«آيا صوفيا»... صراع الرمز والهوية

إحياء الإمبراطوريات في زمن الدولة الحديثة

آيا صوفيا- إسطنبول

«آيا صوفيا»... صراع الرمز والهوية

* «آيا صوفيا» أحدث حلقات مسلسل السياسة الخارجية العدائية للحكومة التركية الحالية
* يبدو إهداء المواطنين الأتراك نصراً بسيطاً وغير مكلف وسيلة لاستعادة الشعبية التي خسرها إردوغان في الانتخابات البلدية الأخيرة
* تركيا اليوم جزء من صراعات إقليمية، كما أنها في توتر مستمر مع أعضاء حلف شمال الأطلسي، فضلاً عن المد والجزر المستمرين في العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية
* «المجلة» رصدت بعض ردود الفعل من سياسيين ورجال دين عبر فضاءات التواصل الاجتماعي

لندن: يشهد العالم اليوم تحول كثير من السياسات الدولية والعالمية إلى الانفتاح على الآخر، ومد جسور التعاون والتواصل بين الثقافات والحضارات، وبدا أن صفحة حروب الإبادة الدينية والثقافية صفحة تُطوى من التاريخ ليحل محلها التعاون والتفاهم بين الشعوب. لكن، وعلى الرغم من ذلك، أعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان التحرك عكس التيار بإعلانه تحويل متحف «آيا صوفيا» إلى مسجد جامع، مما أشعل موجة من الجدل على المستويات الإقليمية والدولية. 
المتحف الشهير الذي يعد أحد أقدم الكنائس في العالم، هو تحفة معمارية خالدة أدرجتها منظمة الأمم المتحدة للتراث والثقافة في قائمة التراث العالمي. هذا الصرح الذي كان من المفترض أن يكون شاهداً على تعاقب الحضارات، وإرثاً عالمياً يحكي قصة الإنسانية، أضحى اليوم مكان صراع الهويات المتقاتلة وإثبات النفوذ والسيادة، ليس فقط على الماضي بل على المستقبل أيضاً. 
آيا صوفيا اليوم هو أحدث حلقات مسلسل السياسة الخارجية العدائية للحكومة التركية الحالية، التي يختلف المحللون في تفسيرها، فالبعض يرى أنها استعادة للهوية التركية الإسلامية، وتقرّباً من الشرق ودعماً للسياسة التركية في تزعم العالم الإسلامي، وكثيرون يرون أنها استفزاز متعمد، وانقلاب رمزي على مبادئ الدولة التركية العلمانية التي تم اعتمادها مع تأسيس الدولة التركية مما يقترب من مائة عام.
 تحويل آيا صوفيا إلى مسجد جامع يشكل ضربة رمزية للكنيسة الأرثوذوكسية والحكومة اليونانيتين، في وقت يتصاعد فيه التوتر بين البلدين الذي لم يهدأ حقيقة منذ إعلان الجمهورية التركية، ومعاهدة لوزان عام 1923، فاحتلال الجزء الشمالي من جزيرة قبرص وفصلها عن جارتها اليونانية كان أحد أهم فصول هذا التوتر، تلاه غض أنقرة الطرف عن مرور اللاجئين وتسهيل مرورهم أحياناً، وصولاً إلى ابتزاز الاتحاد الأوروبي واستخدام اللاجئين والهاربين من الحروب سلاحاً بشرياً لتحقيق سطوة وكسب موقف تفاوضي بين تركيا وأوروبا. وأخيراً قضية ترسيم الحدود البحرية التي تصطف اليونان إلى جانب مصر فيها ضد حكومة السراج وتركيا اللتين وقعتا اتفاقية ترسيم الحدود البحرية منذ عدة أشهر. 

 

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان


 
خطاب شعبوي 
محولاً القضية من قضية تقنية، ثقافية، دينية، إلى قضية هوية وانتماء وتدخل خارجي، وضع الرئيس التركي الناس في حالة من النصر المزيف، في وقت بلغت فيه الليرة أدنى مستوى لها على الإطلاق، وفي وقت يعاني فيه الناس من جائحة فيروس كورونا وتبعاتها الاقتصادية والصحيّة، وهكذا يبدو إهداء المواطنين الأتراك نصراً بسيطاً وغير مكلف وسيلة لاستعادة الشعبية التي خسرها إردوغان في الانتخابات البلدية الأخيرة.
هذا الخطاب يضع المعارضة التركية في مأزق، فالمعارضة القومية حليفة العدالة والتنمية بقيادة دولت بهتشلي لا تجد غضاضة في دفع الشعور الديني التركي لارتباطه الوثيق بالقومية، لأن التدين التركي يتعدى كونه انتماء دينياً فحسب، بل يتجاوزه ليكون مرتبطاً بالهوية القومية التركيّة أيضاً. أما المعارضة الجمهورية المنافحة عن علمانية الدولة واستقلالها، فتجد نفسها في مأزق عندما تصبح قضيّة داخلية كهذه شأناً دولياً يتيح للحكومات الغربية مهاجمة الدولة أو الهوية التركيّة. لذا، وعلى الرغم من تعارض الآيديولوجيات بين حزب الشعب الجمهوري العلماني الذي أسسه أتاتورك، وحزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم حالياً، فإن تصريح المرشح السابق لرئاسة الجمهورية محرم إينجه أن آيا صوفيا شأن داخلي وليس شأناً يونانياً أو أميركياً أو إيطالياً ينبئ بالحيرة التي تسقط فيها المعارضة في كل موقف مشابه. 
المعارضة التركية بكل أطيافها، والتي اتخذت موقفاً وطنياً لحماية الديمقراطية في البلاد إثر محاولة الانقلاب الفاشل في 2016 وجدت نفسها في موقف حرج بعدما تذرعت الأجهزة الأمنية والحكومية بتطهير الشرطة والقضاء من فلول الانقلابيين وقامت بإجراء تغييرات مفصليّة في بنية وزارات الدفاع والداخلية والجيش، وقامت بتسريح واعتقال عشرات آلاف الموظفين المدنيين والمواطنين والصحافيين وترحيل آلاف الأشخاص بحجة مشاركتهم في محاولة الانقلاب. 
أهم تجليات هذا الخطاب الشعبوي هو ازدواجيته ومحاولته دغدغة المشاعر الإسلامية في العالم العربي، وتجلى ذلك في بيانين أصدرتهما رئاسة الجمهورية التركية على «تويتر»، أحدهما باللغة العربية والآخر باللغة الإنجليزية، فالبيان العربي يوضح أن تحويل آيا صوفيا لمسجد هو بشارة نحو عودة الحرية للمسجد الأقصى وهو بداية جديدة للمسلمين حول العالم من أجل الخروج من العصور المظلمة، ورمز سلام من بخارى إلى الأندلس. بينما يؤكد الحساب باللغة الإنجليزية أن آيا صوفيا سيبقى تراثاً عالمياً للإنسانية جمعاء، وأن «جامع آيا صوفيا» سيبقى مفتوحاً للمسلمين وغيرهم، والمواطنين والأجانب. 

 

كاتدرائية سانت ماري الأرمنية- غازي عنتاب- تركيا
 


 
ليست المرة الأولى
كاتدرائية سانت ماري في مدينة غازي عنتاب الأرمنية سابقاً، جنوبي تركيا، بنيت ككنيسة أرمنية، صممها المهندس المعماري الأرمني العثماني سركيس باليان للسلطان عبد الحميد الثاني، لكنها وبعد الإبادة الجماعية للأرمن وترحيل جميع الأرمن من غازي عنتاب إلى الصحراء السورية عام 1915 استخدمت كسجن إلى أن تم تحويلها إلى مسجد عام 1980 وهو يعرف اليوم باسم مسجد التحرير. وفي المدينة أيضاً الكنيسة الكاثوليكية الأرمنية «كيندرلي»، التي بنيت عام 1860، تم تحويلها إلى مركز ثقافي ما زال الاتحاد الأوروبي يمول إعادة تأهيلها وترميمها بصفتها مركزاً ثقافياً لا كنيسة سابقة.
 
خيبة أمل دولية
القرار شكّل صدمة دولية، وواجهت تركيا ورئيسها انتقادات واسعة، هذا التحرك يضرب وتراً حساساً لدى كثير من المسيحيين الذين يعتبرون المبنى نقطة محورية في عقيدتهم المسيحية الأرثوذكسية. وعليه، عبر البابا فرنسيس عن ألمه للقرار، وقال «فكري مشغول بإسطنبول، أفكر في القديسة صوفيا والألم يعتصرني»، جاء تصريحه بعد موقف المجلس العالمي للكنائس الذي يمثل 350 كنيسة، والذي وجه رسالة إلى الرئيس إردوغان عبر فيها عن «الحزن والاستياء»، وعن أن إردوغان «قلب الإشارة الإيجابية بوجود آيا صوفيا ليجعل منها إشارة استبعاد وانقسام»، وأن هذا القرار يهدد بتشجيع «طموحات مجموعات أخرى، خارج تركيا، تسعى إلى تغيير الأمر الواقع وإحياء الانقسامات بين المجتمعات الدينية».
منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم (اليونيسكو) أعربت عن «أسفها الشديد» لقرار تركيا تحويل موقع «آيا صوفيا»، المُدرج في قائمة التراث العالمي، إلى مسجد، قائلة إن ذلك تم دون أي إشعار مُسبق. وقالت المديرة العامة للمنظمة، في بيان: «آيا صوفيا تحفة معمارية وشهادة فريدة على التفاعلات بين أوروبا وآسيا على مر القرون»، مُضيفة أن وضعها كمتحف يعكس الطبيعة العالمية لتراثها، ويجعلها رمزًا قويًا للحوار. وأكدت اليونيسكو أن الدول الأعضاء بالمنظمة مُلزمة بضمان أن لا تؤثر أي تعديلات على المواقع المُدرجة في قائمة التراث العالمي على قيمتها البارزة. وشددت على ضرورة إخطار اليونيسكو مُسبقًا بأي تعديلات من هذا القبيل.
كما أعرب ماركوس غروبل مفوض الحكومة الألمانية للحريات الدينية عن أسفه للتطورات الأخيرة، موضحاً أن «للمبنى دلالات تاريخية عميقة بالنسبة للمسيحية كما هي أيضاً بالنسبة للإسلام. وفي حال حدوث تغيير في الوضع فيجب أن يظل مكاناً للقاء والتبادل بين الديانتين».
وصدر أيضاً عن مؤتمر الأساقفة الألمان موقف مشابه، دعا فيه إلى «قرار سياسي يعزز الوحدة في البلد والشعور بالتآزر بين المسلمين والمسيحيين، بدل التحريض على المرارة وتشجيع قوى التنافر».
من جانبها، وصفت وزيرة الثقافة اليونانية الخطوة، بـ«استفزاز العالم المتحضر»، ودعا وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى التراجع عن خطة تحويل المعلم التاريخي الذي تعتبره منظمة اليونسكو «إرثًا تاريخيًا».
وفي أوّل تعليق رسمي من حكومة عربية، قالت وزيرة الثقافة والشباب في الإمارات، نورة بنت محمد الكعبي، إن التراث الثقافي يمثل إرثاً بشرياً تجب المحافظة عليه وعدم استغلاله وتغيير واقعه عبر إدخال تعديلات تمس جوهره الإنساني.
وتابعت الكعبي في بيان لها إن تغيير وضع «آيا صوفيا» في إسطنبول لم يراع القيمة الإنسانية لهذا المعلم التاريخي، الذي لطالما شكل إرثاً عالمياً وقيمة ثقافية وتراثية، وجسراً لتقريب الشعوب وتعزيز الروابط المشتركة فيما بينها.
القرار خلق أيضاً جدلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي، شخصيات دينية وسياسية عدة شاركت في شجب الموقف التركي... 
«المجلة» رصدت بعض ردود الأفعال من سياسيين ورجال دين عبر فضاءات التواصل الاجتماعي، التي لم تخل من الاحتقان والهجمات المتبادلة والاتهامات بالعمالة والتخوين.  
 

أعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان التحرك عكس التيار بتحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد جامع


الكاتب والباحث الدكتور عمار عرب، كتب على «فيسبوك»: «إن موضوع تحويل آياصوفيا لمسجد لا يهمني لا من قريب ولا من بعيد.. الموضوع سياسي شعبوي وله رمزية معينة عند إردوغان (...)، بأن كل أركان الانقلاب العثماني على العلمانية التركية قد اكتملت... ولذلك جن جنون إردوغان عندما خسر حزبه بلدية إسطنبول في الانتخابات البلدية... فقد خطط السلطان لكل هذا السيناريو وخاف أن ينغص عليه الحزب المعارض الذي يدير إسطنبول مسعاه هذا (...) يبدو أن إردوغان مصمم على حجر تركيا داخل ماضيها ومنعها من الانتقال إلى المستقبل... وهو بهذه الخطوة التي فعلها يقول للغرب إن الإمبراطورية العثمانية التي دمرتها بعض دول أوروبا قد عادت، وهي جاهزة للمواجهة مرة أخرى... برأيي إن جنون العظمة هذا عند العثمانيين الجدد قد يكون سببا في تدمير تركيا مرة أخرى، إن لم يأت الإنقاذ من الداخل ومن الشعب التركي نفسه».
الباحث الدكتور محمد الحبش كتب أيضاً: «زرت آيا صوفيا... وهو قطعة مذهلة من التاريخ... وكم تمنيت أن يكون آيا صوفيا معبداً للأديان... يصلي فيه المسلمون صلاتهم والمسيحيون صلاتهم.. (كما كان المسجد الأموي من عهد عمر بن الخطاب إلى عهد الوليد) وتقام بينهما جوقة الفرح تغني للإيمان... وتخصص فيه منصات للحائرين الباحثين عن الله فالبناء كبير وهو يتسع للمؤمنين من كل الأمم.. وينتهي عهد الثأر والانتقام إلى عصر الحب والوئام... ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله».
وكتب الناشط السياسي جوزيف مكربنه، عن سيناريو تحويل المسجد الأقصى إلى هيكل سليمان: «لن نكون إلا في الصفوف الأولى مع إخوتنا المسلمين للدفاع عن أحد أهم معالمهم الدينية... تماماً كما فعل أجدادنا المسيحيون عندما تصدوا للحروب السياسية (التي سميت بالصليبية) على مسلمي ومسيحيي الشرق... العالم اليوم وفي القرن الحادي والعشرين يتجه إلى العيش المشترك ونبذ التطرف والتعصب والطائفية وتمازج الحضارات بحيث تكون رفعة وكرامة الإنسان هي الهدف... وسموه لا يكون إلا باحترامه للآخر بغض النظر عن لونه وعرقه ودينه... آيا صوفيا كانت وستبقى ملكا للتراث الإنساني... كانت وستبقى معبد كل من دينه الإنسانية... أرجو أن لا يعتبر المسيحيون ذلك خسارة لهم... وأن لا يعتبر المسلمون ذلك مكسباً لهم... الربح هو أن نبقى إخوة وأبناء أرض طيبة طاهرة تجمعنا... والخسارة أن نختلف ونصبح وقوداً للدمار والخراب.. ونسمح بأن يكون الدين أفيوناً... بينما العالم الذي عانى من ذلك منذ مئات السنوات وفهم المعادلة يتقدم إلى الأمام».
وعقّبت الفنانة عبير نعمة، في منشور على «إنستغرام»: «لا تُبنى الأوطان بالتحدي والعنصرية أو باستفزاز ذاكرة الناس الجماعية... هل تنقص هذه المنطقة صراعات كي نعيد إشعال صراعات جديدة؟».
يرى محللون أن تركيّا تتجه إلى الشرق بعد أن نفد صبرها ويئست من أن تكون عضواً في الاتحاد الأوروبي، وهذا مفهوم في ظل صعود اليمين الأوروبي المتطرف وتغيّر السياسة الخارجيّة التركيّة من صفر مشاكل مع دول الجوار إلى توتر مع حلفاء حاليين لها في حلف شمال الأطلسي خلال السنوات الماضية.
لكن هذا الأمر لا يبدو دقيقاً عند النظر إلى علاقاتها الخارجية مع الشرق أيضاً، فتركيا اليوم جزء من صراعات إقليمية في ليبيا وسوريا والعراق، كما أنها في حالة توتر مستمر مع أعضاء حلف شمال الأطلسي، مثل اليونان وفرنسا وهولندا وألمانيا، فضلاً عن المد والجزر المستمرين في العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية. 
في الوقت الذي يمكن أن تلعب تركيا دوراً محورياً في بناء التماسك والتفاهم الإقليميين والدوليين، تبدو أنقرة تائهة بين الشرق والغرب وحائرة بين ماضي السلطنة ومستقبل الدولة.

font change