قصة حياة حلم وتاريخ ومهنة

قصة حياة حلم وتاريخ ومهنة

اكتشفت فجأة أنني قضيت في هذه المهنة اكثر من ثلاثين عاما، سبب المفاجأة لأن شعوري الآن وكأنني بدأت للتو عملي الصحفي، وأنه مازال علي أن أثبت نفسي وجدارتي بأن أحمل لقب صحفي -أو صحافي- كما يقول إخوتنا أهل الشام. تاريخي المهني -ان جازت عليه صفة التاريخ- بدأ بحلم العمل في "المجلة"، كنت في الجامعة وقت أن صدر العدد الأول لها، أناقاتها وعمقها وتفردها بين المجلات العربية التي كانت موجودة في تلك الأيام خلق رباطا بيني وبين هذه المجلة منذ صدورها، أذكر أنني من بين الذين اشتروا عددها الأول رغم تأثير ذلك على ميزانية الشهر وقتها، وجدت فيها منذ اللحظة الأولى المكان الذي من خلاله يتحقق حلمي في أن أمارس المهنة التي اخترتها رغم تحفظ والدي -رحمهما الله- الذي كان حلمهما أن أكون طبيبا، لكنهما احترما اختياري رغم ما جره وقتها عليهما من قلق ظل ملازما لهما حتى توفاهما الله.
عندما سألني المحاضر في احدى قاعات الدرس ان كنت أريد أن أعمل في"المجلة" بعد أن أنهي دراستي لم أصدق السؤال ولكن انطلقت الاجابة بالتأكيد. مر أكثر من عام بقليل وكنت قد انتهيت للتو من امتحانات البكالوريوس حتى علمت أن المحاضر الذي سألني من قبل يريد أن يراني لأعمل معه في المجلة التي كان مديرا لمكتبها في القاهرة في ذلك الوقت، كان ذلك أكبر من أن أصدقه وقتها، ولكني وجدت نفسي منتسبا لمكان حلمي بالعمل قبل أن تظهر نتيجة الامتحانات.
في مرحلة تالية كان علي الاختيار بين أن أستمر في العمل في "المجلة" أو أن أعمل في إحدى المؤسسات الصحفية القومية، وكان اختياري الاستمرار للعمل في المكان الذي لم يضع لي حدودا في عملي الصحفي رغم كوني في بداية الطريق، هذا شجعني حتى أنني كنت أحاول أن أجد وسيلة لاستمر في العمل وقت خدمتي في الجيش بطريقة أو بأخرى، وهو أيضاً المكان الذي لم يقصر علي مجالا ضيقا، فقد تمكنت في الأشهر الأولى أن أجري أول لقاء صحفي على الاطلاق مع السيدة جيهان السادات بعد وفاة زوجها، وكان ذلك في استراحتها بالمعمورة بمدينة الاسكندرية، وفي هذا اللقاء كانت بداية اعادة النظر من جانبي في تقييم أنور السادات الدور والشخص الذي كنت اعتبر نفسي من أكثر معارضيه، الا أن الحب الذي حملته هذه السيدة له دفعني لإعادة قراءة مواقفه، فلا يمكن لشخص قادر أن يدفع انسانا لأن يحبه آخر بهذا القدر الا اذا كان لديه جوانب جديرة بهذا الحب، وكان هذا هو الدرس العملي الأول، لا مجال للأحكام المطلقة، كل الامور في الدنيا لها على الاقل وجهان.
لم أغضب لعدم وضع اسمي على حوار جيهان السادات، فرحتي بنشره كانت أكبر من أن أغضب من الشخص الذي عرض علي تنفيذ وعده منذ أكثر من عام في تحقيق حلمي بالعمل في "المجلة" وكان هذا هو الدرس الثاني، لا يمكن إدراك كل ما نريد من الدنيا.
سريعا أصبحت مديرا لمكتب "المجلة" بالقاهرة، وكان من اسباب غروري المهني وقتها أن يصلني الخبر بمصادرة عدد "المجلة" من الرقابة على المطبوعات في مصر بسبب موضوع لي، ووصل الأمر الى حد مصادرة تسعة أعداد متتالية بسبب موضوعات لي. ليس هذا وحسب بل كان من بين ما أتاحته لي "المجلة" أن أكون شاهدا على انتفاضة السودان عام 1985 وأن أكون أيضا شاهدا عام 1989على انقلاب الاسلاميين الذين لم نعرف أنهم اسلاميون الا بعد فترة طويلة.
كما أن "المجلة" هي الجزء الأقرب الى نفسي من تاريخي المهني، فان الجزء الأهم من تاريخ "المجلة" ككيان صحفي هي الفترة التي تولى رئاسة تحريرها الصديق العزيز عبد الرحمن الراشد الذي استطاع بالفعل أن يجعل من هذه المطبوعة نموذجا صحفيا راقيا لا يقل عن مثيله من المطبوعات في أي من أنحاء العالم، استطاع عبد الرحمن أن يخلق أجواء جعلت كل من يعمل يشعر بالانتماء الشديد للمكان والمهنة والشخص، هذه الحالة صعبت كثيرا على أي كان سيأتي بعده. خلال الفترة التي عملت فيها في لندن وقت رئاسة الراشد كانت من أكثر الفترات غنى في حياتي، ولن تكفي المساحة المتاحة لذكرها، ولكن من أكثرها اقترابا الى نفسي تلك الرحلة التي قمت بها الى البوسنة وقت الحرب هناك، أو اللقاء الأول في العالم مع متهمي "لوكربي" في طرابلس وقتها الأمين فحيمة وعبد الباسط المقرحي رحمه الله، وغيره الكثير من الموضوعات، ولكن أكثر ما أعتقد أنه كان اضافة حقيقية باب "قضايا وردود" الذي تصدر صفحات المجلة، واخترت له شعارا ما قاله الامام الشافعي "رأيي صحيح يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، ومن أتى بأفضل منه قبلناه". ومن خلال هذا الباب طرقنا قضايا وموضوعات لم يكن يصدق انسان وقتها أن تعالج بهذه الصراحة في الصحافة العربية، وكان السر البسيط هو اتاحة المجال للرأي والرأي الآخر بحق، وأظن أن "المجلة" كانت رائدة في هذا المجال في وقت مبكر. لذلك لو لم نفعل في "المجلة" في تلك الفترة سوى هذه الاضافة لكفتنا.
منذ عدة أيام زرت مكاتب المجلة في الدور الرابع من دار الصحافة العربية في لندن، والذي يشغله الآن الزملاء في "الشرق الأوسط" ورغم مرور السنين انتابني ذلك الشعور بالحنين للمكان والأشخاص الذين كانوا فيه والذين أظنهم يشاركونني الآن سعادتي بعودتها  كنسخة ورقية.

font change


مقالات ذات صلة