كورونا.. وباء السجن الاتصالي!

كورونا.. وباء السجن الاتصالي!

* ماذا لو ضرب منظومة الاتصال الرقمي «فيروس كورونا رقمي» مسبباً انهياراً شاملاً لسقف السماوات الاتصالية الرقمية واعتلالاً لأجساد الحزم الخوارزمية السيبرانية... بالتوازي مع تفشي كورونا (COVID-19) في الأجساد البشرية على امتداد المعمورة المعتلة؟!

يثير التتبع التأملي وما يستتبعه من محاولات تأويلية لسياق الكارثة الصحية الإنسانية التي ضرت منظومة الأمن الصحي للبشرية خلال الربع الأول من هذا العام 2020 عبر وباء كورونا (COVID-19) استفهامات الامتداد لمنظومة الخسارات التي لم يتكشف منها بعد سوى رأس جبل الجليد اقتصاديا وسياحيا وثقافيًا وغيرها... إلا أن أحد أهمها يمثله سؤال الخسائر الاتصالية الإنسانية الكبير..
وفق المعيار الاتصالي إزاء التأثيرات الصحية التي فرضت حجرًا وعزلاً طال الأفراد والشعوب والنشاطات... فإن تجليات تفشي فيروس كورونا (COVID-19) لم تقف عند حدود الوباء الصحي فقط... بل تعدت ذلك حتى باتت وباءً اتصاليًا فرض حجورات وعزولات اتصالية قطعت التواصلات وأمرضت الاتصالات؛ بدءاً باتصالات البين شخصية التي أصبح يفصلها عن بعضها مسافة المتر ونصف المتر أو أكثر، ناهيك عن انكماش اتصاليات اللمس كالتحية وغيرها.. وكذا الاتصال الجمعي مثل قاعات الدرس وخطب الجمعة التي تم تعليقها... وأيضًا الاتصالات الجماهيرية في المناسبات الرياضية ونحوها حين حُرم الجماهير من حضورها... أما أحدثها فهو فرض الحجر والعزل الاتصالي فيما بين الشعوب والثقافات حين صنفت بعض الدول على أنها دول موبوءة يمنع السفر منها وإليها...
هذا الحجر الاتصالي الذي سببه وباء كورونا (COVID-19) يحمل انعكاسات اتصالية غاية في الخطورة تطال منظومة الروح المعنوية الإنسانية شخصيًا وجمعيًا وجماهيرًا وشعوبيًا... في صورة تهاوت عندها الأشكال الاتصالية الإنسانية السالف ذكرها (البين شخصي والجمعي والجماهيري والشعوبي والثقافاتي) بل حتى الاتصالية الرقمية التي تجلت عبرها آثار الدمار المعنوي والوجداني والمشاعري... حتى بات هو الآخر أي فضاء الاتصال الرقمي اتصالاً مريضًا بانعكاسات الوباء وطاقاته السلبية... ومع هذا يطل السؤال الأخطر في الظرف الراهن: ماذا لو ضرب منظومة الاتصالية الرقمية فيروس كورونا رقمي مسببا انهيارا شاملاً لسقف السماوات الاتصالية الرقمية واعتلالاً لأجساد الحزم الخوارزمية السيبرانية... بالتوازي مع تفشي كورونا (COVID-19) في الأجساد البشرية على امتداد المعمورة المعتلة؟!
هذا المنعطف الخطير الذي ضرب عصب الحياة الإنسانية الأساسي وهو الاتصال... يعيدنا إلى جوهرية النشاط الاتصالي في منظومة النظام الكوني ككل، انطلاقًا من قاعدة: أصل الحياة الاتصال وما عداه يأتي تاليًا له... بدءاً باتصالات الطبيعة التي تجسدها مثالاً الشمس والنباتات عبر وسيط الأشعة وحدوث عملية التمثيل الضوئي النباتية... مرورًا بمنظومة الرمزيات الاتصالية الأولى في عصر الاتصال قبل اللفظي ثم الاتصالية الشفاهية ثم اتصاليات الكتابة بعد اختراع الطباعة وولادة مؤسسات الاتصال الجماهيري وأخير حاليًا العصر الاتصالي الرقمي... وما بينها تحدث اتصاليات أخرى مثل الاتصالية الماورائية والذاتية وعصر اندماجات الأشكال الاتصالية..
لقد مثل الاتصال شرطًا أصيلاً في رحلة بقاء النوع الإنساني وتطوره وتكيفه وفق الرؤية الداروينية على مستوى النوع البيولوجي وعلى مستوى المحيط السيكولوجي الفرداني الذاتي وعلى مستويات سوسيولوجيا السياقات والثقافات... ضمن أطر شرطية من التعاطي والتفاعل الاتصالي المستمر والتنامي... وفق القاعدة التي أصلتها المدرسة اللامرئية الفلسفية وهي قاعدة (لا يمكننا أن لا نتواصل) التي تعد في أصلها مسلمة كونية وفطرية... ومنها شيدت البشرية سيرورة القدسية الاتصالية وصيرورة حقوق التعبير وحرية التواصل والوصول والإيصال... مدفوعة بهمّين رئيسيين يمثلان بنية النظام الاتصالي الإنساني هما؛ الإتاحة الاتصالية والسرعة التواصلية... في إطار من التفاعلية المتنامية باطراد مستمر...
من هنا ليس بالإمكان أن نتخيل حيزًا حيًا دون اتصال... وهذا ما يدفع البشرية نحو صون البنية الاتصالية الإنسانية من مهددات انهيارها على النحو الذي أحدثه وباء كورونا (COVID-19) فالأمن الاتصالي هو شريان الحياة لجل الأنشطة الإنسانية الأخرى... وحين يصاب بمكروه فهذا يعني أن كارثة وجودية تطل برأسها، وأن آثارها لن تكون في إطار المتوقع فضلاً عن أن تكون تحت إجراءات السيطرة والاحتواء... لأن انكماش آفاق الاتصاليات الإنسانية هو انهزام وخذلان للذات العميقة أمام منجزها الاتصالي المبهر وارتداد حضاري صارخ... فكيف سيكون شكل الحياة التي عَمَرَها الاتصال بمختلف أشكاله... وهي تواجه تقييدًا بالأغلال والسلاسل والسجون والحجر والعزل... أظن أننا أمام لحظة شبحية فارقة مسكونة بأكوام من الدمار النفسي والاجتماعي والحضاري...
والحال اليوم يعبر عنها مثال بسيط ومباشر وهو عقوبة السجن... التي ما هي في حقيقتها سوى عقاب اتصالي يتم بمقتضاه حرمان السجين من الحق الاتصالي الوجودي مع محيط الحياة من حوله... وهذا هو القائم الآن بعد أن ضرب كورونا الكرة الأرضية بأكملها وحولها إلى سجن كبير يحوي بداخله سجونات أصغر فأصغر... تبدأ بسجن الشعوب داخل بلدانها الموبوءة ثم سجن الجماهير عن أنشطتها العامة ثم سجون الأفراد عن بعضهم البعض...
بقي الفضاء الاتصالي الرقمي المريض رغم اعتلاله بالروح المعنوية المنكسرة والطاقات السلبية المنتشرة بين الذوات الرقمية المتواصلة... جراء صناعة الخوف والهلع التي يتشاركها المستخدمون في البيئات الاتصالية الرقمية... ومع هذا فالخوف من كورونا رقمي يودع البشرية السجن الرقمي الكبير... ويقضي على ما تبقى من العافية الاتصالية الإنسانية والحياة ككل...
• فاصلة التواصل:
الحياة اتصال... وحين ينتفي يبدأ العدم!

* صحافي سعودي، ومحاضر بكلية الإعلام والاتصال بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض
 

font change