مبادرات إنسانية تلقائية

هكذا واجه اللبنانيون انفجار مرفأ بيروت

مبادرات إنسانية تلقائية


* ناصيف: كثير من العمليات الجراحية كان يتم إجراؤها على ضوء الهاتف
* نصولي: محطات الرصد الإشعاعي المبكر لم تسجل أي رصد لمواد مشعة على الإطلاق
* سويدان: استطعنا تأمين  55 منزلا في غضون ساعات قليلة
* خوري: ما يجري يلغي كل مقومات الأمل لدى الشعب اللبناني

بيروت: صوت قوي وكتلة حمراء في سماء العاصمة، ما هي إلا دقائق معدودة حتّى تبيّن أن الحادث وقع في الشريان الحيوي الوحيد المتبقي في بلاد الأرز، إنه مرفأ بيروت. الأبنية مهدمة والزجاج متناثر، الناس في الشوارع والجرحى على الأرض، واجهات المحال التجارية التي لم تقفل بسبب الأزمة الاقتصادية مدمرّة، وأصوات سيارات الإسعاف  تعلو كل صوت.
تبدأ الأخبار بالتوارد، إنه انفجار ناجم عن 2750 طنا من مادة نترات الأمونيوم كانت مخزنة منذ 6 سنوات في العنبر رقم 12 في المرفأ. ومع هذه الكارثة بات 300 ألف شخص في عداد المشردين في بيروت حسبما أعلن محافظ العاصمة مروان عبود.
أمام هذا المشهد، أطلقت جمعيات أهلية لبنانية وناشطون مستقلون مبادرات متعددة لمساعدة العائلات المتضررة من الانفجار، الثلاثاء الماضي، حيث أودى هذا الانفجار بحياة  135 شخصا حتى الساعة، فيما تجاوز عدد الجرحى الخمسة آلاف شخص، ولا يزال العديد من الأشخاص مفقودين، بالإضافة إلى تضرر عدد كبير من المباني السكنية، وأصبح جزء كبير منها غير صالح للسكن.
 
حملات تطوعية
هكذا، وجد الكثير من اللبنانيين أنفسهم مدعوين لمد يد العون لسكان العاصمة، وهذا ما فعلته الناشطة ندى ناصيف التي توجهت من بلدتها الواقعة في جبل لبنان إلى ساحة الشهداء وسط العاصمة. وتقول ناصيف في حديث لـ«المجلة» إنها شكلت مع مجموعة كبيرة من الناشطين «خلية أزمة لتقديم الإغاثة لأهالي بيروت، فقمنا بتقسيم أنفسنا إلى مجموعتين، الأولى تولت  تنظيف الحطام الناجم عن الانفجار في منطقة الجميزة ومار مخايل المحاذيين للمرفأ، فيما قامت المجموعة الثانية بنصب خيمة لاستقبال المساعدات في ساحة الشهداء وأخرى في الجميزة».
وعن كيفية تكوين هذه المجموعة، تستذكر ناصيف الحرائق التي أصابت لبنان السنة الماضية، وتُشير إلى أنهم أنشأوا مجموعة عبر تطبيق الواتساب منذ ذلك الحين للمساعدة في مواجهة هذه الحرائق.
وتُكمل ناصيف: «فور مشاهدتنا للأضرار الناجمة عن انفجار المرفأ وجدت المجموعة أن من واجبها المساهمة في رفع هذه الأضرار خصوصاً أن الدولة لم تقم بتقديم الاستجابة المطلوبة». وتختصر ناصيف تقصير الدولة بأن «الكثير من العمليات الجراحية كان يتم إجراؤها على ضوء الهاتف».
ولا تختلف قصة ناصيف عن قصة الناشط عمر العريضي الذي سرعان ما قام برفقة مجموعة من الناشطين الذين بلغ عددهم 15 شخصا ليصل العدد إلى أكثر من 100 متطوع بفضل الدعوات التي وجهت عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتقديم المساعدة لأهالي العاصمة، يشرح العريضي آلية العمل الذي يقومون به في حديث لـ«المجلة»، فيقول: «قمنا بالعمل على ثلاثة محاور أساسية، الأول تمثل بمساعدة أصحاب المنازل  المدمرة جزئياً على إزالة الركام وكذلك تنظيف الأحياء، والمحور الثاني تضمن جمع التبرعات والمساعدات العينية وإعادة توزيعها على الأشخاص المتضررين، أما المحور الثالث فقد ضم الأشخاص الذين يتمتعون بخبرة في مجال الإسعافات الأولية وقاموا بمساعدة الجرحى».
ويُضيف العريضي أن «ثمة تعاونا بين هذه الفرق الثلاثة، فعند قيام أي مجموعة بتنظيف أحد المنازل يتواصلون مع المجموعة الأخرى لتأمين الاحتياجات الأساسية التي يحتاج إليها المنزل».
ويثني العريضي على التجاوب الكبير من قبل المواطنين حيث وصل عدد المتطوعين إلى أكثر من 100 شخص بفضل الدعوات التي وجهت عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ويؤكد العريضي أن هذه المبادرة لم تتلق أي مساعدة من الجهات الرسمية، ويُضيف: «المساعدات وصلتنا بشكل أساسي من المواطنين من مختلف المناطق اللبنانية، فهؤلاء كانوا متحمسين لتقديم المساعدة ولكن العائق الجغرافي يحول دون تمكنهم من ذلك، لذا كان هناك تعاون وتكامل بيننا، بحيث قاموا بجمع التبرعات العينية وإرسالها لنا».
ويرى العريضي أن «هناك تقصيرا كبيرا من الدولة، خصوصاً أنها لا تملك القدرات الكافية، فالدولة ومؤسساتها الإغاثية، ولا سيما الهيئة العليا للإغاثة، لا تملك الأموال المطلوبة لمواجهة هذه الأزمة. كما أنها لا تملك الخطط السريعة للاستجابة لهذا النوع من الحوادث. لذا نرى أن ناشطي المجتمع المدني في المقدمة». ويضيف أن «الصعوبات التي واجهتنا تتمثل بشكل أساسي في الوصول إلى بعض المناطق التي يمنع الدخول إليها بسبب مخاوف تتعلّق بسلامة الأبنية واحتمالات انهيارها، فضلاً عن زحمة السير الخانقة التي تؤخر وصول المساعدات».
 
جرحى ينتظرون تلقي المساعدة خارج مستشفى في العاصمة اللبنانية عقب انفجار مرفأ بيروت (غيتي)

مخاطر يتعرض لها المتطوعون
كما يلفت العريضي إلى أن «المجموعة مستمرة بعملها لنهاية الأسبوع على أقل تقدير، وطالما أننا نحصل على الدعم المطلوب من المواطنين فنحن لن نبخل بتقديم الجهد والمساعدة المطلوبة».
إلا أن البقاء ضمن المنطقة المحيطة بالمرفأ قد تحيطه بعض المخاطر بسبب الملوثات المنتشرة في الهواء، لذا تنصح مديرة مركز حماية الطبيعة في الجامعة الأميركية في بيروت نجاة صليبا في حديث لـ«المجلة» المتطوعين «بارتداء أقنعة الوجه بشكل دائم لأن هناك الكثير من الغبار في الهواء، فضلاً عن الزجاج المطحون»، كما تلفت صليبا إلى «ضرورة التزام كبار السن والأطفال بالبقاء في المنازل».
وترى صليبا أن «النتائج النهائية لتلوث الهواء التي قد يسببها هذا الانفجار وتقييم مدى خطورة تواجد المتطوعين في ساحة الشهداء القريبة من المرفأ تحتاج إلى ثلاثة أسابيع كحد أدنى، وذلك وفقاً للبروتوكولات المعمول بها». وتُضيف صليبا أنه «من المرجح عدم وجود  أي إشعاعات في الهواء أو التربة، فهلع اللبنانيين في الساعات الأولى للانفجار كان نتيجة مشاهدتهم للسحابة الحمراء الناجمة عن الانفجار، لكن تحليلنا أشار إلى أن مادة نترات الأمونيوم لا يمكن أن تؤدي إلى إشعاعات». وتُكمل صليبا: «هذه المادة لا تنفجر من تلقاء نفسها ولم يتبيّن لنا المواد التي أدت إلى انفجارها، لذا نحن بانتظار التحقيقات للتأكد من كل هذه المعطيات».
وفي السياق عينه، قال مدير الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية الدكتور بلال نصولي لـ«المجلة» إن هناك «26 محطة رصد إشعاعي مبكر في لبنان، يوجد اثنتان منها في بيروت، ولم يسجل فيها أي ترصد لمواد مشعة على الإطلاق». ولفت إلى أن الجيش اللبناني تولى مهمة أخذ عينات من الهواء والمياه والتربة لتقييم المخاطر الناجمة عن الانفجار، ولفت إلى أن «ارتداء أقنعة الوجه من قبل المتطوعين سيكون كافيا لحمايتهم».
 
مبادرات مناطقية
ولم تقتصر المبادرات والحملات الإنسانية على العاصمة بيروت، ففي مدينة طرابلس، شمال لبنان، قام المهندس المعماري محمد أبرش مع مجموعة من 20 شخصا بإطلاق مبادرة تهدف لطلاء المنازل المتضررة، ويقول أبرش في حديث  لـ«المجلة» إن «مشاهد الانفجار دفعتنا إلى المسارعة في التفكير بإيجاد طريقة لتقديم المساعدة، فقمنا بكتابة إعلان ونشره عبر وسائل التواصل الاجتماعي ندعو من خلاله أصحاب المنازل المتضررة للتواصل معنا من أجل القيام بطلائها، خصوصاً أنه سبق لنا أن قمنا بالعديد من الأنشطة التي تهدف إلى تجميل مدينتنا».
ويُتابع أبرش: «لقد تلقينا لغاية الآن 15 طلبا للمساعدة، ونحن نعمل حالياً على تأمين المواد العينية للمباشرة بالتنفيذ».
وكما في أقصى الشمال، كذلك في أقصى الجنوب، لم تنتظر سارة سويدان كثيراً قبل أن تتواصل مع أصدقائها «الذين جمعتني بهم ثورة 17 تشرين الناجمة عن تقاعس السلطة في جميع المجالات» وفقا لما قالت لـ«المجلة».
وتُتابع سويدان: «قمنا بإنشاء خلية أزمة في صور وركزنا بشكل أساسي على تأمين منازل إيواء في المدينة والجوار لاستقبال أصحاب المنازل التي لم تعد صالحة للسكن». وتلفت سويدان إلى أن «حجم الاستجابة من المواطنين كان كبيراً جداً بحيث استطاعوا تأمين 55 منزلا في غضون ساعات قليلة».
وتُشير سويدان إلى أن هذا التجاوب «دفعنا إلى توسيع نطاق حملتنا من خلال التواصل مع مجموعات ناشطة في بيروت للوصول إلى الفئات المستهدفة وتقديم المنازل لها، كما قمنا بجمع حملة تبرعات لشراء مواد عينية كالمياه والمكانس وأقنعة الوجه وغيرها وأرسلناها إلى بيروت».
ولفتت سويدان إلى أن «المتطوعين قاموا بتقسيم أنفسهم إلى مجموعات، الأولى توجهت إلى بيروت للعمل مع الناشطين هناك، والثانية تهتم باستقبال وجمع المساعدات من الناس، والثالثة تتولى ترتيب المساعدات العينية، والمجموعة الرابعة عملت على تأمين المنازل وفرز العائلات عليها».
وتختم سويدان: «لا نستطيع انتظار الدولة لتقوم بعملها لأن السلطة أوصلتنا لهذه الأزمة، لذا فإن الشعب يجب أن يتحمل المسؤولية».
 
مصابون في منطقة الأشرفية وسط العاصمة اللبنانية بيروت

نشر صور المفقودين
المبادرات الإنسانية لم تقتصر على العمل الميداني، فمن لم يتمكن من المشاركة بتقديم المساعدات، وجد طريقة أخرى للمساهمة في رفع أضرار هذه الكارثة، هكذا تحولت صفحات الكثير من اللبنانيين على مواقع التواصل الاجتماعي إلى وكالات أنباء تقوم بنشر أسماء وصور المفقودين، على أمل أن يتمكن أحد ما من التعرف عليهم وإيصال أي خبر إلى ذويهم .
 
آثار الانفجار على الجانب النفسي
دون أدنى شكّ، فإن تراكم الأزمات التي تمرّ على لبنان، تترك بصمات على الجانب النفسي، وفي هذا الصدد، يقول  الاختصاصي في علم النفس العيادي الدكتور نبيل خوري  لـ«المجلة» إن «ما يجري هو مزيج يزيد حالات التشنج العصبي والإحباط والقلق عند اللبنانيين». ويُضيف: «من الوضع الاقتصادي السيئ، مررواً بأزمة فيروس كورونا، وصولاً إلى انفجار المرفأ، كل ذلك يلغي كل مقومات الأمل لدى الشعب اللبناني ودعوة غير مباشرة إلى كل الذين شعروا بأنهم لا يملكون وطناً إلى المغادرة والهجرة».
ويُعطي خوري مثالاً حول الانعكاس النفسي لهذا الحادث على أسرة لبنانية، فيقول: «إذا كانت عائلة تُشاهد على التلفاز مشاهد الانفجار، فإن رب الأسرة سيعيش العزل والفراغ والشعور بأنه غير نافع، والوالدة تسعى لاحتضان الإحباط عند الجميع إن لم تكن محبطة، في حين أن المراهقين سيعيشون حالة من القلق والخوف من المستقبل إلى جانب النقمة على الوضع القائم».
ما حدث لم يكن صدفة، بل هو نتيجة حتمية لغياب الدولة وتخليها عن مسؤولياتها، ونتيجة طبيعية لاستشراء الفساد والمحاصصة والمحسوبية، وصورة حقيقية عن كيفية معالجة السلطات اللبنانية لمختلف الملفات، مع فارق بسيط، أن هذه الملفات والقضايا تقتل ببطء في حين أن أطنان نترات الأمونيوم تقتل جماعياً وبلحظات.
وحجم الدمار الذي لحق بالعاصمة اللبنانية لم يقتصر على الأبنية المدمرة والشوارع المتضررة والجثث المتناثرة تحت الأنقاض، بل قتل «الأمل» لدى جيل كامل من الشباب، فأمام هول الكارثة مات الجميع، ومن لم يحترق بالانفجار.. احترق قلبه على بيروت.
متطوعون يزيلون الأنقاض داخل متجر في حي الجميزة (غيتي)


 
font change