطن قد يصل إلى 500 دولار، وهو مبلغ باهظ نسبياً في حال مقارنته مع القدرة الشرائية في لبنان وصولاً إلى الحد الأدنى من الأجور. من جهة أخرى يساهم الضمان الاجتماعي في تغطية تكلفة العلاج ولكن السيدة ميرا قالت لـ«المجلة» إن والدها مصاب بسرطان الرئة درجة رابعة وإن الطبيب وصف له العلاج المناعي. تكلفة الجرعة المناعية التي يحتاجها والدها يصل ثمنها إلى 16 مليون ليرة لبنانية أي عشرة آلاف وسبعمائة دولار حسب سعر الصرف القديم، ولكن بحسب سعر الصرف الجديد لليرة سيصل ثمنها إلى 20 مليون ليرة. تقول ميرا إن المستشفى الذي يتعالج فيه والدها يرفض وضع الجرعة على حساب الضمان الصحي لأن الأخير يقوم بدفع فواتير المستشفى كل سنة وهو ما ترفضه الشركة التي تؤمن الجرعات، بحسرة تقول ميرا إن الحل الحالي أمامها هو أن تبيع سيارتها لتأمين ثمن الجرعة الأولى ولكن والدها يحتاج إلى 12 جرعة أي إن علاجه المناعي يتجاوز ثمنه 140 ألف دولار.
 
أزمة جرعات السرطان
هناء، امرأة تبلغ من العمر 36 عاماً، اكتشفت إصابتها بسرطان الثدي بداية عام 2019. كانت رحلة علاجها شاقة جداً، أخذت 12 جرعة كيميائية، ولاحقاً خضعت إلى عشرات الجلسات الإشعاعية، وبعدها أجرت استئصالاً للثدي لتخضع لاحقاً لجولة علاج جديدة متمثلة بأخذ 10 جرعات إضافية من الهرسبتين وهو دواء تأخذه المرأة المصابة بسرطان ثدي تكون الخلية السرطانية حاوية على مستقبلات الهرمون هير-2.
رحلتها مع جرعات الهرسبتين كانت مختلفة تماماً عن رحلة علاجها الكيميائية والإشعاعية. تقول هناء لـ«المجلة» إن مركز الوزارة في منطقة الكارنتينا تأخر أكثر من مرة عن توفير الجرعات، وكان التأخير يصل إلى أكثر من أسبوعين ليتبيّن لاحقاً أن هناك نقصاً في الجرعات المستوردة. هذا التأخير ليس من صالح مرضى السرطان خصوصاً أن هناء تعاني من سرطان درجة ثالثة، ومن نوع هير-2 الذي يعد طبيا من أخطر أنواع السرطانات.
خلال فترة انتظار هناء للجرعة كتب زوجها منشوراً قال فيه إن خلال فترة انتظار زوجته توفر الجرعات في مكاتب الوزارة، قام زوجها بالاستفسار عن ثمن الجرعة في لبنان لشرائها مباشرة من الصيدليات اللبنانية، ليكتشف الزوج أن ثمنها يبلغ 3 آلاف دولار، وهو مبلغ يفوق قدرته المالية خصوصاً أن المرأة تحتاج إلى الجرعة كل 21 يوماً.
تنفي الوزارة حصول نقص في أدوية الأمراض المستعصية، ويصرح الوزير أسبوعياً لطمأنة المرضى عن الأدوية، وفي المرة الأخيرة أكد جبق أن لبنان على موعد مع مناقصات استيراد الأدوية، وقال جبق إن الأدوية السرطانية موجودة في مستودعات الوزارة بكميات تكفي إلى 31 يناير (كانون الثاني). حالياً تستعد هناء إلى مغادرة لبنان لاستكمال علاجها في أنغولا مكان إقامة زوجها.
 
مستشفيات لبنان على مشارف أزمة كبرى
كان متوقعاً أن تعلو صرخة المستشفيات اللبنانية نتيجة نقص المعدات الطبية والأدوية في أواخر شهر فبراير (شباط) القادم، ولكن المستشفيات وصلت إلى أزمة حادة سببها عجز الدولة والضمان الاجتماعي ووزارة الصحة عن تغطية النفقات الطبية التي تحتاجها المستشفيات. في 14 يناير (كانون الثاني) أعلن مستشفى المقاصد توقفه عن استقبال المرضى بسبب الشح المالي، وما أقدم عليه مستشفى المقاصد قد تقوم به عدة مستشفيات في الأسابيع المقبلة في حال لم يضع المعنيون خطة طوارئ للقطاع الصحي.
بدورها الناشطة سحر بالوط التي تواكب ملفات طبية كثيرة لمرضى يعجزون عن تأمين الدواء ومستحقات العلاج، كتبت قبل أيام على صفحتها أن هناك نقصا حاصلا لدى المستشفيات في تأمين خيوط تقطيب الجروح.
الجراح اللبناني حيدر ناصر كان قد نشر في صفحته على «فيسبوك» فيديو تحدث فيه عن أن مستشفيات لبنان مقبلة على أزمة صحية كبيرة جداً. قال الطبيب في الفيديو إن المستشفيات تعجز عن استقبال المرضى، وبدأت تفقد أدنى المستلزمات للقيام بالعمليات الجراحية للحالات الحرجة. يعود سبب النقص الطبي إلى أن لبنان دولة تستورد مستلزماتها الطبية من الخارج، مثل الفلاتر التي تستخدم لغسل الكلى، ووسائل الجراحة المنظارية. يرى دكتور ناصر أن السبب هو الأزمة المالية التي تعاني منها لبنان. يضيف الطبيب في الفيديو أن الصحافيين لا يمنحون معاناة القطاع الصحي أي رعاية إعلامية.
ولا يمكن إلقاء اللوم الكامل على الأزمة التي يواجهها القطاع الصحي فقط على أكتاف وزير الصحة لأن نسبة 10 في المائة فقط من اللبنانيين يتعالجون على حساب الوزارة، وبالتالي تتحمل الخزينة اللبنانية مسؤولية ما قد يواجهه القطاع الصحي في الأشهر المقابلة.


 

طبيبة الأورام الخبيثة أمل ناصر


وكان لـ«المجلة» حديث مع طبيبة الأورام الخبيثة أمل ناصر، المتخصصة في سرطان الثدي والجهاز الهضمي، وسألت «المجلة» الطبيبة عن مضاعفات عدم أخذ جرعات الكيمو في موعدها، فقالت الطبيبة أمل ناصر: «بداية كي نفهم أهمية الالتزام بأخذ جرعات العلاج الكيميائي في موعدها، علينا أن نفهم ما يحدث على صعيد الخلية السرطانية. ينتج السرطان عن وجود تلفٍ متكرّر في الحمض النووي DNAالذي يحتوي على التعليمات الوظيفية لخلايا الجسم البشري».
يشهد لبنان تلوثاً بيئياً فادحاً، فمياه الصرف الصحي تصب أغلبها في مياه الأنهار والبحار، كذلك لم تجد الحكومات المتعاقبة حلاً لأزمة النفايات المتراكمة في المناطق، لذلك تقول أمل ناصر إن السرطان في بعض الأحيان ينتج عن «عوامل بيئية».
التدخين من الآفات التي يعاني منها المجتمع اللبناني، إذ تزدهر المقاهي والمطاعم التي تقدم النرجيلة وتسمح بالتدخين ولا توجد سياسات صارمة تمنع التدخين في الأماكن العامة مع العلم أن هناك قوانين أقرت قبل سنوات ولكنها بقيت حبراً على ورق، فبحسب قول الطبيبة من أسباب انتشار السرطان في لبنان «تدخين التبغ».
وعندما تتراكم الأضرار مع مرور الزمن، فإنها «تؤدّي إلى تلف الحمض النووي مُحدِثة خللاً في دورة الانقسام الخلوي الطبيعي فتتوقف الخلايا عند مراحلها البدائية وتبدأ في التكاثر بشكل فوضوي خارج السيطرة من دون توقّف».
هكذا يبدأ السرطان في أي عضو من أعضاء الجسد، ومن هنا أُطلِقَت عليه تسمية المرض الخبيث بسبب سلوكه الفوضوي التخريبي غير المتوقّع، ويتمظهر في أنواع لا حصر لها، العلاج الأساسي لمرض السرطان هو العلاج الكيميائي، الذي يتلقاه المريض على جرعات متلاحقة متباعدة على فترة زمنية محددة حسب البروتوكول المُعتَمَد لكل حالة، حيث إن كل مريض لديه خاصيّة مختلفة عن غيره من حيث نوع السرطان، فبعض البروتوكولات متباعدة كل 3 أسابيع بينما هناك بروتوكولات تتباعد الجلسات أسبوعا واحدا أو أسبوعين، والأهميّة الأكبر هي الالتزام بالتوقيت المحدد لكل جلسة من حيث نتيجة التجاوب مع العلاج.
تبين الطبيبة أمل ناصر: «يحدث تأخير في بعض الأحيان لظروفٍ تتعلّق بالعوارض الجانبية للعلاج الكيميائي بحد ذاته مثل الحمّى المصاحبة لنقص في المناعة، ولكن حتى هذا التأخير يكون ضمن فترة زمنيّة محدّدة لا تتجاوز الأسبوع، لكن ما يحدث الآن في لبنان نتيجة الوضع الاقتصادي المتدهور والذي بدوره أثّر على القطاع الصحي، ونتج عنه تأخير بوصول الجرعات لمرضى السرطان لا ريب أن يؤثر سلباً على هؤلاء المرضي خاصة فيما يتعلّق بالمحصّلة النهائية للجلسات العلاجية، حيث إن مفعولها هو مفعولً تراكمي تسلسلي فالعلاج في الوقت المناسب يقلّل من خطر إنتشار السرطان ويزيد من فرص البقاء على قيد الحياة كما يخفّف من احتمال انتكاس المرض».
الطبيبة ناصر قدمت لـ«المجلة» أرقاما موثقة عن نسبة انتشار السرطان في لبنان، واستناداً على الإحصائيّات العلميّة فإن أكثر أنواع السرطان انتشاراً في لبنان هو سرطان الثدي حيث يأتي في المرتبة الأولى بنسبة 18.6 في المائة يليه سرطان المثانة في المرتبة الثانية بنسبة 10.5 في المائة ويأتي سرطان الرئة في المرتبة الثالثة بنسبة 9.5 في المائة.
 
تقطع العلاج الإشعاعي
أغلب أجهزة الأشعة في لبنان تبذل جهداً يفوق قدرتها، إذ إن عددا من المستشفيات لا تحتوي على أجهزة العلاج الإشعاعي، في المقابل هناك ضغط كثيف على المستشفيات التي تحتوي على الجهاز، من جهة أخرى فإن معظم المستشفيات التي توفر العلاج الإشعاعي تمتلك آلة واحدة ويوجد عدد قليل من المستشفيات التي تحتوي على الاثنين.
كثافة الضغط على أجهزة العلاج الإشعاعي يعرضها لأعطال مستمرة وفي الظروف التي تمر بها لبنان بأزمة شح الأموال تصبح الأعطال التي تحصل مع الأجهزة قاتلة بالنسبة لمرضى السرطان.

 

الدكتور إبراهيم الدهيني


الدكتور إبراهيم الدهيني، الفيزيائي الأول ومسؤول قسم السلامة الإشعاعية في المستشفى الحكومي في بيروت، قال لـ«المجلة» إن «العلاج الإشعاعي يستخدم لقتل الخلايا السرطانية ومنع انقسامها ونموها».
يؤكد الطبيب أن تأخر المريض في حصوله على العلاج الإشعاعي في الوقت الصحيح يؤثر سلباً على صحة المريض واستقراره الصحي».
 ويبين الدهيني أن تقطع مراحل العلاجً ليس سليماً أبداً، ويجعل العلاج غير فعال، وهناك احتمال أن تنتكس صحة المريض وأن يعود السرطان للنمو مجدداً، وفي حال انقطاع العلاج الإشعاعي يقوم الطبيب الفيزيائي برفع الحزم الإشعاعية للمريض في الجلسات القادمة.

font change