كيفية إبقاء الولايات المتحدة عضوًا في منظمة الصحة العالمية

قطع التمويل عن المنظمة سيدمر قدرتها على مواجهة فيروس كورونا

المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس يعقد مؤتمرًا صحافيًا حول الوضع المتعلق بفيروس كورونا المستجد في المقر الرئيسي لمنظمة الصحة العالمية بجنيف، يوم 24 فبراير 2020 (غيتي)

كيفية إبقاء الولايات المتحدة عضوًا في منظمة الصحة العالمية

* الحقيقة أن منظمة الصحة العالمية لا تمتلك سلطة التحقق بشكل مستقل من التقارير الحكومية الرسمية ولا يمكنها إجراء تحقيق على أرض حكومة ذات سيادة دون إذنها
* القانون واضح: لا تستطيع الولايات المتحدة الانسحاب من منظمة الصحة العالمية لمدة سنة على الأقل ولا تزال عضوًا فيها. وفي هذه الفترة من العام المقبل، قد يكون جو بايدن رئيسًا ويمكنه إلغاء قرار ترمب
* توفر الولايات المتحدة نحو 15 % من ميزانية منظمة الصحة العالمية، وتساوي قيمة مساهماتها 893 مليون دولار في ميزانية 2018-2019

الانسحاب الفوري سيكون بمثابة كارثة للصحة العالمية وسيادة القانون
أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن الولايات المتحدة ستنهي علاقتها بشكل رسمي مع منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، وتعلق كذلك تمويلها لها، وذلك في نفس الأسبوع الذي سجلت فيه أكثر من 100 ألف حالة وفاة بسبب فيروس كورونا المستجد.وإذا نفذ قراره بالفعل، لا سيما وسط تفشي الجائحة، فستكون هذه الخطوة أحد أكثر القرارات الرئاسية تدميرًا في التاريخ الحديث؛ إذ تشكل ضربة للأمن الصحي العالمي وسيادة القانون.
ولحسن الحظ، لا يحتاج الكونغرس الأميركي ولا المحاكم الأميركية إلى المساندة: يعكس تصريح الرئيس سوء فهمه لكلٍّ من منظمة الصحة العالمية وقيودها وسلطته التي لا تخوله الانسحاب منها بشكلٍ أحادي. فيجب على الكونغرس أن يعقد جلسات استماع على الفور لتوضيح ما إذا كان الانسحاب من منظمة الصحة العالمية أمرًا قانونيًا وحكيمًا، نظرًا للعواقب الوخيمة على الأمن الأميركي والصحة العالمية. ويجب على المتقاضين اللجوء إلى المحكمة للتوضيح بأن الرئيس لا يمتلك السلطة الدستورية التي يدّعيها. وبيّنت جائحة فيروس كورونا المستجد أن الصحة العامة مشكلة الجميع. ولا يجب أن يقف الكونغرس والمحاكم والأميركيون المعنيون صامتين في حين يتم وصف الولايات المتحدة بالدولة التي أدارت ظهرها للتعاون العالمي خلال أكبر أزمة صحية في التاريخ الحديث.
 أقل من الممتاز
وقال ترامب في رسالة موجهة للمدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس في أبريل (نيسان) إنه يطالب المنظمة بالقيام بـ«تحسينات جوهرية كبيرة»خلال 30 يومًا بهدف إثبات استقلاليتها عن الصين. وأرجع ترامب الأسبوع الماضي قرار إنهاء علاقة الولايات المتحدة مع منظمة الصحة العالمية إلى فشلها في إجراء الإصلاحات المطلوبة- على الرغم من قرار منظمة الصحة العالمية إجراء تقييم مستقل»للاستجابة الدولية لجائحة «كوفيد-19».
وبصرف النظر عن الاستحالة الافتراضية لمطالب الرئيس- أن تقوم منظمة تضم تقريبًا كل حكومة في العالم بإصلاحات جوهرية في غضون شهر أثناء استجابتها لأزمة صحية عالمية- كانت التهم في الغالب خاطئة ومضللة. وأكد ترامب أن منظمة الصحة العالمية كانت على علم بانتقال فيروس كورونا المستجد بين البشر بحلول 31 ديسمبر (وهي لم تكن تعلم)، وزعم أيضًا أنها كانت على علم بانتشار الفيروس في ووهان في ديسمبر (كانون الأول) بناءً على تقارير في مجلة «ذي لانسيت»الطبية (لم يتم نشر هكذا تقارير).
ولكن هذا لا يعني أن جميع انتقادات ترامب لأفعال منظمة الصحة العالمية وعلاقتها بالصين مضللة. فقد أشادت المنظمة (وترامب) ببكين لشفافيتها في أواخر يناير (كانون الثاني)، عندما كان العالم يدرك تمامًا إخفاء الصين لمعلوماتٍ حول انتشار الفيروس. وتمتلك الولايات المتحدة ودول أخرى، بمن فيهم كندا، حق دعوة تايوان كمراقب في منظمة الصحة العالمية، إذ لدى تايوان الكثير لتقدمه، بما في ذلك تكتيكاتها الفعالة في استجابتها لفيروس كورونا، وبالتالي فهي تستحق الحصول على المقعد.
ولكن على النقاد أن يتذكروا أن منظمة الصحة العالمية، بصفتها هيئة حكومية دولية، سياسية بطبيعتها وتخضع للحكومات. كما أن ما يقرب من 80 في المائة من ميزانيتها ممولة من التبرعات، ولذلك لا تمتلك مجالًا واسعًا للمناورة.وعلى الرغم من استطاعة ووجوب تنازل الدول الأعضاء عن المزيد من السلطة للمنظمة، إلا أنهم لم يفعلوا ذلك.
والحقيقة أن منظمة الصحة العالمية لا تمتلك سلطة التحقق بشكل مستقل من التقارير الحكومية الرسمية ولا يمكنها إجراء تحقيق على أرض حكومة ذات سيادة دون إذنها. وفي الواقع، منعت الصين موظفي منظمة الصحة العالمية ومراكز الولايات المتحدة لمكافحة الأمراض والوقاية منها من الذهاب إلى ووهان في أوائل فترة تفشي الفيروس. وشعر مسؤولو المنظمة بالإحباط الشديد بسبب نقص البيانات التي تقدمها الصين وتباحثوا في أفضل السبل للضغط عليها للحصول على مزيدٍ من المعلومات دون فقدان صلاحية الوصول.

 

 
الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتحدث خلال الإحاطة اليومية لفريق عمل البيت الأبيض الخاص بمكافحة فيروس كورونا في روز غاردن في البيت الأبيض يوم 14 أبريل 2020 في واشنطن العاصمة. أعلن يومها الرئيس ترامب تعليق الولايات المتحدة تمويل منظمة الصحة العالمية (غيتي)
 


 
تسديد المستحقات
 
إن خروج الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية ليس بالبساطة التي يعتقدها ترامب. فمن الناحية القانونية، لا يمكن للرئيس أن ينسحب من المنظمة بشكلٍ أحادي. وانضمت الولايات المتحدة إلى المنظمة عام 1948 بعدما ساعدتها في صياغة دستورها، وكان انضمامها بموجب قرار مشترك في الكونغرس ينص على أنه يمكن للولايات المتحدة الانسحاب إذا قدمت إشعارًا قبل سنة من انسحابها وسددت جميع المستحقات المالية المتوجبة عليها للسنة الحالية.كما أذن هذا القرار بتخصيصات سنوية لوزارة الخارجية لعضوية الولايات المتحدة، مما يستدعي سلطة الكونغرس للموافقة على المعاهدات وسلطته المالية.
إذن القانون واضح: لا تستطيع الولايات المتحدة الانسحاب من منظمة الصحة العالمية لمدة سنة على الأقل ولا تزال عضوًا فيها. وفي هذه الفترة من العام المقبل، قد يكون جو بايدن رئيسًا ويمكنه إلغاء قرار انسحاب الولايات المتحدة. ولا يسمح القانون لترامب بتعليق التمويل الذي خصصه الكونغرس للمنظمة على الفور، بما في ذلك ما تبقى من مستحقات الولايات المتحدة لعام 2020، أي تقريبًا 60 مليون دولار.ولدى الولايات المتحدة أيضًا رصيد متبقٍ من تقييمها لعام 2019.
ولا يعني صمت الكونغرس عن قرار ترامب أن هذه الخطوة دستورية. فقد انضمت الولايات المتحدة إلى منظمة الصحة العالمية من خلال قرارٍ مشترك، لذا يحتاج الرئيس إلى قرارٍ مشتركٍ مماثل للموافقة على الانسحاب. وعلى مدار الأربعين عامًا الماضية، وافق الكونغرس إلى حدٍ كبير على قرار أي رئيس بالانسحاب من اتفاقات ثنائية أقل أهمية. ولكن قد لا يكون مستجيبًا للغاية هذه المرة عند النظر في الانسحاب من المنظمات الحيوية المتعددة الأطراف مثل منظمة الصحة العالمية. ومهما حاول ترامب فلا يمكنه أن يتغاضى عن قرار الكونغرس. فعندما وصلت قضية الانسحاب من معاهدة ثنائية إلى المحكمة العليا عام 1979، لم يتخذ أي قاضٍ قرارًا يعطي الرئيس، كقاعدة عامة، السلطة الدستورية للانسحاب أحاديًا من المعاهدات.
 
منافع عامة أساسية
 
رغم عيوب المنظمة وحدودها، يعتبر وجودها ضروريًا أثناء أي أزمة صحية عالمية إذ تتطلب الاستجابة لجائحةٍ ما حلولاً عالمية ومن شأن انفصال الولايات المتحدة عن منظمة الصحة العالمية الآن أن يقوض نفوذها كقائد صحي عالمي. وقد يتطلب الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، على سبيل المثال، الانسحاب كذلك من معاهداتها الأخرى مثل اللوائح الصحية الدولية، وهي المعاهدة ذاتها التي اشتكى ترامب من أن الصين كانت تنتهكها عندما لم تبلغ عن حالات الإصابة بـ«كوفيد-19». 
وعلى الرغم من أن وزارة الخارجية الأميركية عرّفت سابقًا منظمة الصحة العالمية كشريك رئيسي في استراتيجيتها الصحية العالمية لتعزيز الكشف عن الأمراض والاستجابة لها، فإن انسحابها من المنظمة سيمنعها من الوصول إلى نظام منظمة الصحة العالمية العالمي لمشاركة بيانات التفشي واللقاحات.
والمقلق أكثر أن قطع التمويل عن المنظمة سيدمر قدرتها على مواجهة فيروس كورونا والتهديدات الصحية الرئيسية الأخرى. إذ توفر الولايات المتحدة نحو 15  في المائة من ميزانية المنظمة لمدة سنتين، وتساوي قيمة مساهماتها 893 مليون دولار في ميزانية 2018-2019. كما توفر الولايات المتحدة الجزء الأكبر من التمويل لبرنامج الطوارئ في منظمة الصحة العالمية، مما يعني أن انسحابها سيقطع التمويل الأساسي لمواجهة «كوفيد-19». ومن شأن فقدان التمويل للاختبار واقتفاء المخالطين وكذلك تطوير اللقاحات أن يوسع نطاق ومدة الوباء ويؤدي إلى خسارة المزيد من الأرواح وسيضر أيضًا بأمن الولايات المتحدة لأن حالات تفشي فيروس كورونا في أجزاء أخرى من العالم ستصل في النهاية إليها عبر موجة ثانية أو ثالثة من الحالات. وستقل قدرة المنظمة على رصد الحالات وبالتالي ضمان الكشف السريع عن الفاشية التالية واحتوائها، مما يزيد من احتمال حدوث جائحة أخرى.
وسيؤثر الانسحاب الأميركي أيضًا كثيرًا على مبادرات المنظمة المهمة، مثل القضاء على شلل الأطفال وتغذية الأطفال وتوزيع اللقاحات ومشاريع مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، والملاريا، والسل، والتي تعطلت بالفعل بسبب جائحة فيروس كورونا. وتهدد الجائحة بمضاعفة عدد الوفيات الناجمة عن الملاريا وفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وقد تم بالفعل تأجيل حملات التحصين ضد الحصبة في 25 دولة. وعلى الرغم من أن الجهود المبذولة للقضاء على شلل الأطفال على مدى العقدين الماضيين قد قللت من الحالات العالمية بنسبة 99.9 في المائة، إلا أنه من شأن سحب التمويل الأميركي عرقلة هذه الجهود، مما قد يسمح بقفز عدد الحالات العالمية السنوية لشلل الأطفال من بضع مئات إلى 200 ألف حالة خلال عقدٍ واحد. 
وقد تحاول الولايات المتحدة الحفاظ على دورها كقائد صحي عالمي عن طريق إعادة توجيه تمويل منظمة الصحة العالمية مباشرة إلى البلدان أو من خلال الشراكات العالمية بين القطاعين العام والخاص، مثل الصندوق العالمي لمحاربة الإيدز والسل والملاريا أو التحالف العالمي للقاحات والتحصين.
ومع ذلك، سيكون لهذه الاستراتيجية تأثير محدود أكثر بكثير على النتائج الصحية العالمية. فلن يكون ممكنًا الحد من تفشي الأمراض المعدية، والتي يمكن أن تنشأ في أي مكان في العالم، دون التنسيق العالمي الذي يعد جوهر مهمة منظمة الصحة العالمية. واعتمدت كذلك المبادرات التي تقودها الولايات المتحدة مثل خطة الرئيس الطارئة للإغاثة من «الإيدز»ــ والتي جعلتها رائدة العالم بلا منازع في الاستجابة لفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) منذ عام 2003ــ على منظمة الصحة العالمية وخبرتها في توصيل الرسائل الصحية وضمان جودة الأدوية ووضع معايير لزيادة عدد القوى العاملة الصحية.ويوجد منظمة واحدة فقط للصحة العالمية وستظل كل دولة عضوًا فيها. ولا يمكن لدولة واحدة أن تعمل بمفردها في معالجة الصحة العالمية ببساطة، ليس اليوم ولا في المستقبل.
 
تم نشر المقال أولًا على موقع ForeignAffairs.com.

font change