صينيو المهجر

قوة ناعمة لـ«بكين» أم داعمون لأوطانهم؟

السفير الصيني لدى الاتحاد الأوروبي، تشانغ مينغ

صينيو المهجر

* تستغل الصين كل الأدوات المتاحة لها، خاصة تلك التي لديها فيها ميزة تنافسية استثنائية تمكنها من تحقيق أهدافها؛ ومن أهم هذه الأدوات الصينيون في المهجر
* الصين من الدول الطاردة للسكان وتأتي في المرتبة الثالثة بعد الهند والمكسيك من حيث أعداد المهاجرين
* الوجود الصيني في الولايات المتحدة كانت له انعكاسات ليس فقط على الداخل الأميركي وإنما على الجوار الأميركي كذلك
* الصينيون في المهجرلا يمثلون جزءاً قانونياً من وطنهم الأصلي، إلا أنهم يمثلون جزءاً ثقافياً من هذا الوطن، وهو ما يجعل ثمة ارتباطاً وثيقاً بينهم وبين ذويهم في أوطانهم
المواثيق والاتفاقيات والمعاهدات الدولية والإقليمية تكفل لصينيي المهجر جميع الحقوق والواجبات كونهم مواطنين يدافعون عن الوطن الذين يحملون جنسيته ويحترمون ثقافته ويدافعون عن أمنه واستقراره وتقدمه

باكو: «يتعين على الدول الأوروبية شراء حصص في الشركات الأوروبية جراء تداعيات فيروس كورونا لمواجهة الأخطار الناجمة عن عمليات استحواذ من قبل الصين».
نبه هذا التحذير الذي أطلقته مارغريت فيستاجر، مفوضة الاتحاد الأوروبي لشؤون المنافسة، مما يمكن أن تتعرض له الشركات الأوروبية وأسهمها إذا تركت دون تدخل من جانب دول الاتحاد الأوروبي لمواجهة الاستحواذ الصيني، وهو التحذير الذي لاقى استجابة سريعة تمثلت في موافقة وزراء مالية الاتحاد الأوروبي في أوائل مايو (أيار) الماضي 2020 على تقديم حزمة إنقاذ بقيمة 500 مليار يورو للدول الأوروبية التي تضررت بشدة من وباء كورونا، حيث تضمن الاتفاق حدا أدنى من الشروط لكي تسحب الحكومات خطوط ائتمان من صندوق إنقاذ منطقة اليورو وتشمل الحزمة دعم الحكومات عبر آلية الاستقرار الأوروبي، ودعم الشركات من خلال بنك الاستثمار الأوروبي.
والحقيقة أن أثر هذا التحذير لم يتوقف على مجرد التدخل لحماية الشركات الأوروبية من الاستحواذ الصيني فحسب، بل أثار تساؤلا حول دور الصين عالميا من خلال مبادرتها التي أطلقتها عام 2013 والمعروفة اختصارا بمبادرة الحزام والطريق، تلك المبادرة التي لم تقتصر فقط على مجرد إحياء طرق التجارة التقليدية القديمة وإنما توسعت المبادرة لتشمل أبعادا أو طرقا جديدة وفقا للمسمى الصيني؛ منها ما أطلقت عليه الصين مؤخرا طريق الحرير الصحي والهادف إلى ربط الدول المنضوية في إطار المبادرة والبالغ عددها ما يزيد على 65 دولة في منظومة صحية متبادلة، فضلا عما أطلقته المبادرة سابقا فيما يتعلق بطريق الحرير الرقمي، الأمر الذي أثار كثيرا من المخاوف الغربية بصفة عامة والأميركية على وجه الخصوص بشأن توظيف الصين لهذه المبادرة كآلية للهيمنة ليس فقط في إطارها الجغرافي المباشر وإنما تمددت لتشمل مناطق جغرافية لم تكن يوما ضمن الاهتمامات الصينية ومنها القارتان الأفريقية وأميركا اللاتينية، بل جاءت أزمة كوفيد-19 لتمنحها فرصة أكبر لتعميق وجودها في القارة العجوزة. 
ومن أجل تحقيق ذلك كله– وفقا للرؤية الغربية- تستغل الصين كل الأدوات المتاحة لها وخاصة تلك التي لديها ميزة تنافسية استثنائية تمكنها من تحقيق أهدافها؛ ومن أهم هذه الأدوات صينيو المهجر، إذ يمثلون قوة اقتصادية مؤثرة جداً ولا يمكن الاستهانة بها، وذلك كما وصفها ستيرلينغ سيغريف بـ«الإمبراطورية الخفية لصينيي المهجر»، في كتابه «لوردات الحوض»، كما قدمت الكاتبة لين بان وصفاً دقيقاً عن تاريخ انتشارهم حول العالم في كتابها المعنون بـ«أبناء الإمبراطور الأصفر»، حيث وصفت فيه سيطرة الأقلية الصينية على اقتصاديات الفلبين وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة، ووجودهم المؤثر في أميركا الجنوبية وأفريقيا وأميركا الشمالية.
ويأتى هذا التقرير ليلقي مزيداً من الضوء على الدور الذي يمكن أن يلعبه صينيو المهجر في تعزيز دور الصين عالمياً في ضوء التحديات التي تواجه صعودها، وذلك من خلال المحاور الآتية: 
 
أولا: الصين وتقرير الهجرة العالمي لعام 2020
تصدر منظمة الهجرة العالمية تقاريرها التي ترصد حركة الهجرة طردا وجذبا بين مختلف بلدان العالم، وجاء تقريرها لعام 2020، ليكشف عن نصيب الصين في مجال الهجرة الدولية، إذ أشار إلى أن هناك أكثر من 40 في المائة من المهاجرين العالميين قد ولدوا في آسيا أي حوالي 112 مليون شخص، فيما تستمر الهند بكونها أكبر بلد منشأ للمهاجرين العالميين، حيث يعيش حوالي 17.5 مليون شخص في الخارج، وتليها المكسيك بـ11.8 مليون شخص، والصين بـ10.7 مليون شخص. كما أشار التقرير إلى أن الصين تأتي في المرتبة الثانية من حيث حجم الحوالات المالية الدولية التي يرسلها المهاجرون والتي بلغ إجمالها 689 مليار دولار في عام 2018، وكان أكبر المستفيدين منها الهند بحوالي 78.7 مليار دولار، ثم الصين بحوالي 67.4 مليار دولار، والمكسيك بحوالي 35.7 مليار دولار، والفلبين بحوالي 34 مليار دولار. في حين تبقى الولايات المتحدة الأميركية المصدر الأول لهذه الحوالات التي بلغت قيمتها 68 مليار دولار، تليها الإمارات العربية المتحدة بحوالي 44.4 مليار دولار والمملكة العربية السعودية بقيمة 36.6 مليار دولار.
ورغم ما قد يبدو للوهلة الأولى من أن حركة الهجرة في الصين تتخذ اتجاها طاردا بمعنى أن الصين من الدول الطاردة للهجرة كونها تأتي في المرتبة الثالثة بعد الهند والمكسيك من حيث أعداد المهاجرين كما سبقت الإشارة، إلا أن القراءة الدقيقة للبيان الذي سجله تقرير منظمة الهجرة الدولية لعام 2020 تكشف عن ملاحظتين مهمتين: 
الأولى، أنه ليس صحيحا أن الصين في الوقت الراهن دولة طاردة للعمالة، ربما كان ذلك في فترات تاريخية سابقة كما سيتضح فيما بعد، وإنما إذا نظرنا إلى أعداد المهاجرين البالغة 10.7 مليون نسمة مقارنة بعدد السكان البالغ 1.4 مليار نسمة، نجد أنها تمثل نسبة ضئيلة، وهو ما يشير إلى أن ما حققته الصين على مدار العقدين الماضيين من معدلات نمو مرتفعة استطاعت توفير المزيد من فرص العمل ليسجل معدل البطالة لديها أقل من 1 في المائة خاصة في المدن والمناطق الاستثمارية والتجارية وإن زاد قليلا في المناطق الريفية. 
أما الملاحظة الثانية، فهي أن هذه الإحصاءات لم تأخذ في الاعتبار الصينيين الذين هاجروا قبل ذلك واستقروا في تلك البلدان وأصبحوا من مواطنيها، إلا أن هذا لا يمنع من تواصلهم مع ذويهم وأصولهم. صحيح أنهم لا يحلمون بالعودة إلى موطنهم الأصلي إلا أنه من الصحيح كذلك أن من غير المنطقي أن لا يقدموا لهذا الوطن الدعم والمساندة ماليا وفنيا، يدلل على ذلك ما يجري في الجوار الجغرافي للصين، فالصينيون الذين هاجروا إلى الدول المجاورة منذ زمن بعيد مثل إندونيسيا والفلبين وماليزيا وأصبحوا مواطنين في هذه الدول لم يتوانوا عن تقديم المساعدة والدعم لذويهم الصينيين. 
ومن ثم، عندما ننظر إلى صينيي المهجر فلا يجب أن تقتصر النظرة على تلك الأعداد من الصينيين المنتشرين في مختلف بقاع المعمورة في الوقت الراهن، وإنما يجب أن تتسع النظرة لتشمل كذلك المواطنين من أصول صينية في مختلف البلدان. 

 

رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، ضمن حفل استقبال بمناسبة العام الصيني الجديد وسط لندن، يوم 24 يناير 2020
 


 
ثانياً: الصين... هجرات متنوعة ودوافع متعددة
عرفت الصين منذ القدم الهجرات المستمرة لأبنائها، وإن تركزت في مراحلها الأولى في جوارها الجغرافي مراعاة لبعد المسافات الجغرافية، ولعبت الظروف الاقتصادية الصعبة الدور الرئيسي في دفع هذه الهجرات، فإلى جانب الزيادة السكانية كانت الفيضانات والمجاعات سبباً وراء تردي مستويات المعيشة مما دفع السكان الصينيين إلى الهجرة بحثاً عن مصادر أخرى للعيش، وإن كان هذا لا يمنع من دور الاضطرابات والصراعات والحروب التي شهدتها المنطقة كدافع آخر للهجرة ولكن بنسبة أقل. 
ورغم أن الهجرة اتجهت في البدايات إلى الجوار الجغرافي للصين إلا أن هذا لم يمنع من اتجاهات للهجرة فيما بعد إلى مناطق أخرى وإن ظلت بمعدلات أقل، ومن هذه المناطق: المنطقة العربية وأوروبا وبعض الدول الأفريقية وأميركا اللاتينية. وإن حظيت الولايات المتحدة الأميركية بنصيب وافر من الهجرة منذ منتصف القرن التاسع عشر، خاصة مع ظهور حمى الذهب بولاية كاليفورنيا، وذلك وفقا للتقرير الذي نشرته قناة «العربية»في يونيو الجاري (2020) تحت عنوان:«هكذا طُرد الصينيون من أميركا ومنعوا من دخولها 60 عاماً»،حيث شهد عام 1848 زيادة في أعداد المهاجرين الصينيين إلى الولايات المتحدة هربا من ويلات الفقر الذي كان متفشيا في وطنهم. وقد غض الأميركيون النظر عن وجود الصينيين في البدايات، لكن مع تراجع كميات الذهب بالمنطقة وتزايد حدّة المنافسة بين الباحثين عنه ارتفعت الأصوات المطالبة بإقصاء هؤلاء الآسيويين من كاليفورنيا وإعادتهم لأوطانهم. ولكن لم تتخذ الإجراءات الفعلية تجاه العودة إلا بعد إجراء الولايات المتحدة الأميركية تعديلات على دستورها سنة 1879، حيث فرضت ولاية كاليفورنيا جملة من الإجراءات ضد عمليات توظيف الصينيين، فحدّت بذلك من تواجدهم بالمنطقة، وبعد عام واحد، وقّعت الولايات المتحدة الأميركية على اتفاقية «إنجل»مع الجانب الصيني بهدف إدخال تعديلات على معاهدة برلينغام الأميركية الصينية لعام 1868 تمهيدا لسن قوانين ضد هجرة الصينيين، ليوقع الرئيس الأميركي الأسبق آرثر في مايو (أيار) 1882 قانونا لاستبعاد الصينين ووقف الهجرة لمدة 10 سنوات ومنعهم من الحصول على الجنسية، وأن من يخرج من الأراضي الأميركية لن يعود إليها مرة ثانية، الأمر الذي حد من نسبتهم ضمن التركيبة الديموغرافية، وظل هذا التراجع مستمرا بفضل تجديد تطبيق هذا القانون، حيث أعادت السلطات الأميركية عام 1892، تجديد قانون استبعاد الصينيين لعشر سنوات إضافية، وهو ما تكرر كذلك عام 1902 ولكن مع جعل التمديد لأجل غير مسمى. 
ويذكر أنه في العشرينيات من القرن الماضي اتسع هذا القانون ليشمل العديد من الأعراق الآسيوية الأخرى.ولكن لم يستمر الأمر طويلا، إذ أعادت الولايات المتحدة عام 1943 فتح أبواب الهجرة للصينيين ضمن أعداد محددة، حيث سمح سنويا لقرابة 105 صينيين فقط بدخول البلاد، وهو الأمر الذي أصبح أكثر انفتاحا بحلول عام 1965 حينما سمحت السلطات الأميركية بعودة الهجرة الصينية لشكلها العادي مع الموافقة على منحهم الجنسية.
وجدير بالإشارة أن التواجد الصيني في الولايات المتحدة كانت له انعكاسات ليس فقط على الداخل الأميركي وإنما على الجوار الأميركي كذلك، إذ إنه قد تزامن مع بدايات الهجرة إلى الأراضي الأميركية تواجدا على أراضي أميركا اللاتينية، حيث استقبلت أولى الهجرات الصينية عام 1847 والتى جاءت للعمل في مجال زراعة قصب السكر، وقد تزايد هذا الوجود خلال الفترات التي اتخذت فيها السلطات الأميركية قرارات بمنع دخول الصينين، حيث كانت أميركا اللاتينية هي الحديقة الخلفية لاستقبال الآلاف منهم، مستفيدين مما تمتلكه دول القارة من ثروات وموارد طبيعية ومعدنية جاذبة للعمالة الصينية التي تميزت آنذاك بالخبرات التي اكتسبتها بسبب عملها داخل الأراضي الأميركية من ناحية، وبانخفاض الأجور من ناحية أخرى. 
يذكر أن مدينة هافانا الكوبية كانت الأكثر استقبالا للمهاجرين الصينيين حتى توقفت الهجرة إليها في أواخر الخمسينيات (1959) مع مجيء كاسترو إلى الحكم، إلا أن هؤلاء المهاجرين كانوا قد أصبحوا جزءا من المجتمع.
ومن ثم، يمكن القول إن الهجرة الصينية قد تركزت في بدايتها في اتجاهين: 
الأولجغرافي، حينما اتجهت إلى دول الجوار الجغرافي بسبب قرب المسافات، في ظل صعوبة توافر وسائل المواصلات والانتقالات آنذاك. 
والثانيأميركي، سعيا إلى استغلال بدايات تأسيس الدولة الأميركية والاستفادة من الثروات المكتشفة في تلك الأرض الجديدة. وإن كان هذا لا يمنع من اتجاه الهجرة إلى مناطق أخرى كما سبقت الإشارة، إلا أنها تظل أقل جذبا لهؤلاء المهاجرين الذين استوطنوا هذه الدول وحملوا جنسيتها.
ومع نهايات القرن المنصرم وبدايات القرن الحالي واستفادة مما حققته الصين من تقدم اقتصادي، حرصت الدولة الصينية على الحفاظ على تواجدها في تلك المناطق مع منح اهتمام أكبر لمناطق أخرى تضيف إلى دوافع هجرتها أبعادا أخرى، وكان من أبرزها ما شهدته مؤخرا القارة الأفريقية مع الانتشار الصيني الكبير على أراضيها، إذ سجلت الأرقام الرسمية للعمال الصينيين في أفريقيا خلال عام 2015 حوالى 263.696 صينيا، بل أفادت تقديرات أخرى بأن إجمالي الهجرة الصينية إلى القارة السمراء قد وصل إلى مليون صيني، وهو ما دفع بعض الباحثين إلى إصدار رسائل تحذيرية من التواجد الصيني الكثيف في القارة الأفريقية، من ذلك على سبيل المثال الدراسة التي نشرها الصحافي الأميركي إيان جونسون عام 2014 في كتاب حمل عنوان «أفريقيا: قارة الصين الثانية... مليون صيني يُشيّدون إمبراطورية اقتصادية في أفريقيا»، حيث سرد العديد من الصور والنماذج عن بدايات التغلغل البشرى الصيني في القارة الأفريقية وتحديدا منذ عام 1978 مع سياسة الانفتاح الاقتصادي الصيني التي أطلقها الرئيس «دنغ شياو بنغ»، فقد ورد في كتابه ما نصه في وصف المزارع الصيني الذي جاء من موطنه في الصين إلى القارة بأن:«المزارع الرائد، اسمه هــوا، وجاء من موطنه في الصين ليس فقط لكي يمتلك مزرعة ويبني بيتاً يليق بفلاح موسر، بل جاء لكي يؤسس أسرة وينشئ سلالة أو عشيرة يزرع جذورها في أرض القارة العذراء، لهذا فقد بادر هوا إلى إحضار ابنيه الاثنين من الصين ضمن مشروع يقضي بزواجهما من نساء أفريقيات أملاً في مواصلة الإنجاب، ومن ثم في زواج الأحفاد»
ولم يقتصر الأمر على القارة الأفريقية فحسب، بل كانت القارة العجوز ساحة مهمة للتغلغل الصيني مستخدمة أدواتها وشركاتها واستثماراتها ووجودها البشري، فعلى سبيل المثال انطلقت الحكومة الصينية عام 2008 وعبر مجموعة من رجال الأعمال الصينيين الذين يمتلكون شركات مدعومة بشكل أو بآخر منها، للتوجه إلى الاستثمار في دول القارة، وتشير بعض التقديرات غير الرسمية إلى أنه خلال 10 سنوات فقط أي حتى عام 2018؛ تمكنت تلك الشركات من إبرام 678 صفقة في 30 دولة أوروبية، كما تمكنت الاستثمارات الصينية من السيطرة على 360 شركة، بدءاً من شركات التكنولوجيا في الغرب ومشاريع البنية التحتية في الشرق، مروراً بالقطارات والمطارات وفرق كرة القدم والمحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية وشركات الإطارات، فعلى سبيل المثال توجد في ولاية شمال الراين- وستفاليا الألمانية والتى تعد موطن ما يقرب من ربع إجمالي المغتربين الصينيين الذين يعيشون في ألمانيا ما يزيد على 1100 شركة صينية حتى عام 2019. 
مما سبق، يتضح أن الدوافع الاقتصادية كانت هي الأبرز وراء الهجرات الصينية سابقا وحاليا، ولكن تباينت نوعية تلك الدوافع، صحيح أنها في السابق كانت تتركز حول الحاجة إلى تلبية الحد الأدنى من المعيشة في ظل ظروف قاحلة تعيشها الصين، وهو ما دفع مواطنيها إلى الهجرة مع قبول مجالات عمل خطرة وبمستويات أجور متدنية ومستويات معيشية هامشية على حدود المدن. في حين أن هذه الدوافع الاقتصادية قد اختلفت مع ما حققته الصين من تقدم تقني ونمو اقتصادى إذ سيطر عليها دافعان: 
أولهماربحي/ تشغيلي، وذلك من خلال تأسيس الشركات العاملة في مجالات عدة، بعضها إنشاءات وخدمات وأكثرها في مجالي الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وقد حكم هذا الدافع اتجاه الهجرة إلى مختلف دول العالم سواء كانت دولا متقدمة كما هو الحال في أوروبا والولايات المتحدة أو نامية كما هو الحال في كثير من الدول الأفريقية وأميركا اللاتينية. 
أما المسار الثاني، فهو المسار التعليمي من خلال الالتحاق بالجامعات والمعاهد العلمية ومراكز البحوث المتخصصة للحصول على مزيد من التعليم المتقدم وخاصة في مجالات الرياضيات والهندسة والتكنولوجيا والفضاء والطب وخلافه. وقد حكم هذا الدافع اتجاه الهجرة إلى دول العالم المتقدم فحسب. 

 

مارغريت فيستاجر، مفوضة الاتحاد الأوروبي لشؤون المنافسة


 
ثالثاً: الصين بين الأعباء التوظيفية واستقبال مهاجرين أكفاء
على الجانب الآخر من الصورة، يتجلى مشهد صيني مهم، فيما يتعلق باتجاه الهجرة، إذ كما سبق وأشرنا أنه ليس صحيحا أن أضحت الصين من الدول الطاردة للهجرة مقارنة بعدد سكانها، وإنما رغم عدد سكانها الكبير إلا أن نظرتها إلى قضية الهجرة تكاد تكون محكومة بكيفية الاستفادة منها في تعزيز مكانتها الدولية، فحينما تفتح باب الهجرة إلى الخارج كما سبقت الإشارة تستهدف تعظيم استثماراتها وتواجدها في مختلف دول العالم، وكذلك تعظيم استفادتها من التقدم العلمي الذي حققته الدول الأخرى.
ومن هذا المنطلق، ترى أن المستقبل مرهون بكسب المزيد من المعارف، خاصة في مجالات التكنولوجيا والبحث العلمي، ولعل الصراع الدائر اليوم بين الولايات المتحدة الأميركية والصين حول تكنولوجيا 5Gمؤشر مهم على حرص الأطراف كافة لخوض غمار المستقبل بأدواته. 
وفي ظل القراءة الصينية للتحدي الذي أدركت أنها ستواجهه في منافستها مع ما حققته الولايات المتحدة في هذا الخصوص، خاصة منذ أن بدأت معركة ما عرف بأزمة شركة هواوي ودورها في هذه التكنولوجيا والتي تسعى الولايات المتحدة لحرمانها من الوصول إليها، فقد اتجهت إلى فتح باب الهجرة الجاذبة إليها ولكنها هجرة نوعية تتعلق بمستويات تعليمية متميزة، إذ في خطوة جديدة، أعلنت بكين في منتصف يوليو (تموز) 2019 أنه من أول أغسطس (آب) من العام ذاته سيتم تطبيق اثني عشر إجراء لجعل الهجرة والدخول إلى البلاد والخروج منها أيسر وأكثر راحة بالنسبة لبعض الأجانب رفيعي المستوى ومن بينهم الحاصلون على درجة الدكتوراه والذين قدموا إسهامات مهمة للبلاد، وذلك كخطوة أولى من الخطوات الستين المخصصة لتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق صالح الجمهور والشركات بهدف تحسين بيئة الأعمال في البلاد، وقد تركزت أبرز هذه الإجراءات فيما يأتي: 

  • إصدار تأشيرات وتصاريح إقامة لمدة طويلة للأجانب للقيام بأعمال تجارية أو العمل أو الدراسة في الصين.
  • السماح للذين تلقوا دعوات من الجامعات أو المعاهد البحثية العلمية أو الشركات الشهيرة للتعاون التكنولوجي بالحصول على التأشيرات أو تصاريح الإقامة لمدة تتراوح من سنتين إلى 5 سنوات.
  • السماح للأجانب من خريجي الكليات والجامعات الرئيسية في الصين، أو الجامعات الأجنبية ذائعة الصيت، الذين بدأوا أعمالهم في الصين أو تمت دعوتهم إلى تلقي تدريب في الصين، بسياسة الدعم والسهولة في التقدم للحصول على التأشيرات أو تصاريح الإقامة.
  • البدء في تأسيس مراكز خدمة لشؤون الهجرة في المناطق التي تقطنها أعداد كبيرة من الأجانب لجعل القيام بأعمالهم ودراستهم ومعيشتهم أكثر راحة.
  • السماح لأزواج وأطفال الأجانب أيضا بالانضمام للطلب في نفس الوقت.

وتستهدف الصين من خلال هذه الإجراءات جذب متخصصي الإدارة والتكنولوجيا من الخارج، الذين تحتاجهم الصين بشدة، مع تشجيع الأجانب الذين يعملون في الصين على الاستفادة القصوى من مواهبهم، حيث يذكر أنه خلال السنوات الأخيرة أصدرت الصين 133 ألف تأشيرة وتصريح إقامة لرواد الأعمال والمستثمرين والفنيين وأخصائي الإدارة الأجانب. 
ومن ثم، يبرز التساؤل: كيف تقدم الحكومة الصينية على هذه الخطوة رغم ما تشهده سوق التوظيف الصينية من خلل هيكلي في ظل تزايد الضغوط المحلية لتوفير المزيد من الوظائف، إذ إنه من المتوقع كما يرى الخبراء خلال السنوات القادمة سوف تفوق كمية الطلب على الوظائف في المناطق الحضرية الصينية 15 مليون طالب وظيفة، أكثر من نصفهم من المجازين الجامعيين، وهو ما يمثل ضغطا توظيفيا عاليا، هذا بخلاف تزايد أعداد العاطلين المسجلين وفائض القوة العاملة الريفية التي تعاني من ضعف قدراتها التعليمية والتدريبية، الأمر الذي يجعل من مهمة التوظيف في المستقبل أكثر ثقلا بالنسبة للدولة الصينية؟ 
والحقيقة أن الاجابة على هذا التساؤل تأتي في إطار ما أعلنته الحكومة الصينية بأن خوض غمار المستقبل يتطلب أن تكون الدولة رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، ولذا أصدرت عام 2017 استراتيجية وطنية مفصلة تتمحور حول تطوير هذه التقنية، ولذا أقدمت جامعاتها على فتح تخصص الذكاء الاصطناعي ضمن صفوفها وإطلاق برامج ومقررات دراسية تمنح شهادات جامعية فيه، إلا أنها لم تنجح في ذلك نظرا لأن نسبة كبيرة من الباحثين الصينين يعملون خارج الصين، وأغلبهم في الولايات المتحدة، إما لدى شركات التقنية العملاقة مثل «غوغل»،و«آي بى إم»،أو لدى الجامعات المرموقة مثل لوس أنجليس، كاليفورنيا. ولذا فقد اتجهت الصين إلى اتخاذ كثير من الخطوات لاستقطاب نخبة العلماء سواء كانوا صينيين أم أجانب، للعمل في هذا المجال.
ومن ثم، تسعى بكين إلى توظيف كوادرها البشرية في هذا المجال استغلالا لما يحققونه من نجاحات في الغرب بصفة عامة والولايات المتحدة على وجه الخصوص، إذ ينالون الشهادات الأكاديمية والعليا ثم يعودون إلى الصين ليقدموا خبراتهم العملية والمهنية لبلدهم التي تستفيد منها في منافسة الولايات المتحدة في هذا المجال، ويدلل على ذلك الدراسة التي أجرتها «جوى دانتونغ ما»المديرة المساعدة لدى مركز الأبحاث المتخصص في النمو الاقتصادي الصيني ومقره شيكاغو، من خلال تحليل مقدمي الأوراق البحثية المقبولة لدى أحد أرقى المؤتمرات الدولية (NeurIPS) مؤتمر نظم معالجة المعلومات العصبية المرموقة المتخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي، وخلصت إلى وجود ارتفاع يقدر بعشرة أضعاف عدد الباحثين الذين أجروا دراساتهم الجامعية في الصين خلال العقد الأخير، إذ كشفت الدراسة عن أنه لم يكن هناك أكثر من نحو 100 باحث صيني عام 2009 وهو ما يمثل 14 في المائة من إجمالي مقدمي الأوراق البحثية المقبولة لدى هذا المؤتمر، إلا أن عددهم ارتفع ليناهز الألف باحث وباحثة بحلول عام 2018، أي ربع إجمالي الباحثين وأن أكبر زيادة حصلت في الفترة ما بين 2017- 2018 أي بعد صدور الاستراتيجية الوطنية الصينية الخاصة بالذكاء الاصطناعي، وهو الأمر الذي حذر منه مؤخرا وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، حينما صرح في 29 مايو (أيار) 2020 بأن «الطلاب الصينيين لا يجب أن يكونوا هنا في مدارسنا للتجسس وأن الطلاب الذين يأتون إلى هنا للدراسة لا يتصرفون باسم الحزب الشيوعي الصيني... وبصفتي مديرا سابقا لوكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه)، فإنني آخذ خطر التجسس في بلدنا على محمل الجد»
وبالفعل أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إعلانا بتعليق دخول المواطنين الصينيين الذين تم تحديدهم مخاطر أمنية محتملة، وهو الأمر الذي رفضته الصين على لسان المتحدث باسم وزارة خارجيتها تشاو لي جيان بقوله: «إن وزير الخارجية الأميركي اعتاد اختلاق الأكاذيب كمبرر لتصرفات خاطئة وإن الطلبة الصينيين في الولايات المتحدة يتمتعون بالذكاء والعمل الجاد، وشكلوا جسرا مهما للصداقة بين الصين والولايات المتحدة، وأيضا في تبادلات تعليم العلوم والتكنولوجيا»
نهاية القول: إن صينيي المهجر رغم أنهم لا يمثلون جزءا قانونيا من وطنهم الأصلي، إلا أنهم يمثلون جزءا ثقافيا من هذا الوطن، وهو ما يجعل ثمة ارتباطا وثيقا بينهم وبين ذويهم في أوطانهم، يسعون إلى دعمهم ومساعدتهم، ولعل هذا الارتباط لا ينفرد به الصينيون وحدهم وإنما هو شعور عام ينطبق على كثير من البلدان، وهو ما يجعل من الأهمية بمكان أن لا يدفع هؤلاء المهاجرون الذين أصبحوا مواطنين كاملي المواطنة داخل بلدانهم ثمنا لصراعات سياسية أو أمنية بين بلدهم الأصلى وبلدهم الحالي، خاصة في الولايات المتحدة الأميركية، إذ إن المواثيق والاتفاقيات والمعاهدات الدولية والإقليمية تكفل لهم جميع الحقوق والواجبات كونهم مواطنين يدافعون عن الوطن الذين يحملون جنسيته ويحترمون ثقافته ويدافعون عن أمنه واستقراره وتقدمه.

font change