أهل دمشق... أعزاء قومٍ استبد بهم الجوع

بين أزمة غذاء ومحروقات وليرة... ثم دواء

استطاعت دمشق عزل نفسها عن معظم المواجهات والعنف المسلح، الأمر الذي حوّلها إلى رمز لـ«صمود الأسد وقواته»، لكنها في الواقع احتلت المرتبة الأخيرة لأكثر مدن العالم التي يمكن الاستمتاع بالعيش فيها (أ.ف.ب)

أهل دمشق... أعزاء قومٍ استبد بهم الجوع

* خلال الأيام الماضية انتشرت إعلانات كثيرة لبيع كلى بسبب الحاجة فقط
معدل الفقر الإجمالي بلغ ذروته عند 89.4% في نهاية العام 2016
بعد انخفاض سعر صرف الليرة بهذا الشكل المرعب، أصبح البيع يعود بالخسارة، الأمر الذي تستحيل معه القدرة على تعويض المباع وشراء بضائع جديدة
بثينة شعبان، مستشارة الرئيس الأسد، تطالب الشعب بالصمود والثبات في وجه التدهور المرعب الذي حلّ بالليرة
الأزمة هي اختلاف على سعر صرف الدولار، فقد ألزمت الحكومة الشركات بتسعير الدولار عند 700 ليرة، لكن السعر تجاوز في السوق الموازية 2800 ليرة لأول مرة في تاريخه وقارب 3800 خلال الأيام الماضية 
* متوسط راتب موظف حكومي جامعي يصل في أحسن أحواله إلى 60 ألف ليرة سورية، أي إنه يعادل 3 كيلوغرامات لحم غنم فقط
* حوادث الخطف بهدف طلب الفدية والسرقة والقتل بشكل علني وإفلات الجناة من العقاب في ظل غياب الرقابة باتت مادة دسمة للأحاديث الصباحية اليومية
أدى إغلاق المعامل إلى فقدان معظم أصناف الأدوية من الصيدليات، وإغلاق الكثير من الصيدليات أو اقتصار مبيعاتها على المطهرات والمعقمات المصنوعة محلياً، أما الأدوية المستوردة فقد ارتفعت أسعارها بشكل يعجز المواطن العادي عن شرائها
هنالك نقص كبير في الأدوية النوعية، حتى إن مستودعات نقابة الصيادلة «فارغة»لكن وزير الصحة أكد أنه «لا يوجد أي انقطاع لمادة دوائية»

لندن: أسواق مكتظة، شوارع تضج بالحياة، أشجار تعانق الأبنية العتيقة، أطفال يتراكضون في الساحات، زحمة مواصلات، تزاحم في المطاعم، وطلابُ جامعات ومدارس... هكذا تبدو دمشق منذ سنوات، عجيبة بمنطقها المقاوم، سنوات من الحربِ لم تسلبها مظهر الحياة، ولا زالت تتثاقل على عكّاز من الأمل.
ربّما تبدو الحياة طبيعية للناظر من بعيد، لكن الحقيقة معاكسة لذلك تماماً. دمشق اليوم مرهقة، تعبق فيها رائحة الجوع والموت والفقر والفاقة، أهاليها بالكاد يرشفون طعم الحياة، بل يرشفون طعم الموت أكثر منه كل يومٍ، ربما يهربون إلى الشوارع من البيوت المعتمة، التي أصبحت خانقة بمسؤولياتها وطلبات أهلها مقابل أيدٍ عاجزة، وتسمع في الشوارع أحاديثهم التي باتت تقتصر على غلاء المعيشة وصعوبة الحال والعجز أمام متطلبات الحياة.
أي متجول في شوارعها اليوم يقرأ في الوجوه المتعبة سنواتٍ من الحرب، وأزمات متلاحقة بين أزمة غذاء وأزمة محروقات وليرة ثم أدوية، أثقلت كاهل أغناهم، يهربون من أي حديث تتلاقى فيه الأعين. تقول راما: «أقسمُ أنني شاهدت جارَنا في إحدى حارات دمشق ينادي على بسطة لبيع الملابس، بعد أن دُمّر معملهُ في إحدى معارك ريف دمشق، ورحل عن المنزل الملاصق لمنزلنا ولم نسمع عنه شيئاً حتى اليوم».
 
رمز مزيّف للصمود
استطاعت دمشق عزل نفسها عن معظم المواجهات والعنف المسلح، الأمر الذي حوّلها إلى رمز لـ«صمود الأسد وقواته»كما يحلو للموالين للنظام القول، عبر توظيف مشاهد شوارعها للتدليل على استقرار الأوضاع، وقبضة النظام القوية القادرة على الحفاظ على الدولة من السقوط، كما يقول المسؤولون دومًا. لكنها في الواقع احتلت المرتبة الأخيرة لأكثر مدن العالم التي يمكن الاستمتاع بالعيش فيها في تقرير وحدة المعلومات التابعة لمجلة «الإيكونوميست»الاقتصادية المتخصصة.
معدّل الفقر المدقع- كمؤشر للحرمان من الغذاء- كان أقل من 1 في المائة في سوريا عام 2010، وخلال النزاع شهدت سوريا انتشاراً للفقر المدقع حتى بلغ 44.9في المائة عام 2016، بحسب تقرير «آثار النزاع السوري»الصادر عن المركز السوري للبحوث والسياسات، ويظهر التقرير أن معدل الفقر الإجمالي بلغ ذروته عند 89.4في المائة نهاية العام 2016 ، فقد أدت الزيادة في أسعار المواد الغذائية في مناطق مختلفة إلى تدهور قدرة الناس على تلبية متطلباتها اليومية

تحكي نور أن حليب الأطفال الذي كانت تجلبه لابنها ذي التسعة أشهر كان بسعر 2200 ليرة مطلع العام الجاري، لكنها تشتريه اليوم بسعر 4200، عدا عن أنّها نادراً ما تجده متوفراً، وتضطر للبحث عنه في محال عدة أو قد تسأل عنه في محافظات أخرى وتسعى لتأمينه، وعن أسعار اللحوم، اشترت كيلو لحم الغنم بـ19 ألف ليرة قبل أيام، مقابل 600 ليرة قبل 2012، وتقول: «قبل أيام اشتريت مستلزمات للبيت هي بالضبط 4 أنواع منظفات، زيت نباتي، جبنة، حفاضات، بمبلغ 42 ألف ليرة سورية». وتستطرد: «كلها منتجات وطنية، بالطبع لم يعد بالإمكان إطلاقاً الاعتماد على المنتج الأجنبي، للفرق الضخم في الأسعار، وقد وصل سعر الحفاضات الوطنية إلى 8500 ليرة بعد أن كانت بحوالي 3900 قبل شهرين، سعر قالب الجبنة 11700، مقابل 7000 ليرة قبل شهرين، كيلو الرز كان يسعّر بين 600 إلى 700 ليرة، واليوم اشتريته بـ1800 ليرة»،والقائمة تطول...
ولفهم ضخامة هذه الأرقام يكفي أن نذكر أن متوسط راتب موظف حكومي جامعي يصل في أحسن أحواله إلى 60 ألف ليرة سورية، أي إنه يعادل 3 كيلوغرامات فقط من لحم الغنم.
القطاعات الخدمية أيضاً تعاني مشاكل جمة، فالكهرباء والمياه تقطعان لفترات طويلة وأحياناً لأيام متتالية في بعض الأحياء، والازدياد الكبير في عدد السكان والناجم عن نزوح معظم أهالي الريف إلى المدينة فرض واقعاً جديداً تمثل في ازدحام وسائل النقل وصعوبة العثور على مسكن وعمل ملائمين.
وعن الانقطاع اليومي للتيار الكهربائي تقول نور القاطنة في أحد أحياء دمشق الراقية: «في أحسن الأحوال يتم قطعه 3 ساعات كل 3 ساعات! أي إننا نتمتع بالكهرباء يومياً لمدة 12 ساعة غير متواصلة، وهو حال أفضل بكثير مما كان عليه قبل عامٍ مثلاً، حين كان الانقطاع يستمر لأكثر من 5 ساعات متواصلة، مما يجعل مهمة تدفئة المنزل شبه مستحيلة، هذا في حال توفّرت وسيلة التدفئة أصلاً».

 

سعر شوكولاته نوتيلا 34 ألف ليرة سورية في أحد محال العاصمة دمشق


 
ارتفاع أسعار لا يقابله ارتفاع مكافئ في الأجور
وصل سعر كيلو الحلويات العربية في السوق السورية إلى 32 ألف ليرة، ولك أن تتخيل أن هذا الكيلو بات حلماً، حين أقول لك إن متوسط راتب موظف بدرجة دكتوراه يصل إلى 69 ألف ليرة سورية، أي إنه يستطيع أن يشتري كيلوغرامين من الحلوى العربية مطلع الشهر، ويكمل الشهر جائعاً. هذا الارتفاع الضخم في الأسعار الذي بدأ منذ 2012 واستمر حتى اليوم، لم يقابله ارتفاع مناسب في الأجور، واليوم يعيش معظم سكان المدينة- ومعظمهم من ذوي الدخل المحدود- جل ما يكسبونه لشراء الطعام والدواء والتنقلات دون أن تكون لديهم القدرة على الاستمتاع بأبسط رفاهيات الحياة.
يتراوح متوسط رواتب وأجور العاملين في القطاع العام بحسب الأرقام الرسمية ما بين 40 ألف ليرة و60 ألف ليرة شهرياً، وفي القطاع الخاص بين 120 ألف ليرة و160 ألف ليرة شهرياً، في حين يحتاج الفرد إلى أكثر من 60 ألف ليرة للعيش بالحد الأدنى، فماذا عن الأسر؟
 
ضائقة مالية قديمة- جديدة
ليست الضائقة المالية جديدة على أهل دمشق، فقد نهشت منهم ما نهشته طوال سنوات الحرب، وتلاحقت على أكتافهم الأزمات واحدة تلو الأخرى، حتى تعود «هذا الكفّ على اللطم»كما يقول أهل المدينة.
 مراد، صاحب محل قرطاسية وسط دمشق، يحكي: «لم تعُد الحال كما كانت، صحيح أن محلّي هذا أصبح يشكّل بحبوحة  صغيرة لي ولأسرتي خلال السنوات الماضية، بعد أن كان مدخل رزق ضخم سابقاً، لكن ذلك تغير شيئاً فشيئاً منذ 2012، واليوم بالكاد أستطيع تأمين قوت يومي، وغالباً لا أستطيع، أزمة كورونا تسببت في إغلاق المحال لفترة كسرت ظهرنا، واليوم لم تعُد الناس تهتمّ للقرطاسية، بل إنها لا تجدُ ما تشتري به رغيف خبز تسدّ به جوعها، لم أستدن مالاً في حياتي قط، لكنّني اليوم وخلال أشهر قليلة أصبحت مثقلاً بالديون، وبعد انخفاض سعر صرف الليرة بهذا الشكل المرعب، أصبح البيع يعود علينا بالخسارة، الأمر الذي تستحيل معه القدرة على تعويض المباع وشراء بضائع جديدة. نسعى لجلب الرزق كيفما تيسّر لنا، المصاريف تذبحني ولا حلول أمامي».

 

تسجيل ٧ حالات بيع كلى في دمشق بعد انهيار الليرة غداة الإعلان عن «قانون قيصر»
 


 
كلى للبيع
خلال الأيام الماضية انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي إعلانات كثيرة لبيع كلى بسبب الحاجة فقط، رغم أن ثمن كلية منها لا تسدّ احتياجات أسرة أكثر من بضعة أشهر، وفي هذه الأثناء خرجت مستشارة الرئيس الأسد بثينة شعبان تطالب الشعب بالصمود والثبات في وجه التدهور المرعب الذي حلّ بالليرة، ووجّهت شعبان خطابها للسوريين «قانون قيصر يستهدف سوريا وحلفاءها ولا خيار أمامنا سوى الصبر والصمود، فالصمود سيؤتي أكله قريباً، يجب أن تكون العزيمة نفسها والصبر نفسه الذي مارسناه طيلة سنوات الحرب»،هذه التصريحات أثارت غضباً واسعاً على مواقع التوصل الاجتماعي، ونشرت صفحات كثيرة صوراً لابنها المقيم في أوروبا مفاخراً بسياراته الفارهة مذكرين المستشارة بحياة ابنها المرفهة في وقت يقبع فيه السوريون تحت خط الفقر، لكنه خرج لاحقاً عن صمته ليعلن أن هذه الصور ليست له، وأنه يعيش «حياة الطلاب العادية».
 
اختلاف وجهات نظر لا أكثر
الأزمة هي اختلاف على سعر تصريف الدولار، فقد ألزمت الحكومة الشركات بتسعير الدولار عند 700 ليرة، لكن السعر تجاوز في السوق الموازية 2800 ليرة لأول مرة في تاريخه حتى قارب 3800 خلال الأيام الماضية، قبل التعافي جزئياً، وقد شهدت الليرة منذ الإعلان عن «قانون قيصر»الأميركي انهياراً متسارعاً مقابل الدولار، وهكذا وجد أصحاب المحلات التجارية أنفسهم أمام خسارة حتمية، ففضّلوا إغلاق محالهم على البيع بخسارة لا يمكن تعويضها، وقد يكون عدم البيع أفضل من البيع بخسارة يصبح معها تعويض البضائع مجدداً ضرباً من ضروب المستحيل.
حالة من الشلل الاقتصادي في أسواق دمشق المتأثرة بهذا الانهيار لليرة مع تخبط أسعار المحروقات والمواد الغذائية والأدوية، دفعت السلطات إلى إجبار أصحاب المحلات المغلقة على فتح أبوابها وإلا فسيتم ختمها بالشمع الأحمر؛ فدوريات الجمارك التي تتجول دائماً في أسواق دمشق تملك صلاحية مداهمة المحلات والمستودعات المغلقة وتتوعد بتنظيم ضبطيات بأرقام عالية، ما يعني للتجار رشاوى كبيرة ومصاريف أخرى هم بغنى عنها.
من جانبها، قالت المتحدثة باسم برنامج الأغذية العالمي جيسيكا لاوسون لوكالة الصحافة الفرنسية أن أي انخفاض إضافي في قيمة الليرة سينعكس ارتفاعاً في أسعار المواد الغذائية الأساسية التي يتم استيرادها كالأرز والباستا والعدس. ونبّهت إلى أن ارتفاع الأسعار يهدد بدفع مزيد من السوريين إلى الجوع والفقر وانعدام الأمن الغذائي فيما القدرة الشرائية تتآكل باستمرار.

 

وصل سعر كيلو لحم الغنم إلى 19 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل حوالي نصف راتب شهري لموظف حكومي، مقابل 600 ليرة قبل 2012 (أ.ف.ب)
 


 
لا أمن غذائياً ولا أمان
علاوة على ذلك، لم تعد الحياة في دمشق آمنة، فحوادث الخطف بهدف طلب الفدية والسرقة والقتل بشكل علني وإفلات الجناة من العقاب في ظل غياب الرقابة باتت مادة دسمة للأحاديث الصباحية اليومية، تتجنب الفتيات كما الشباب قدر المستطاع سيارات الأجرة، عدا عن تكلفتها العالية، لكنّها باتت تؤرق الكثيرين لارتباطها بحوادث سرقة كثيرة، شأنها شأن المواصلات العامة جميعاً، لكنّ الأخيرة «أخفّ الضّررين»كما تحكي سلام، وتستطرد: «أخشى المشي وحيدة في أي من شوارع المدينة. رغم أنني بلغت العشرين من عمري، أعاني خوفاً وقلقاً دائمَين من التنقل وحيدة، الأمر الذي جعل والدتي مرتبطة معي في جميع مواعيدي، تذهب معي وتوصلني وتنتظرني دائماً. لم يكن الوضع كذلك قبل 2012، كانت أختي الكبرى تتنقل براحة أكبر، لا يعني ذلك أن المدينة كانت آمنة بالمطلق، لكنها كانت حتماً أكثر أماناً بكثير مما هي عليه اليوم».
تختصر سلوى زكزك ما تعانيه هي وكثيرون غيرها في دمشق، بمنشور على «فيسبوك»: «أنت سوري لما بتفوت ع دكان الخضرة وبتشوف أسعار كلشي من البصل للتفاح وما بتشتري شي والبياع عم يجاوبك بتعب وملل وهو مفلس أكثر منك... أنت سوري لما حدا فقير بيزور مريضك وجايب معو نص كيلو قهوة متدين حقها دين، ولما تعملو قهوة بيشرب الركوة كلها لانو ببيتو مافي ذرة قهوة...أنت سورية لما تروحي بدك تشتغلي بمحل لبيع الشوكولا وبيطلبوا شهادة جامعية...أنت سوري لما بتكون رايح على عزا وبتشوف الفرن فاتح وبتنط بتشتري كم ربطة خبز بتحطن بالسيارة لترجع عالبيت بعد شي عشر ساعات... لانو أصعب شي تأمين خبز بيتاكل وبسعر محمول.. ومن فرحتك بدل ما تعزي أهل الميت بتفتح سيرة الخبز مع باقي المعزين وبتعرض على بعضن ربطة خبز كهدية عظيمة(...) أنت سوري لما بتجيب حتى دواء بالظرف لأنو ما معك حق كل العلبة...أنت سورية لما كل ما بيوجعك قلبك بتقولي هي نخزة من حمل الاغراض وتشنج الرقبة مشان ما تفكري تروحي عالدكتور... وبس توصلي للموت بتقولي دخيلك عمر ميت من أصلو...».

 

يتراوح متوسط رواتب العاملين في القطاع العام بحسب الأرقام الرسمية ما بين 40 ألف ليرة و60 ألف ليرة شهرياً، في حين يحتاج الفرد إلى أكثر من 100 ألف ليرة للعيش بالحد الأدنى (أ.ف.ب)
 


 
القطاع الصحي... مريض
ولا يبدو القطاع الصحي أفضل حالاً، فمع تنامي القلق من تطبيق «قانون قيصر»الأميركي، توقفت معظم معامل الأدوية المحلية عن العمل، وهو الأمر الذي حذر منه النائب في مجلس الشعب السوري وضاح مراد، أمام مجلس الشعب السوري، مخاطباً الحكومة: «الدواء والغذاء خط أحمر وخطير على الشعب (...) أنتم فشلتم حتى الآن في الغذاء، وماضون بطريقكم لغلق مصانع الأدوية السورية التي كانت تغطي احتياجات السوق المحلية، وبأرخص الأسعار، وتصدّر إنتاجها إلى أكثر من ثمانٍ وخمسين دولة (...) أسبوع آخر وستُغلق جميع معامل الأدوية، بعد أن تنتهي المواد الأولية الباقية فيها!».
وحسب الأرقام الرسمية، فإن هذه الصناعة تضررت في الحرب كباقي القطاعات الأخرى، وكان نصيبها خروج أكثر من 19 معملاً من الخدمة، وتراجع الإنتاج بنسبة 75 في المائة، مع توقف عشرات من المعامل وما استمر منها عمل بربع طاقته الإنتاجية، وخلال العامين الماضيين ومع عودة الاستقرار إلى محيط العاصمة دمشق ومدينة حلب بدأت بعض المعامل بالعودة تدريجياً إلى الإنتاج وقد منحت الحكومة نحو 92 ترخيصاً لإنشاء معامل جديدة لا تزال حبراً على ورق بسبب العقوبات والحصار الاقتصادي، وما زال السوريون يعانون من نقص حاد تتجاوز نسبته 70 في المائة من حاجة السوق من الأدوية والمنتجات الصيدلانية، إضافةً إلى مشكلة تدني فعالية الدواء المحلي.
وبالعودة إلى الواقع اليوم، أدى إغلاق المعامل إلى فقدان معظم أصناف الأدوية من الصيدليات، وإغلاق الكثير من الصيدليات أو اقتصار مبيعاتها على المطهرات والمعقمات المصنوعة محلياً، أما الأدوية المستوردة فقد ارتفعت أسعارها بشكل يعجز المواطن العادي عن شرائها، فيما تنتشر الكثير من الأمراض بسبب انعدام أبسط معايير النظافة، وانتشار القمامة، وانعدام القدرة على الاستطباب.
إغلاق عدة معامل أدوية وفقدان المواد الدوائية الأولية بالإضافة إلى عدم قدرة البنك المركزي السوري على تقديم الدعم لهذه المعامل من خلال سعر الدولار، أنتجَ أزمة دواء أرعبت الشارع السوري، حيث عجز الصيادلة عن تأمين الأدوية، أو تأمينها بأسعار معقولة، وتضاعفت أسعار بعض الأدوية ضعفين وثلاثة أضعاف. 
 
تخبّط حكومي... ومواطن بلا أدوية
موقع «الاقتصادي»الموالي للنظام نقل عن صاحب أحد معامل الأدوية قوله إن مجموعات دوائية بكاملها باتت مفقودة، والمعامل لم تعد تستطيع تأمين المواد الأولية للأدوية بحسب صرف الدولار في السوق السوداء، وقد توقف دعم المركزي للمعامل بالدولار، وهو ما أكدته الدكتورة علياء الأسد نقيبة صيادلة دمشق في حديث لإذاعة نينار أن هنالك نقصا كبيرا خاصة في الأدوية النوعية، حتى إن مستودعات النقابة «فارغة»وتعاني عجزاً ضخماً في تأمين احتياجات الصيدليات في العاصمة دمشق، وناشدت الدعم من المستودعات خارج دمشق وحتى مصانع الأدوية في محاولة خجولة لسدّ الاحتياج الضخم في العاصمة، وهو ما يتضارب مع تصريحات وزير الصحة الذي أكد أنه لا يوجد أي انقطاع لمادة دوائية، وفي حال حدث ذلك، فإن بدائلها ستكون متوفرة، موضحاً أنه لا يوجد أي مبرر لمعامل الدواء لوقف العمل، وأشار إلى أن الحكومة السورية، تتحمل أعباء دعم تمويل مستوردات هذه المعامل، من المواد الأولية وباقي المستلزمات، مؤكداً أنه يتم تسعير الأصناف الدوائية بشكل تسلسلي، حيث تم تسعير 1400 صنف حتى الآن، من أصل 11800 مجموعة دوائية.
لكن الدكتورة علياء أكدت أن الأصناف الدوائية التي يجري خفض تسعيرها غير متوفرة أصلاً، وأن تسعير المواد الأولية مرتبط بسعر الدولار كونها مواد مستوردة من الخارج، وبالتالي فإن كل دواء يدخل في تركيبه المادة الأولية تلك سيرتفع سعره، وهكذا ندور في حلقة مفرغة من ارتفاع متلاحق في الأسعار، لا يدفع ثمنه سوى المواطن.
ومع تفاقم أزمة الدواء، التي تعدّ الأكبر في تاريخها، وإغلاق النظام السوري معامل من أضخم معامل الدواء في سوريا، أصبح المورد الرئيسي للأدوية أمام الصيادلة المستودعات الصغيرة التي تحتوي بغالبيتها أدوية قليلة الاستخدام.
وكما لكل أزمة تجارها، لجأت العديد من المستودعات إلى إخفاء مجموعات من الأدوية لإعادة توزيعها في السوق لاحقاً بكميات قليلة ما يرفع سعرها إلى الضعف وربما أكثر، كما جرت العادة، ما جعل هذه المستودعات المتحكم الرئيسي بسعر الدواء.

 

حملة الصيدلي السوري للمساعدة في ظل أزمة انقطاع الأدوية
 


 
مبادرات خجولة
وانطلاقاً من هذه الأزمة، بدأت مبادرات فردية في المدينة تدعو أصحاب الصيدليات لعرض الأدوية المتوفرة لديهم بصور على مواقع التواصل الاجتماعي، وفتح الباب للمحتاجين بأخذها، هذه المبادرات سرعان ما لاقت استحساناً من الناس وانتشرت صور الأدوية الفائضة في البيوت والصيدليات على نطاق واسع، ولكن هل تسدّ مثل هذه المبادرات احتياجات السوق؟ تجيب دعاء، وهي موظفة في صيدلية بدمشق: «بالطبع لا، هنالك أدوية يستحيل توفرها بفائض لدى أحد، أسعارها مرتفعة جداً يستحيل التبرع بها، ثم إن الوضع الحالي لا تبدو له نهاية، وعليه يصعب على المحتاج للدواء أن يستغني عن مدّخراته منه لأشهر قادمة». 
وعن البدائل كالمواد الأولية الدوائية والأدوية الهندية تقول: «الأدوية البديلة والمواد الأولية البديلة في تصنيع الأدوية ليست دائماً بذات الجودة، خاصة مع غياب الرقابة الدوائية، لكنها بشكل أو بآخر تلبي جزءاً من الاحتياج لفترة من الزمن، والاعتماد على البدائل الدوائية لا يمكن أن يكون حلاً دائماً».
 
الوجه الآخر لدمشق
بقاء دمشق بعيدة عن أية مظاهرات احتجاجية منذ 2012 خلق سردية رائجة حول الفصام الكامل بين الواقع الذي تعيشه دمشق، وواقع الحرب والموت والتشرد الذي يعيشه بقيّةُ السوريين في المناطق الأخرى من سوريا، واليوم نقرأ فصاماً آخر بين واقع الفقر والجوع في قلب دمشق، وواقع آخر لا يشبهه إطلاقاً أيضاً في داخل دمشق، والذي يبدو واضحاً للمتجول بين صفحات المدونين السوريين في العاصمة دمشق على مواقع التواصل الاجتماعي، الذين يشاركون يوميّاتهم ورحلاتهم واجتماعاتهم. واقعٌ يوضح الفجوة بين أصحاب الدخل المتوسط وأصحاب الدخل الخيالي، ففي وقت عانى فيه التجار من الإغلاقات الناتجة عن أزمة كورونا، استمرت الفتيات «مدونات»دمشق، أو «مؤثروها»،كما يسمون أنفسهنّ، بتنظيم فعاليات الخيام الرمضانية، والسحور اليومي على أنغام الموسيقى الحية، وتداولن تفاصيل هذه السهرات على مواقع التواصل الاجتماعي، في مظاهر من البذخ تخالف تماماً واقع المدينة.
ولا تقتصر مظاهر التنزه لدى البعض عند السهر في الحانات الليلية وسط العاصمة؛ إذ ينتقل الكثيرون منهم إلى بيروت لقضاء أيام العطلة في سياراتهم الخاصة عبر الحدود اللبنانية السورية إلى بيروت من معبر المصنع-الجديدة، فضلاً عن السفر إلى أوروبا ودبي للسياحة، بتكاليف لا يصعب على أحد حسابها، فأمام مرتبات شهرية في أحسن أحوالها في القطاع الخاص في دمشق تصل إلى 150 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 75 دولاراً أميركياً قبل الانخفاض الأخير في سعر صرف الليرة، كيف يمكن للسياحة في أوروبا والخليج ولبنان أن تكون دورية ومتاحة؟

 

وجد أصحاب المحلات التجارية أنفسهم أمام خسارة حتمية، ففضّلوا إغلاق محالهم على البيع بخسارة لا يمكن تعويضها، لكن الدولة أجبرتهم على الفتح (رويترز)
 


 
هذه المدينة نصفان
بين تراشق المسؤوليات، وواقع صعب، وانفصال عن الواقع، يعيش السوري اليوم في دمشق، العاصمة العريقة، حياة أبعد ما تكون عن العراقة، ولعلّ أصدق وصف لما يعانيه الدمشقيون، تحكيه سلوى زكزك في منشور لها على «فيسبوك»:
«وكأن هذه المدينة نصفان، صباح للتعب وليل للترف...
يسرع جامعو القمامة الى بيوتهم ليشحنوا أنفسهم كبطاريات بنصف عمر من أجل مكاسب صباحية قد تبدأ مع الفجر، والعاملات المنزليات يخلدن إلى النوم في الثامنة مساء من شدة التعب... الموظفون وباعة القهوة والسندويتش والمعروكة الرخيصة، المرضى ومرافقوهم، عمال السخرة والتسليك وفتح البلاليع، والخياطون، والدهانون، وباعة الخبز المصنفون كفاسدين يسرقون المال العام، وباعة الخضراوات الجوالون، معقبو المعاملات، العتالون والصبية الذين يجرون عربات نقل البضائع السخيفة لسيدات مترهلات...
في المساء تختلف رائحة المدينة، عطر ثقيل لمحدثي نعمة، يخدشك فجور نظراتهم كما بقع العطر على ملابس باهظة الثمن لم تتكيف مع أجسادهم بعد..
تختلف نظرات بائعي الشاورما وحجم السندويتشة وترتيب صحن المخلل والبندورة والخيار... تختل رائحة العوادم فيطغى البنزين على مازوت باصات الهوب هوب وباصات النقل الداخلي التي تنام باكرا كما جمهورها صاحب البؤس العظيم...
روائح الأراكيل وحموضة التخمة وأطباق النابلسية وسلطة الفواكه... حتى البزر يختلف حجمه وطراوته وملوحته. كلها تتثاقل كما الليل، وينتفخ أصحابها كبالونات ترويجية لمنتجات مخادعة ومنتهية الصلاحية!!
المدينة نصفان، ليلي ونهاري، وأربعة أرباع، مشردون وتائهون يحتمون بالضوء مخافة الضياع أو العدم، وعمال وموظفون عائدون إلى بيوتهم بربطات خبز شعبية وخضار ذابلة، مراجعون خائبون من معاملات لم تنجز وخاسرة بامتياز... ومشيعون لموتاهم وللحياة أو لأمل واهم بالنجاة أو بتبدل طفيف لحال من أحوالهم...
ثمة من يغرق بالتعب من رواد الليل أيضا... بائعات الهوى والباحثات عن عرسان ثقيلي الأنفاس ومنتفخي الجيوب، والباحثون عن فرصة ربح مقتنصة، وعمال المطاعم وماسحو قيء السكارى، وسائقو سيارات المترفين، حتى فحم الأراكيل الزاوي من أنفاس متخمة بالنهب والكذب والتملق..
وكأن المدينة بلا وقت... أو خارجه... أو أنها تتلاعب بكل الوقت وتفصله بتنمر وتمييز على مقاس رواد سويعاته، كل حسب سطوته، أو حسب حقيقته!!! مسطو عليه أو معلم بالسطو...».
 
* تم استخدام أسماء مستعارة حفاظاً على أمان المتحدثين

font change