«صوت أميركا» في الشرق الأوسط على المحك

مخاوف حول استقلال الإعلام الحكومي الأميركي بعد فصل محررين مرموقين

«صوت أميركا» في الشرق الأوسط على المحك

* تعد الشبكة العالمية لوكالات الأنباء مكوِناً مهماً في القوة الناعمة وإحدى الأدوات الحيوية للدبلوماسية العامة الأميركية
* تحظى الوكالة الأميركية للإعلام العالمي بإجمالي عدد مشاهدين يصل إلى 350 مليون شخص أسبوعياً، أكثر من 29 مليوناً منهم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
* اتهم البيت الأبيض «صوت أميركا»بالحديث بلسان أعداء أميركا، وبأنها أصبحت صدى للدعاية الصينية ومعلوماتها المغلوطة
 

لندن: في الخامس عشر من يونيو (حزيران)، تولى مدير الشبكة العالمية لوكالات الأنباء التي تمولها وتديرها الحكومة الأميركية، والذي اختاره ترامب وخضع تعيينه إلى عملية مصادقة معقدة استغرقت عامين في مجلس الشيوخ، تولى مهام منصبه. 

ويوم 17 يونيو، بدأ مايكل باك مهام عمله بفصل الرؤساء المرموقين في جميع الأقسام التي يشرف عليها في الوكالة الأميركية للإعلام العالمي، في رسالة إلكترونية أرسلها بعد الظهيرة- تضمنت هيئات إخبارية مثل «صوت أميركا»وشبكة الشرق الأوسط للإرسال التي تضم كلا من قناة «الحرة»،و«راديو سوا». أثارت حملة الإقالات التي شنها باك، والذي اقترح تعيينه في المنصب ستيفن كيه بانون، أحد مؤسسي موقع «بريتبارت نيوز»اليميني المتطرف والذي أصبح لاحقاً من كبار مستشاري ترامب، المخاوف من أن المدير التنفيذي الجديد للوكالة سوف يغير محتوى «صوت أميركا»وشبكة الشرق الأوسط للإرسال والجهات التابعة لها للترويج لسياسة ترامب في انتهاك لميثاقها الذي ينص على أن تظل هذه الجهات مستقلة تحريرياً عن الحكومة الأميركية.

 

تعد الهيئة الإعلامية، التي أنشئت في عام 1942 لمواجهة الدعاية النازية في الدول التي كانت خاضعة للاحتلال الألماني، مكوِناً مهماً في القوة الناعمة وإحدى الأدوات الحيوية للدبلوماسية العامة الأميركية. والهدف منها هو تمثيل القيم الأميركية للجمهور في الخارج عن طريق تقديم أخبار نزيهة ودقيقة بـ61 لغة كنموذج لالتزام الدولة بالديمقراطية وحرية الإعلام. وتعد الوكالة الأميركية للإعلام العالمي، التي تحظى بإجمالي عدد مشاهدين يصل إلى 350 مليون شخص أسبوعياً، واحدة من أكبر الشبكات الإعلامية في العالم. ويأتي 29.1 مليون من هؤلاء المشاهدين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

لطالما كانت الاستفادة من القوة الناعمة الأميركية بهدف الترويج لمصالحها الوطنية وتقديم أهداف سياستها الخارجية، عنصراً محورياً في المساعي الدبلوماسية الأميركية في العالم العربي.

يتطلع المشاهدون في المنطقة إلى هذه الوكالات التي تستفيد من «جدار الحماية»الذي من المفترض أن يمنع أي مسؤول حكومي أميركي من التدخل في إعداد تقاريرها، نظراً لاستقلالية تقاريرها في أوقات البلبلة وكذلك في أخبارها اليومية.

 

ألبرتو فرنانديز «شبكة الشرق الأوسط للإرسال»

 

إقالة رئيس شبكة الشرق الأوسط للإرسال «الذي يحظى بتقدير بالغ»

تسببت إقالة ألبرتو ميغيل فرنانديز، رئيس شبكة الشرق الأوسط للإرسال، في خيبة أمل الكثيرين. عمل فرنانديز على مدار 32 عاماً في السلك الدبلوماسي في الشرق الأوسط وأميركا الوسطى ويجيد اللغة العربية. وفي أثناء فترة خدمته في الخارجية، كان يحظى بتقدير بالغ بصفته واحداً من أكثر ممثلي الخارجية الأميركية معرفة وتأثيراً في الإعلام الناطق باللغة العربية. ومنذ توليه إدارة شبكة الشرق الأوسط للإرسال في عام 2017، أثنى كثيرون على فرنانديز لما حققه من توازن في وسائل الإعلام الناطقة بالعربية؛ مثل  إذاعة «راديو سوا»، وهي شبكة إذاعية تبث الموسيقى والأخبار على مدار 24 ساعة يومياً طوال أيام الأسبوع، وتقدم أكثر من 370 نشرة إخبارية أسبوعياً؛ وقناة «الحرة»، وهي شبكة تبث إرسالها إلى 22 دولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عبر القمر الصناعي، بالإضافة إلى قناة «الحرة-العراق». وكان ألبرتو قد نشر تغريدة يصف فيها قرار إقالته بـ«المتعجل»، مضيفاً أنه يتمنى «الخير للمسؤولين الحاليين في الوكالة الأميركية للإعلام العالمي. وأرجو أن يكونوا على علم بما يفعلونه».

وفي هذا السياق، صرح جيمس كيه غلاسمان، الجمهوري الذي كان المسؤول الوحيد الذي جمع بين رئاسة وكالة الإعلام العالمي الحكومية وعمله كنائب وزير الخارجية لشؤون الدبلوماسية العامة، لـ«المجلة»بأنه من المستحيل في الوقت الراهن معرفة تأثير التغييرات التي سينفذها الرئيس الجديد للوكالة على التغطية الإعلامية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال ودبلوماسية الحكومة الأميركية في المنطقة، إلا أنه «مندهش ومنزعج من المؤشرات الأولية». وأضاف: «دون تعيين رؤساء جدد للشبكات، أقال السيد باك في إجراء متعجل جميع القيادات العليا في الوكالة، بمن فيهم ألبرتو فيرنانديز مدير شبكة الشرق الأوسط للإرسال، وهو متحدث متقن للعربية ويحظى بتقدير بالغ في واشنطن وجميع أنحاء المنطقة».

كما قدم روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، تأييداً علنياً لمدير شبكة الشرق الأوسط للإرسال المُقال، إذ كتب على موقع «تويتر»: «إنه قائد مثالي، ذو رؤية وقدرة إبداعية وكفاءة- ويتسم عمل بلادنا الدبلوماسي بتحسن كبير اليوم بفضل إسهامه المتميز».

وصرح موفق حرب، أول رئيس إخباري لقناة «الحرة»والذي تولى المنصب منذ عام 2004 إلى 2006، لـ«المجلة»بأن دور القناة في محيط الإعلام العربي شديد التنافسية هو تعزيز الحرية والديمقراطية عبر نشر أخبار دقيقة ومهمة عن الولايات المتحدة والعالم باللغة العربية، مضيفاً أن «أفضل ما يخدم قضية الحرية والديمقراطية هو أن يصبح الناس على علم كافٍ حتى يمكنهم الأخذ باختيار مستنير».

وبينما لا يوجد رأي عربي موحد، يعلم الدبلوماسيون الذين عملوا في العالم العربي بوجود الكثير من العرب الذين ينتقدون السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة، وينظرون إليها بارتياب شديد. ولا شك في أن ذلك تفاقم إثر المشكلة القديمة المتعلقة بنشر الدعاية والمعلومات المغلوطة في العالم العربي والتي تسعى الولايات المتحدة إلى مكافحتها عبر منافذ إعلامية مثل قناة «الحرة».

ويقول حرب إنه في حين تستهدف قناة «الحرة»جمهوراً مُدَرَّباً بالفعل على رصد الدعاية، فهو يأمل أن لا تثير التغييرات الجديدة في إدارة الوكالة الأميركية للإعلام العالمي «الشكوك، وتحاول بدلاً من ذلك تعزيز مصداقية هذه الشبكة وموضوعيتها».

«صوت الملالي»

يمكن أن تصبح وسائل الإعلام ذات فائدة خاصة في فتح الحوار وتنمية الثقة بين البلدان التي تقل فيها فرص إقامة علاقات دبلوماسية تقليدية مباشرة، كما هو الحال في إيران، حيث تحظر الحكومة أطباق التقاط إشارة القمر الصناعي والوصول عبر الإنترنت إلى الإعلام العالمي. ولكن استطاعت إذاعة «صوت أميركا بالفارسية»،وإذاعة «فاردا»(بالتعاون مع إذاعة «أوروبا الحرة»)، الهروب من الرقابة والوصول إلى 23.4 في المائة من الإيرانيين الذين يتابعون مصادر الوكالة الأميركية للإعلام العالمي أسبوعياً.

ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وفي ظل وجودها العسكري المتزايد في الشرق الأوسط، تسعى الولايات المتحدة إلى توسعة نطاق الإرسال المرتكز حول إيران. وفي عام 2002، أطلق ما كان يسمى حينئذ مجلس محافظي الإذاعة (راديو فاردا)، بهدف تقوية مساعيه الإذاعية السابقة. وطوال العقد الأول من الألفية الجديدة، تم التوسع في تمويل المحتوى الإيراني. وفي عام 2006، اعتمدت إدارة بوش والكونغرس الأميركي صندوق الديمقراطية في إيران، والذي يخصص عشرات الملايين من الدولارات لمجلس محافظي الإذاعة.

وعلى الرغم من خفوت هذه الجهود تحت إدارة أوباما، فقد تصاعدت في ظل استراتيجية «الضغوط القصوى»التي يمارسها الرئيس دونالد ترامب. وكان مشروع القانون لمخصصات العام المالي 2019 لوزارة الخارجية قد وجه بوضوح وزير الخارجية مايك بومبيو إلى التشاور مع الوكالة الأميركية للإعلام العالمي من أجل تنسيق «برامج مواجهة النفوذ»ضد إيران.

وكان المبعوث الأميركي الخاص إلى إيران براين هوك قد كتب في «نيويورك بوست»في مايو (أيار)، متهماً «صوت أميركا»بأنها أصبحت صوت إيران. 

وتساءل هوك، الذي يعمل أيضاً مستشاراً لوزير الخارجية مايك بومبيو: «لماذا يُمول دافعو الضرائب الأميركيون (صوت الملالي) في إيران؟».

وأضاف: «يقول المشاهدون الإيرانيون إن البرامج التي يمولها دافعو الضرائب الأميركيون أحياناً ما تبدو (صوت الملالي) وليست (صوت أميركا)». 

كما طالب «صوت أميركا بالفارسية»بتسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان في إيران والفساد داخل الحكومة الإيرانية ومواجهة دعاية طهران، محذراً: «إذا لم تستطع الوفاء بهذه المعايير- قريباً- يجب أن ينظر الكونغرس في وقف تمويلها، وغلق (صوت أميركا بالفارسية) من منطلق واجبه كمؤتمن أمام دافعي الضرائب الأميركيين».

وبينما واجهت «صوت أميركا بالفارسية»على مدار أعوام شكاوى تزعم أن الإذاعة تبدي تحيزاً موالياً لإيران، جعلت حملة الإقالات وتغيير التوجه التحريري لـ«صوت أميركا بالفارسية»وسط تصاعد حدة الصراع الأميركي- الإيراني، من السهل رؤية إلى أي مدى يمكن أن تُمحى الخطوط المشوشة بالفعل التي تفصل بين الحكومة الأميركية والإعلام الذي ترعاه الحكومة الأميركية.

وأوضح حرب: «تحافظ كل مؤسسة إعلامية على خط تحريري، ولكن يجب أن يوجد فرق واضح بين الأخبار وسياسات الإدارة».

وأضاف: «هكذا يجب أن يكون صوت وآراء الإدارة الأميركية مسموعين وحاضرين ضمن وجهات نظر أخرى. وأرجو أن يضع المدير التنفيذي الجديد في الاعتبار أنه يقود هيئات ذات رسالة صحافية».

 

 

 

 مايكل باك في عام 2019


استقلالية التحرير في خطر

يرى بعض مساعدي ترامب منذ فترة طويلة أن إذاعة «صوت أميركا»إحدى عناصر«الدولة العميقة»، بحسب ما ذكرته وكالة أنباء «أسوشييتد برس». كذلك أعلن ترامب في الفترة الأخيرة استياءه من تغطية «صوت أميركا». وكانت إدارات سابقة قد أعربت عن خيبة أملها في «صوت أميركا»بسبب استقلاليتها التحريرية عندما لا يمكن الإملاء عليها ما تبثه، إلا أن ذلك لم يكن بالحماس ذاته الذي يبديه ترامب. 

في مطلع أبريل (نيسان)، اتهم البيت الأبيض «صوت أميركا»بالحديث بلسان أعداء أميركا، وبأنها أصبحت غرفة صدى لترديد الدعاية الصينية ومعلوماتها المغلوطة. (أنكرت «صوت أميركا»الاتهام، وذكرت أنها تبث تقارير حول وقائع حملات المعلومات المغلوطة التي تشنها كل من الصين وروسيا وإيران). 

كما وجه دان سكافينو مدير وسائل التواصل الاجتماعي في إدارة ترامب، انتقاداً مماثلاً لإذاعة «صوت أميركا»في تغريدة على «تويتر». بل وعلق ترامب على الأمر شخصياً في منتصف أبريل، إذ قال إن باك سوف «يؤدي مهمة كبيرة»في إشرافه على «صوت أميركا». وقال ترامب:«إذا سمعتم ما يصدر عن (صوت أميركا)، فهو مقزز». وأضاف: «إن ما يقولونه عن بلادنا مقزز».

ويدفع باك بأنه يهدف ببساطة إلى تجديد المؤسسات التي يشرف عليها، في حين يُصَعِّد أعداء أميركا من جهودهم الدعائية، ولكن المشرعون هاجموا المدير التنفيذي الجديد بسبب الإقالات، بالإضافة إلى حله للمجالس الاستشارية في جميع أقسام الوكالة مع وضع خطط لاستبدال مساعديه بهم. 

وقد صرح السيناتور الديمقراطي البارز روبرت مينينديز في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، بأن باك «يُفَرِّغ»الوكالة من أجل تعيين مديرين جدد يستطيع السيطرة عليهم- وهي الخطوة التي وصفها بأنها قد «تقوض دور (الوكالة) المهم»،واستقلاليتها. ووصف الإقالات بأنها «انتهاك جسيم لتاريخ هذه الوكالة ورسالتها، وقد لا تتعافى منه قط». ورد فريق باك على منتقديه في بيان صحافي عن طريق تشويه القيادات السابقة ضمنياً، متعهداً بالقضاء على «سوء الإدارة والفضائح المعروفة التي عانت منها الوكالة على مدار عقود».

ومن جهته، قال غلاسمان لـ«المجلة»: «في بيانه الصحافي الأول، أساء السيد باك دون داعٍ إلى كل من هؤلاء الذين خدموا الوكالة بإخلاص على مدار عقود ومجلس الشيوخ الأميركي. ربما تكون الإقالات والإساءة مجرد أخطاء شخص مستجد، ولكنها تثير قلقاً بالغاً».

وأضاف: «توجد خطورة كبيرة. فقد رسخت الوكالة سمعتها لما تقدمه من صحافة ذات مصداقية وموثوقية ومسؤولية على مدار ما يقرب من 80 عاماً؛ ويُمكن أن تُدَمَّر هذه السمعة في 80 دقيقة. دون مصداقية صارمة، لن تستطيع الوكالة تقديم المصالح الأميركية بفاعلية. وإذا وصل الجمهور إلى الاعتقاد بأن الوكالة ما هي إلا ذراع دعائية للحكومة الأميركية، فربما نغلقها أيضاً».

لقد لجأ المشرعون إلى تصعيد الضغط على باك هذا الأسبوع. وحدد عضو الكونغرس الديمقراطي عن نيويورك إليوت إنغل، وهو رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، موعداً لعقد جلسة استماع في الثامن من يوليو (تموز) الحالي. ولم يشر أي من باك أو الوكالة الأميركية للإعلام العالمي إلى ما إذا كان المدير التنفيذي الجديد يخطط للمثول في الجلسة للشهادة أم لا. 

وفي إجراء منفصل، أعلنت لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس أن السيناتور بوب مينينديز، طلب من القائم بأعمال المفتش العام لوزارة الخارجية التحقيق فيما إذا كانت قرارات الإقالة تنتهك لوائح فيدرالية تحمي استقلالية الوكالة الإخبارية.

وقال غلاسمان: «ربما يكون باك قائداً جيداً للوكالة. في النهاية، ما يهم ليس أسلوبه في الإدارة بل العمل الفعلي الذي سوف تنتجه شبكة الشرق الأوسط للإرسال وغيرها من الشبكات. يجب متابعة ذلك العمل عن قرب؛ من جهة قرائكم، والإعلام الأميركي والدولي، والكونغرس».

 

font change