هل بدأت مصر خطة تطويق إثيوبيا؟

بعد إعلان القاهرة استمرار التفاوض حول السد... وتخوفات أديس أبابا من قواعد عسكرية على حدودها

هل بدأت مصر خطة تطويق إثيوبيا؟


* ليس في مصلحة أحد الإعلان عن عمل عسكري حتى أثناء التفاوض
* فرض سياسة الأمر الواقع على مصر والسودان مجرد أوهام لدى أديس أبابا
* لا أتصور أن تقوم مصر بإنشاء قواعد عسكرية في أرض الصومال أو جنوب السودان
* لا أحد يستطيع الجزم باستمرار مصر في المفاوضات اللانهائية
* لم يصدر تصريح مصري واحد يقول إن مصر سوف تتعامل عسكرياً مع أزمة السد
* مصر لم تكشف كل أوراقها بعد وما زالت هناك حلول مصرية غير معلن عنها

القاهرة: مع تواصل فشل مفاوضات سد النهضة الإثيوبي بين الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا)، ووسط تأكيدات مصرية متواصلة ومكثفة على لسان المسؤولين المصريين، خاصة ما صدر من تصريحات أخيرة للرئيس عبد الفتاح السيسي، أنه لا سبيل لمصر سوى التفاوض من أجل إنهاء أزمة سد النهضة، التي قد تؤدي إلى تعطيش أكثر من 100 مليون مصري، وهو ما يهدد وجود الدولة المصرية، وأمنها القومي، أعلنت إثيوبيا عن مخاوفها من نية مصر إقامة قاعدة عسكرية في أرض الصومال، المعلنة ذاتيا، وذلك على لسان المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية دينا مفتي، والذي أكد أن هذا الأمر يشكل تهديدا أمنيا لمنطقة شرق أفريقيا، وهو غير مرحب به، لأن إثيوبيا لن تسمح بوجود قواعد على حدودها. المخاوف الإثيوبية جاءت على خلفية لقاء وفد مصري منذ عدة أيام رئيس أرض الصومال موسى بيهي عبدي، في «هرجيسا»، والذي قالت إثيوبيا إنه ناقش مقترحا مصريا بإنشاء منشأة عسكرية هناك، كما تأتي التخوفات الإثيوبية أيضا بعد عدة أخبار متداولة حول نية القاهرة إنشاء قاعدة عسكرية أخرى في «باجاك» بجنوب السودان، وهو ما تم نفيه، وقالت الخارجية الإثيوبية، إن مصر لها الحق في إقامة علاقات مع أي دولة في المنطقة، ولكن لا يجب أن يتأسس ذلك على حساب دولة أخرى، كما شهدت القاهرة استقبالا للرئيس الإريتري أسياسي أفورقي، الذي ظلت بلاده على خلاف حدودي مع إثيوبيا، لا زال قائما حتى الآن رغم زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد للعاصمة الإريترية أسمرة، وإعلان السلام بين البلدين إلا أن المخاوف الإثيوبية من بناء قاعدة بحرية مصرية هناك لا يخفى على أحد.
التحركات المصرية الأخيرة هل تعطي مؤشرات على قيام الدولة المصرية بتنفيذ خططها لتطويق الجانب الإثيوبي، وإجباره على تغيير مواقفه، التي وصفتها مصر بـ«المتعنتة» وحلحلة أزمة السد، والقبول بالشروط المصرية؟ المتعلقة بفترة ملء خزان السد، والمشاركة في إدارته؟ أم إن مصر لا سبيل لها سوى التفاوض والقبول بالأمر الواقع الذي تسعى إثيوبيا لفرضه على مصر والسودان؟ وهو ما دفع «المجلة» إلى مناقشة الموضوع مع عدد من المتخصصين والخبراء العسكريين والاستراتيجيين.
جانب من محادثات سد النهضة في أديس أبابا، إثيوبيا. في 29 يناير 2018 (غيتي)
 
خطط وضغوط لتطويق إثيوبيا
الخبير العسكري ومدير معهد الدراسات الاستراتيجية بأكاديمية ناصر العسكرية العليا اللواء أركان حرب محمد سلمان، قال في تصريحات خاصة لـ«المجلة»، إن الحديث عن إنشاء قواعد عسكرية مصرية في الجوار الإثيوبي يأتي في إطار الخطط التي يمكنها تطويق الجانب الإثيوبي، وإجباره على تغيير مواقفه المتعنتة من أزمة سد النهضة، وهي تأتي ضمن الضغوط، وهناك عمل سياسي ناعم، وعمل سياسي خشن، وأخشن عمل سياسي هو الحرب، ولكن ما دون ذلك هناك ضغوط، فهل هناك تفاوض؟ نعم، خلال التفاوض هناك ضغوط تجبر المفاوض المنافس على الرضوخ للمنطق والعدل والحق، ولو افترضنا أن الجانب الإثيوبي لا يرغب في التفاوض، فهناك وسائل لإجباره على التفاوض، كما أنه هناك وسائل ضغط خلال التفاوض تظهر تعنتها وتكشف أطماعها أمام العالم والهيئات الدولية ما يجعلها تقف أمام العالم وحيدة وغير مدعومة من أية دول أو مؤسسات دولية، فليس كل التفاوض اختياريا، وهو ما نحن بصدده حاليا، حيث التفاوض بالقوة، لكن العمل العسكري ليس في مصلحة أحد الإعلان عنه حتى أثناء التفاوض، لأنه يربك عملية التفاوض نفسها، ويعطي الحجج للجانب الآخر أن يوقف التفاوض، أو يعطله، فالردع، والتصريح بالردع هو نسق من الأنساق لا بد أن يستغل في وقته، وبعد عمل الأنساق الأخرى، كي لا يتم تعقيد الأزمة.
وأضاف سلمان أن زيارة رئيس أرض الصومال، وزيارة الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي للقاهرة تؤديان عملا على أرض الواقع، فهي قد تنشئ حقيقة مادية على أرض الواقع كإنشاء قاعدة عسكرية، أو أنها سوف تؤدي دورها كورقة من أوراق الضغط، فالتلويح بالقوة ورقة من أوراق التفاوض، وقد تؤدي هذه الورقة دون التصريح بها إلى إجبار الجانب الإثيوبي على تغيير مواقفه، وحلحلة الأزمة، لأنه لا ينبغي التصريح باستخدام القوة في مثل هذا التوقيت، لأن العمل على أرض الواقع يخلق حالة من الإجبار على التنازل خلال التفاوض ورد الحقوق، ومصر لا تتفاوض من أجل الحصول على مكتسبات جديدة، ولكنها تتفاوض من أجل الحفاظ على مكتسباتها التاريخية، ومقومات وجودية للدولة المصرية.
 
وسائل متعددة
من جانبه، قال الخبير العسكري والاستراتيجي اللواء طلعت مسلم في تصريحات خاصة لـ«المجلة»، إن مصر اتبعت أكثر من وسيلة للمواجهة مع الجانب الإثيوبي فيما يخص أزمة سد النهضة وهي تعلم أن الموضوع يحتاج إلى وقت طويل، ووسائل متعددة، وبالتالي ربما تكون زيارة الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي للقاهرة إحدى هذه الوسائل، وفكرة إنشاء قاعدة عسكرية في أرض الصومال قد تكون وسيلة أخرى، وهذا يعني أننا لسنا في عجلة، لأننا في مواجهة قضية صعبة وتحتاج إلى ترتيبات متعددة، وبالتالي علينا اتباع سياسة الصبر الاستراتيجي، ونحن نؤكد في ذات الوقت أننا لسنا بالضرورة في حاجة إلى أساليب أخرى كاستخدام القوة العسكرية، أو تبرير استخدامها، وأنه لا يزال أمامنا معركة دبلوماسية يتحتم علينا السير فيها.
 
نهج جديد في العلاقات الدولية
ومن جانبه، قال مساعد وزير الخارجية الأسبق الدكتور عبد الله الأشعل في تصريحات خاصة لـ«المجلة»، إن إثيوبيا في حيرة من الموقف المصري، فهي تريد فرض سياسة الأمر الواقع وفي نفس الوقت لا تزال مصر متمسكة بالنهج الهادئ والدبلوماسي لحل الأزمة، وهي خائفة من هذه الموضوعية، وفرض سياسة الأمر الواقع على مصر والسودان مجرد أوهام لدى أديس أبابا، وفي نفس الوقت لا أتصور أن تقوم مصر بإنشاء قواعد عسكرية في أرض الصومال، أو جنوب السودان لأن جنوب السودان بينها وبين السد ما يقارب 20 كيلومترا فقط، وعلاقة مصر بدولة جنوب السودان علاقة قوية، فإذا أرادت مصر تخريب السد فهي لا تحتاج إلى قواعد عسكرية لمواجهة أزمة سد النهضة، فيمكن لمجموعة من القوات الخاصة، أو الضفادع البشرية وضع متفجرات في جسم السد وإعاقة استخدامه، وإثيوبيا لديها خشية كبيرة، من عدم التوافق حول إنهاء الأزمة، لأنها تعرف أن الهدف من استمرار مفاوضات وزراء الري في الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا) تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، تأتي في إطار تطويقها، كما أن الاتحاد الأفريقي يخشى أيضا من انفجار الموقف بين مصر وإثيوبيا، وعدم قدرته على إيجاد حلول للأزمة وتعقدها رغم سكوت مصر وعدم تصعيدها الإعلامي مع الجانب الإثيوبي ردا على تصريحات المسؤولين في أديس أبابا، وإعطائها فرصة لجميع الأطراف.
وأضاف الأشعل أنه رغم خبرته في العلاقات الدولية، فالنهج المصري المستخدم في أزمة سد النهضة لم ير مثله، فهو يمثل سابقة لأنه لا أحد يستطيع الجزم باستمرار مصر في المفاوضات اللانهائية، ولا أحد يستطيع الجزم أيضا أن مصر تفكر في حلول أخرى غير دبلوماسية أو سياسية (عسكرية)، ولكن في النهاية مصر لا تريد أن تقوم إثيوبيا بفرض سياسة الأمر الواقع عليها، لأنه في حالة جفاف النيل ستقع مصر في كارثة كبيرة، ولكن كي يجف النيل لا بد من ملء خزان السد بالكامل، والذي تبلغ سعته 74 مليار متر مكعب من المياه وهي كمية كبيرة جدا، وأنا لا أعتقد أن الأمور ستسير فيما يريده الجانب الإثيوبي، فمع الملء الأول لخزان السد والذي بلغ حوالي 4.5 مليار متر مكعب من المياه بدأت تظهر أخطاء كبيرة جدا في السد، إضافة إلى ظهور إشكالية أخرى في تراكم كميات الطمي، وهو ما سيجعلها تضطر إلى تغيير مواقفها، وإثيوبيا تنظر إلى الموقف المصري الحالي بوجهتي نظر، هما، إما أن القاهرة ترى أن هناك أخطاء في السد سوف تساهم في تعطله وعدم إكمالة، أو أن مصر تفكر في عمل آخر غير الدبلوماسية (عمل عسكري)، وهو ما يجعل أديس أبابا غير مرتاحة للنهج الذي تتخذه القاهرة حيال الأزمة، ولذلك تخرج بين الحين والآخر تصريحات مسؤولين إثيوبيين تتحدث عن استعدادات أديس أبابا للحرب على الرغم من أن مصر لم تصدر أي تصريحات، أو تلميحات باستخدام القوة العسكرية، وبصرف النظر عما تتخذه الحكومة المصرية من إجراءات فإن حقوق مصر التاريخية في مياه النهر لن تضيع، وإن النهر لن يجف أبدا.
 
من توقيع الدول الثلاث على اتفاق إجراء دراستين لقياس آثار سد النهضة على الدول المجاورة (غيتي)

طريق طويل لاجتياز الأزمة
وفي السياق، قال مساعد وزير الخارجية الأسبق السفير جمال بيومي في تصريحات خاصة لـ«المجلة»: لا توجد أزمة فنية في مشكلة سد النهضة، إنما توجد أزمة سياسية، كما أنه لا يستطيع أحد أن يمنع مياها أنزلها الله بقدر فإثيوبيا لديها فائض كبير من المياه، والأمطار، وإذا قامت باحتجاز كميات كبيرة من مياه النيل الأزرق فسوف يساهم ذلك في إغراق مساحات كبيرة من أراضيها، فما هي مصلحتها من إغراق أراضيها؟ ولهذا فأنا أؤيد سياسة النفس الطويل التي تمارسها الحكومة المصرية خاصة أن مصر عمرها يضرب في جذور التاريخ، كما أرى أن القيام بأي عمل عسكري هو عمل لا مبرر له، لأن مصر في النهاية هي الرابحة حتما، وأنا أستغرب من الموقف الإثيوبي المتعنت، ولا أدري لماذا يأخذ المسؤولون هناك هذا الموقف المتعنت ضد مصر بحيث يوحي موقفهم بأن هناك منافسة بينهم وبين مصر.
وأضاف بيومي، هناك قول معروف يقول، الذين يحاربون لا يتكلمون وأنا أؤيد النهج المصري والدبلوماسية الهادئة التي تتخذها مصر في إدارة الأزمة، فخطط مصر لتطويق إثيوبيا تأتي دبلوماسية في المقام الأول، وهي مدعومة بأصدقائنا سواء من الاتحاد الأوروبي، أو دول الجوار، مثل إريتريا وجنوب السودان، والصومال والدول التي لها تاثير في مصالح إثيوبيا، والأمم الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وما زال أمامنا طريق طويل لا بد أن نجتازه حتى نصل إلى حل، فكلما أبدينا روحا لطيفة وتعاونا تمكنا من تخطي الأزمات، أما لغة التصعيد والتعالي على الآخرين فهي لا تأتي بخير، والنهج المصري لمعالجة الأزمة يأتي في إطار الثقة بالنفس، والقضية سيتم حلها حتما.
 
سياسة التضليل والإلهاء والاستفزاز
من جانبه، قال الأستاذ بكلية الدراسات الأفريقية جامعة القاهرة الدكتور أيمن شبانة في تصريحات خاصة لـ«المجلة»، إن الفترة الحالية سوف تشهد تصعيدا إعلاميا، وسوف تشهد تصريحات سيتم نفيها وعدم تأكيدها، وهذا عمل مقصود ومتعمد خاصة من الجانب الإثيوبي، ويأتي ذلك في إطار التضليل والإلهاء، والاستفزاز ودفع مصر للقيام بسلوك عدائي تجاهها، وإثيوبيا ترغب في إعلان مصر عدم استمرارها في التفاوض حيث إن ذلك الإجراء من قبل مصر سوف يتيح لها مساحة كبيرة من الوقت قد تزيد على بضعة أشهر، يمكنها خلال هذه الفترة من استكمال ما ترغب في استكماله أو تنفيذه بهدوء، وإثيوبيا ترد على تقارير إعلامية وتقول إنها لا ترغب في وجود قواعد عسكرية على حدودها، وهذا منطقي، لأنه لا توجد دولة في العالم ترغب في وجود قواعد عسكرية على حدودها، هذا أولا، ولكن من الذي قال إن مصر سوف تقوم بإنشاء قواعد عسكرية على حدودها؟ لم يقل مسؤول مصري ذلك، ولم يصدر تصريح مصري واحد يقول إن مصر سوف تتعامل عسكريا مع أزمة السد، بل على العكس فقد وجه الرئيس المصري الرأي العام والإعلام بضرورة توخي الحذر من إطلاق تصريحات استفزازية حول السد أو هدمه، أو التلميح بلغة الحرب، لكن أنا في تقديري أن مصر لم تكشف كل أوراقها بعد، وأنه ما زالت هناك حلول مصرية غير معلن عنها، وفي تقديري أن مصر بالنسبة لملء خزان السد سوف تأخذ كل احتياطاتها، ولن تسمح باكتمال ملء السد دون اتفاق، وحاليا تم ملء المرحلة الأولية من بحيرة السد والتي تبلغ 5 مليارات متر مكعب من المياه، لم تتأثر بها مصر برغم تأثيراتها الكبيرة على السودان، وهو ما أدى لانهيار سد «بوط» وإغراق ما يزيد على 600 منزل، لكن تخزين 13 مليارا في العام القادم سوف يؤثر ذلك حتما على مصر، ومصر لن تغامر بترك الأمور دون حل حتى تحدث التأثيرات السلبية عليها، ومصر أمامها سنة كاملة من العمل الدؤوب، وليس التفاوض فقط كي تمنع إثيوبيا من تنفيذ مخططها لاستكمال ملء خزان السد وتحديد نظام تشغيله دون التنسيق مع مصر، ولن نسمح بذلك، لأنه بعدما ظهرت حقيقة النوايا الإثيوبية أعتقد أن مصر لن تتصرف بالشكل الذي يوحي بالثقة في الجانب الإثيوبي لأن إثيوبيا أظهرت أنها شريك غير موثوق به، لأنهم يقولون كلاما يتراجعون عنه ولا يلتزمون بأية تعهدات، وكانت آخر التصريحات التي خرجت عن المتحدث باسم وزارة الخارجية، أنهم لا يريدون اتفاقا ملزما، ولكنهم يريدون قواعد استرشادية يمكن العدول عنها وتغييرها حسب الظروف، وهذا الكلام غير مسموح به، ولن تقبل به مصر، وأعتقد أن مصر لم تكشف حتى الآن عن جميع أوراقها، ومن يريد الحرب لن يعلن عنها.
وقال شبانة: بالقطع هناك خطط مصرية يمكنها تطويق إثيوبيا وإجبارها على تغيير مواقفها المتعنته وأعتقد أن مصر تتعمد التأكيد على استمرارها في الحديث عن التفاوض، ولكنها في ذات الوقت سوف تتحرك بشكل فيه فاعلية خلال الفترة القادمة، ونقول باختصار إن التحرك المصري يبدو تكتيكيا في العلن، لكنه استراتيجي في الحقيقة والمضمون.
 
font change