المفاوضات رهن الإصلاحات!

لبنان.. آمال معلّقة على صندوق النقد

المفاوضات رهن الإصلاحات!


* لبنان يواجه أزمة اقتصادية غير مسبوقة.. انهيار الليرة وتعليق مفاوضات صندوق النقد
* بعد تعليق المفاوضات.. الحكومة تلتف على شروط صندوق النقد من باب «الكهرباء» وتطيح بالفرصة الأخيرة!
* الأزمة المالية في لبنان تبلغ ذروتها.. ثلاجات فارغة و4 حالات انتحار في أقل من يومين
* ثلاثة أرباع سكان لبنان سيعتمدون على المساعدات الغذائية بحلول نهاية العام
* الحجار: أخشى أن يهجرنا صندوق النقد بسبب أداء العهد وحكومته، وخسارة لبنان خشبة الخلاص الأخيرة
* نادر: الإصلاحات لم تعد كافية، لبنان بحاجة ملحّة لضخ سيولة في الاقتصاد، والعنوان الوحيد لها صندوق النقد الدولي

 
بيروت: دخل لبنان في موت سريري، حتى إن جميع المحاولات لإنعاش هذا البلد المأزوم اقتصاديا وماليا باتت عبارة عن «أكسجين وهمي» لشراء الوقت وتأخير الانفجار الاجتماعي.
 
المظاهِر الكارثية للواقع الذي يعيشه اللبنانيون تؤكّد أن البلاد ليست في طريقها إلى الانهيار، بل هي في صلبه، والجميع بات يدرك أن المركب يغرق بمن فيه، واحتمالات النجاة قد تكون مستحيلة، لا سيما مع وصول المفاوضات مع صندوق النقد الدولي إلى حائط مسدود وهو الأمل الوحيد المتبقي للشعب اللبناني.
 
سيناريوهات سوداوية
جميع الوقائع تشير إلى سيناريوهات معيشية سوداوية أمام اللبنانيين في الأشهر القادمة، في ظل ما يشهده لبنان من أزمة اقتصادية ومعيشية هي الأسوأ على الإطلاق في تاريخه الحديث، بعد أن فقدت العملة الوطنية أكثر من 80 في المائة من قيمتها في الأشهر الأخيرة.
وعلى وقع الارتفاع في الأسعار بشكل جنوني والأزمة المعيشية الحادة؛ إذ لا مبالغة إن قلنا إن الجوع في لبنان بات يقتل، فليس تفصيلا تسجيل 4 حالات انتحار في أقلّ من يومين، بسبب الأوضاع المعيشية الصعبة، وليس تفصيلا أن تفرغ ثلاجات نسبة كبيرة من اللبنانيين من الطعام، أو نبشهم للقمامة بحثا عن شيء يصلح للأكل أو مقايضة أثاث بيوتهم بالطعام والحليب والحفاضات، في الوقت الذي حذر فيه الأستاذ المساعد في برنامج الأمن الغذائي في الجامعة الأميركية في بيروت، من أنه في ظل ارتفاع الأسعار، سيعتمد ثلاثة أرباع سكان لبنان البالغ عددهم 6 ملايين نسمة على المساعدات الغذائية بحلول نهاية العام. ولكن ماذا بعد، وهل يستشعر قائد السفينة بعمق الأزمة وخطورة الوضع؟
 
المفاوضات مع صندوق النقد «on hold»
في الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة الفقر في لبنان، يبدو أن جهود السلطة السياسية الحاكمة لإنقاذ البلد الذي كان يوصف يوما ما بسويسرا الشرق، من انهيار مالي بمساعدة صندوق النقد الدولي تسير في الاتجاه العكسي. إذ يبدو أن لبنان فقد ورقة صندوق النقد بعد تعثر المفاوضات وتعليقها في انتظار البدء في تنفيذ الإصلاحات بأسرع وقت ممكن، والتوافق على مقاربة الأرقام بشكل موحد.
فكان تصريح مديرة الصندوق الشهير الذي صرّحت فيه بأسباب عدم توقع انفراجة في الأزمة الماليّة في لبنان. فيما عبّر وفد الصندوق عن امتعاضه بكلمات توحي باليأس من ملف التفاوض مع لبنان، في اجتماعه الأخير مع الوفد اللبناني؛ إذ أفضت الخلافات داخل السلطة الحاكمة بشأن تحديد حجم الخسائر الاقتصادية، ووضع تصور واضح يخرج البلد من أزمته الاقتصادية الخانقة إلى تعليق المفاوضات، وهو ما يشير إلى أن الحكومة اللبنانية فقدت الدعم الذي باستطاعته انتشال البلد من أزمة اقتصادية هي الأسوأ في تاريخه.
ويتحادث لبنان منذ شهر مايو (أيار) مع صندوق النقد الدولي بهدف الحصول على مساعدة لتمويل خطة لإنقاذ الاقتصاد، لكن تجميد المحادثات في هذا التوقيت يهدد بحسب الخبراء بجر لبنان نحو انهيار اقتصادي غير مسبوق سيزيد في حدة احتجاجات الشارع.
في هذا السياق، خشي عضو كتلة المستقبل النيابية النائب محمد الحجار، في حديث لـ«المجلة» أن «يهجرنا صندوق النقد الدولي عبر توقيف المفاوضات بسبب أداء حكومة حسان دياب والعهد، وعدم تمكننا من الاستفادة من المصدر الوحيد للمال الذي يمكن أن يؤمن سيولة لبنان وهو في أمسّ الحاجة إليها في الوقت الحالي».
وأكد الحجار أن لبنان يشهد أشد أزمة في تاريخه، في حين أن أداء الحكومة لا يتناسب مع حجم المشكلة منذ بداية تحضيراته للذهاب نحو المفاوضات مع صندوق النقد، وكذلك بخطة التعافي التي أطلقتها الحكومة والتي حضرتها بمعزل عن الأفرقاء المعنيين في هذا الموضوع لجهة مصرف لبنان والمصارف الأخرى، مما أدى إلى أرقام مختلفة وتناقض بين خطتي الحكومة والمصارف، ما أوحى بوجود وفدين يفاوضان صندوق النقد، وأدى في نهاية المطاف إلى تجميد هذه المفاوضات».
كما رأى أن «ما يجعل الأمور تستفحل وتبشر بتداعيات وخيمة على البلاد، عدم وجود نية حقيقية في الإصلاحات والتحدث عن إنجازات وهمية لا أساس لها على أرض الواقع»، معتبراً أن «كل هذه الأمور تجعل المشهد يزداد سوداوية أكثر وأكثر، وبالتالي يجعل المستقبل القريب مجهولا بالكامل».
وعما روّج الأسبوع الفائت عن «طبخة» حكومية وعودة للرئيس سعد الحريري، قال الحجار إن «مطلب مغادرة حكومة دياب هو مطلب الأغلبية الساحقة للبنانيين الذين شهدوا سوء الأداء والمقاربة والرؤية عند العهد وحكومته»، كاشفا أنه «في فترة من الفترات كان هناك من أراد طرح موضوع تشكيل حكومة جديدة، إذ روّج في مجالس الفريق الذي يرعى حكومة دياب، عن تعديل حكومي أو تغيير حكومي بالكامل، وانطرحت أيضا سيناريوهات عدة في الإعلام عن عودة الحريري».
وأشار الحجار إلى أنه «أمام المشهد الحالي، قال الحريري بشكل واضح ومباشر إنه غير مرشح لرئاسة الحكومة، ولا يريد ذلك، متحدثا عن شرطين أساسيين للعودة هما:
الأول الذهاب بشكل سريع جدا للإصلاحات، وفي مقدمتها قطاع الكهرباء الذي يشكل نصف الدين العام والمدخل الأول عبر تعيين هيئة ناظمة.
والشرط الثاني هو أن يفهم حزب الله تماماً أن العداء مع المحيط العربي والغربي ليس لمصلحة لبنان، مشيراً إلى أن هذين الشرطين في تقديرهم لا يمكن تطبيقهما مع وجود هذا العهد وفي هذا الظرف، وبالتالي «لن يكون الرئيس الحريري رئيسا للحكومة فيما تبقى من عهد الرئيس ميشال عون».
 
كاميرا الوكالة الفرنسية توثق ثلاجات اللبنانيين الفارغة

التوجه نحو الشرق
 وعن خطة التوجه شرقا، رأى الحجار أن «ما طرحه الأمين العام لحزب الله مؤخرا عبر الإيحاء بأن هناك مخارج أخرى للوضع الاقتصادي السيئ في لبنان غير صندوق النقد هو التوجّه نحو الشرق، إذ ثمة علامات استفهام عديدة حول جدية وعقلانية هذا الطرح»، متسائلا: «هل يستطيع العراق في ظل قانون قيصر أن يقدم شيئا للبنان، وعن أي طريق، وكيف؟».
وعن اللقاءات التي قام بها الرئيس دياب وبعض الوزراء مع مسؤولين صينيين، وأن الحرير قادم من الصين، يشبه حديث دياب عن القيام بـ97 في المائة من الإنجازات، بحسب الحجار، وتابع: «لا شك أن الصين دولة عظمى، لكن لديها أيضًا شروطها».
وفي الختام، شدّد الحجار على أن «ما نراه اليوم هو مجرد كلام، بينما الحل هو تغيير المقاربة وطريقة تعاطي العهد وحكومته مع الأزمة لأن الوضع صعب جدا».
 
محاولات الإنعاش الأخيرة
ومع تعثّر خطّة الحكومة الاقتصادية، ووصول مسار التفاوض مع صندوق النقد إلى حائط مسدود، باتت حكومة حسان دياب خالية الوفاض من أي أوراق يمكن الرهان عليها في مواجهة الأزمة النقديّة، ويبدو أن الحكومة قد حزمت أمرها أخيراً وقرّرت أن تخطو أولى الخطوات في المسار ‏الإصلاحي، بدءا من قطاع الكهرباء عبر تعيين يوم الثلاثاء الفائت مجلس إدارة جديد لمؤسسة كهرباء ‏لبنان الشاغر منذ سنوات طويلة، وهو من أبرز ‏شروط صندوق النقد لاستئناف المفاوضات مع وزارة المال. إضافة إلى ‏مبادرة مصرف لبنان لتقديم ما يلزم لتوحيد الأرقام مع وزارة المال، ليتمكن من إقناع ‏الصندوق بالتفاوض، انطلاقاً من التسليم بصحة أرقام الصندوق فيما خص الحسابات ‏المالية والخسائر، فضلاً عن إقرار قانون الكابيتول كونترول. فهل تنجح محاولات الإنعاش الأخيرة؟
يبدو أن الحال كما وصفه رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، تعليقا على التعيينات «الكهربائية»: «اعوجاج في البداية سيؤدي حكماً إلى اعوجاج في النتائج»، نظرا لتجريد الهيئة من صلاحياتها، كما هو مقترح، لتصبح بالتالي مجرد هيئة استشارية لوزير الطاقة. فيما رأى رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، أنّ في التعيينات الحكوميّة «أكل على أبو جنب»، على حساب الكفاءة والطوائف، ومنها الدروز، مع ابتلاع قطاع الكهرباء والهيئة الناظمة بدل الإصلاح المطلوب».
 
مصير المفوضات مع صندوق النقد
في هذا السياق، قال الخبير الاقتصادي ومحلل شؤون الشرق الأوسط، الدكتور سامي نادر، لـ«المجلة» إن «المفاوضات مع صندوق النقد اصطدمت مع نظام المحاصصة في لبنان ولذلك عُلّقت، وهو ما يعني أن المفاوضات اصطدمت بمصالح القوى النافذة بمكوناتها السياسية، النقدية، والمصرفية التي لم تقبل بتوزيع الكلفة كما جاء في خطة «لازار»، مشيراً إلى أن «هذا الخلاف على الأرقام يخفي خلافا على المصالح العميقة، إذ كان هناك رفض لاقتراح توزيع كلفة الأزمة (أي كيفية توزيع الخسائر) عبر تحميلها لمصرف لبنان المركزي والمصارف، إضافة إلى الـ(haircut) على أموال كبار المودعين».
وأكد نادر أنه «لا يمكن مفاوضة صندوق النقد دون امتلاك خارطة طريق وتقييم للوضع النقدي، علما بأن تقييم مصرف لبنان أقرب من ورقة لازار»، مشيراً إلى أن «الخسائر التي حددها المركزي هي أكبر من تلك التي حددها الأخير».
كما شدّد نادر على أن «الحكومة اليوم أمام أزمتين، أزمة خارطة طريق تفاوض على أساسها، وأزمة تشكيل وفد للتفاوض، لذلك فالمفاوضات معلقة ريثما يتم تحديد الخطة الجديدة»، مشيراً إلى أن «هذه المرة ستكون المهمة أصعب، لأن صندوق النقد سيكون متشدداً أكثر مع تغيير المفاوضين خطتهم»، لافتا إلى أن «صندوق النقد لا تنطلي عليه ألاعيب السلطة اللبنانية، لا سيما أنه متابع للوضع اللبناني منذ التسعينات، وبالتالي يعرف حقائق الأمور وأدق التفاصيل، لذا فإن محاولة التغطية على الخسائر وتجميل الواقع لن تنجح».
 
مسعفون يحملون جثة رجل يبلغ من العمر 61 عامًا، انتحر بسبب التباطؤ الاقتصادي المتزايد في البلاد، إلى تابوت في شارع الحمرا بالعاصمة بيروت

الإصلاحات أولا.. ولكن
إلى ذلك، أكد نادر أن المفتاح لأي مساعدة مادية يبدأ من باب الإصلاحات، وحتى الساعة لم تخط الحكومة اللبنانية خطوة واحدة في هذا الاتجاه، إن كان على مستوى الكهرباء، أو الجمارك والتهريب والمعابر التي تستنزف ما تبقى من احتياطي المصرف المركزي، إضافة إلى الإصلاحات على مستوى استقلالية القضاء.
ولفت نادر إلى أن «ثمة سلّة من الإصلاحات خصوصا تلك المذكورة بمؤتمر (سيدر) والتي يطالب فيها المجتمع الدولي كشرط أساسي لتقديم المساعدات للبنان، وحتى الساعة لا جدية ملموسة من قبل السلطات اللبنانية التي تحاول أحيانا الالتفاف عليها عبر تقديم إصلاحات شكلية لا تقنع المجتمع الدولي، كالإصلاحات الإدارية».
 
وبحسب نادر، فإن «الحكومة اليوم أمام اختبار تعيين مجلس إدارة جديدة لمؤسسة كهرباء لبنان كمدخل أساسي على صعيد ملف الكهرباء»، مؤكدا أن «الإصلاحات تصطدم أيضاً بنظام المحاصصة وهي عالقة، وبالتالي جميع هذه الوقائع تشير إلى أن المفاوضات أصبحت أمام حائط مسدود».
 
هل من خطة «ب»؟
أكّد نادر أنه «لا خيارات بديلة أمام السلطات اللبنانية، كما أن خيار التوجه نحو الشرق هو خيارات وهمية»، مشيراً إلى أنه «مهما كان التوجه؛ سواء كان شرقا أو غربا أو حتى شمالا وجنوبا، فالإصلاحات هي مدخل أساسي لأن أي جهة لن تقرض المال قبل أن تتأكد من أنها سوف تسترده، خصوصا وأن لبنان في حالة إفلاس».
إلى ذلك، أشار نادر إلى أنه «في حالة التوجّه شرقا، فلن يكون هناك ضخ سيولة في الاقتصاد، وسيكون هناك بأقصى حدّ تعاقد مع شركات، ولكن من سيدفع لهذه الشركات كي تنشئ محطة كهرباء على سبيل المثال؟ وعلى أي أساس سوف تأتي هذه الشركات كي تقوم بهذه الاستثمارات في ظل الأوضاع الراهنة؟»، مشددا على أن «الخيار المشرقي غير معقول سياسيا، كما أنه على المستوى الاقتصادي ليس لديه مقوّمات من دون إصلاحات».
وفي الختام، شدّد نادر على أن «الإصلاحات على أهميتها القصوى، لم تعد كافية، لأن لبنان أصبح بحاجة ملحّة لضخ سيولة في الاقتصاد، ولهذه السيولة عنوان وحيد في لبنان هو صندوق النقد الدولي».

 
 
 
font change