لماذا تنقذ فرنسا لبنان؟

ماكرون باللغة العربية: «أحبك يا لبنان»... واللبنانيون للرئيس الفرنسي: «تعا وجيب الانتداب معاك»

لماذا تنقذ فرنسا لبنان؟


* يأمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في استعادة ثوب سويسرا الشرق لدولة لبنان بدلا من برقع أفغانستان الجديدة الذي لا يليق عليها
* تذكر اللبنانيون زيارة صديق لبنان الكبير الزعيم جاك شيراك لتقديم العزاء لأسرة رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، بعد التفجير الذي أودى بحياته عام 2005
* تتجاوز العلاقات الفرنسية اللبنانية الأعراف الدولية، حيث تلعب فيه اللمحات التاريخية والثقافية أبعادا ودلالات جعلت من لبنان دولة مميزة لدى فرنسا
* أصاب الرئيس الفرنسي الطبقة السياسية اللبنانية بالصدمة والذهول بلهجته الغاضبة غير المعتادة والتي تجاوزت حدود البروتوكول... ولقائه برؤساء الكتل النيابية في قصر الصنوبر
* طاف ماكرون شوارع لبنان ومنها شارع الجنرال جورو ودخل التاريخ بمشهد تفقده حي الجميزة المنكوب وسط هتافات الجماهير المصدومة ضد النظام السياسي اللبناني والمؤيدة له، وزار مرفأ بيروت المتفجر ليقيم بنفسه حجم الأضرار الناجمة في الأرواح والمعدات والمباني
* تخشى فرنسا أيضا من نشوب حرب أهلية جديدة في لبنان لهذا سارعت للتدخل حتى لا يتكرر سيناريو عام 75 فما يحدث على الأرض قد يعتبر نذيرا لحرب أهلية أخرى في لبنان
* سيكون من واجب لجنة التحقيق الدولية في الانفجار وضع آليات من أجل معاقبة المذنبين، وعلى أثر النتائج التي ستظهر سيتحدد المشهد اللبناني

  
باريس:  أعادت إطلالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأسبوع الماضي من قصر الصنوبر في بيروت اللبنانيين إلى عام 1920، حين أعلن قائد الجيش الفرنسي الجنرال جورو تأسيس دولة لبنان الكبير تحت الوصاية الفرنسية بموجب اتفاقية سايكس بيكو. هذه ليست المرّة الأولى التي يهرع فيها رئيس فرنسي لنجدة لبنان. فقد ثابر زعماء فرنسا على زيارة لبنان في الأزمات دائماً، ففي عام 1983 زار الرئيس فرنسوا ميتران، بيروت بعد استهداف مبنى يؤوي القوات الأميركية والفرنسية بشاحنتين مفخختين، ما أدى إلى مقتل 58 عسكرياً ومظلياً فرنسياً.
كما تذكر اللبنانيون زيارة صديق لبنان الكبير الزعيم جاك شيراك لتقديم العزاء لأسرة رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، بعد التفجير الذي أودى بحياته عام 2005، ركب شيراك طائرته، وحطّ في بيروت وسط تصاعد دخان الانفجار لمواساة العائلة وكان أول رئيس غربي في الجنازة بل والوحيد.  دون نسيان زيارة الرئيسين نيكولا ساركوزي في 2008 وفرنسوا هولاند في 2016.
 
لماذا ترتبط فرنسا بلبنان بهذا الشكل؟
يأمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في استعادة ثوب سويسرا الشرق لدولة لبنان بدلا من برقع أفغانستان الجديدة الذي لا يليق عليها، فطالما اعتبرت لبنان ابنة كنيسة نوتردام الفرنسية.
ففي البداية كان الأمر يتعلق لحماية الكاثوليك خلال وقت مبكر من القرن الخامس، استقر الموارنة- الملقبون بالقديس مارون- في المنطقة، ولا سيما في سوريا الكبرى. ثم لجأ هؤلاء المسيحيون الشرقيون الكاثوليك إلى جبال لبنان في القرن العاشر، وقاتلوا إلى جانب الصليبيين من أجل الاستيلاء على القدس عام 1099. مما أكسبهم حماية ملوك فرنسا والذي استمر حتى رؤسائها الحاليين. وفي عام 1516، احتلت الإمبراطورية العثمانية لبنان، ووقع فرنسوا الأول عام 1536، اتفاقية مع حاكم لبنان سليمان القانوني، والتي سمحت لفرنسا بحماية المسيحيين في المنطقة. وبعد مذابح المسيحيين في المنطقة على يد الدروز، قرر نابليون إرسال قوات فرنسية إلى هناك في عام 1861، بإذن الحلفاء الأوروبيين. ونشأت روابط ثقافية قوية في هذا الوقت، ولا سيما مع إنشاء جامعة سانت جوزيف الفرنسية عام  1875.
ثم حكمت فرنسا لبنان وسوريا خلال الانتداب (1920-1943) وهي الفترة التي نتجت عن الحرب العالمية الأولى وسقوط الإمبراطورية العثمانية، وبحسب تقسيمات اتفاقية سايكس-بيكو والتي تم تأييدها لاحقًا بقرارات من عصبة الأمم التي صدرت عام 1920 والتي أجازت نظام الانتداب على المناطق العثمانية المتفككة بحجة المساعدة في إنشاء مؤسسات للدول الجديدة. وفي ذلك الزمن، كانت متصرفية جبل لبنان مقاطعة عثمانية مستقلة عن بقية الولايات. فقام الفرنسيون بضم عدد من المدن الساحلية، جبل عامل، وسهل البقاع، والسهول الشمالية، لتتوسع المتصرفية، مما دفع لتأسيس قائد الجيش الفرنسي في المشرق الجنرال جورو لدولة لبنان الكبير.
ومنذ نوفمبر (تشرين الثاني) 1929 إلى نوفمبر (تشرين الثاني) 1931 تم تعيين المقدم شارل ديجول في هيئة الأركان العامة لقوات بلاد الشام في بيروت وعاش ثلاث سنوات، قضاها في جيش «فرنسا الحرة» وعائلته، في زمن الانتداب الفرنسي على لبنان. ولعب زعيم فرنسا الخالد دوراً كبيراً في لبنان، وهو الذي قال «في قلب كلِّ فرنسيّ جدير بالنبل، تهفّ نبضة خاصّة ما إن يسمع باسم لبنان»، وكان أوّل من أعلن استقلال لبنان بتاريخ 8 يونيو (حزيران) 1941. وبعد صراع سياسي، اتحد المسيحيون والمسلمون اللبنانيون معا فيما عرف بالميثاق الوطني اللبناني فأعلنوا استقلال لبنان تحت اسم الجمهورية اللبنانية عام 1943.
 
العلاقات الاستثنائية
تتجاوز العلاقات الفرنسية اللبنانية الأعراف الدولية بين البلدان، حيث تلعب فيه اللمحات التاريخية والثقافية أبعادا ودلالات جعلت من لبنان دولة مميزة لدى فرنسا سرعان ما تسرع إلى نجدتها أكثر من أي دولة أخرى.
فوجئ رؤساء العالم في قمة حلف الناتو مع روسيا التي استضافتها فرنسا في زمن الرئيس جاك شيراك خلال منتصف التسعينات بقصر الإليزيه أن أول وأبرز قراراتها كانت مخصصة للبنان، كما كان شيراك يدافع دائما عن لبنان في كل المحافل الدولية وكان يرفع شعارات «لبننة لبنان» و«لبنان أولا»، و«لبنان للبنانيين» وساهم في استصدار قرار 1559 من مجلس الأمن الذي اعتمد في 2 سبتمبر (أيلول) 2004  بناء على طلب من صديقه الشخصي رفيق الحريري لإخراج سوريا من لبنان، الأمر الذي عجل باغتياله، حيث أجبر مجلس الأمن سوريا على الاستجابة بشكل إيجابي لطلب لبنان بتعيين الحدود وإقامة علاقات دبلوماسية بهدف تأكيد سيادة لبنان وسلامته الإقليمية واستقلاله السياسي. حيث دعا القرار الفرنسي إلى «انسحاب جميع القوات الأجنبية المتبقية من لبنان ونزع سلاح جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتمديد سيطرة الحكومة اللبنانية على جميع الأراضي اللبنانية والاحترام الصارم لسيادة لبنان وسلامته الإقليمية ووحدته واستقلاله السياسي تحت السلطة الوحيدة والحصرية وهي الحكومة اللبنانية في جميع أنحاء لبنان».
وهكذا جرت العادة عندما يريد مجلس الأمن التصويت على قرار يتعلق بلبنان، فإن فرنسا هي التي تصوغ المسودة. ففي عام 1978، بعد الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، شاركت فرنسا في اليونيفيل المسؤولة عن مراقبة وقف إطلاق النار وهي الآن مسؤولة عن طاقم البعثة وقوات الاحتياطي. وفي عام 1996، انتهت عملية «عناقيد الغضب» الإسرائيلية فقط بفضل جهود فرنسا. وبالنسبة لفرنسا، يعتبر لبنان أيضًا نقطة دخول رئيسية إلى الجزء الشرق أوسطي من العالم.
 
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحتضن سيدة لبنانية أثناء زيارته لشارع مدمر في بيروت (غيتي)

زيارة ماكرون
لم تكن زيارة ماكرون مستغربة إثر انفجار بيروت الكارثي، وكان الرئيس ماكرون يقضي إجازته السنوية مع الأسرة في منتجعه الصيفي على ساحل الريفييرا الفرنسي  Fort Brégançonحيث قطع عطلته وقال للفرنسيين: «دورنا هو أن نكون بجانبهم، سأذهب غدا إلى بيروت للقاء اللبنانيين لأحمل لهم رسالة الأخوة والتضامن الفرنسيين. سنقوم بتقييم الوضع مع السلطات السياسية».
ووصل إلى العاصمة اللبنانية في صباح اليوم التالي وصرح في بيروت بأنه: «هنا، لكونه لبنان، ولكونها فرنسا. ومن أجلكم أنتم، ومن أجلنا نحن».
قرر رئيس الجمهورية التوجه للقاء نظيره اللبناني ميشال عون ورئيس الوزراء حسان دياب ورئيس النواب نبيه بري، الذين فوجئوا بغضب الرئيس الفرنسي والذي قال لهم إن «هناك مطالب ظلت فرنسا تحملها لكم منذ شهور وسنوات، ألا وهي إصلاحات أساسية في قطاعات معينة، فأين هي؟». وشدد على أنه «إذا لم يتم إجراء هذه الإصلاحات، فسيستمر لبنان في الغرق»، وحذر من «كون مستقبل لبنان على المحك، فهناك حاجة إلى نظام سياسي جديد في لبنان». وطالب زعماء الكتل السياسية بسرعة إجراء إصلاحات، بل وهدد بتجميد أموالهم في بنوك فرنسا إذا عاد في 1 سبتمبر (أيلول) القادم ولم يبدأوا في عملية الإصلاحات. ليعطيهم مهلة أقل من شهر لتنفيذ عملية الإصلاحات وإلا فسيتحملون مسؤولياتهم. كما دعا من بيروت إلى تحرك دولي عاجل لمساعدة المتضررين وكذلك الشعب اللبناني الذي يعاني من أزمة اقتصادية لا نظير لها.
وقد أصاب الرئيس الفرنسي الطبقة السياسية اللبنانية بالصدمة والذهول معا ليس فقط بسبب لهجته الغاضبة غير المعتادة والتي تجاوزت حدود البروتوكول والأعراف الدبلوماسية والسياسية الدولية وكأنه يحملهم هذه الكارثة، وليس بلقائه برؤساء الكتل النيابية في قصر الصنوبر، ولكن لكونه طاف شوارع لبنان ومنها شارع الجنرال جورو ودخل التاريخ بمشهد تفقده حي الجميزة المنكوب وهتافات الجماهير المصدومة ضد النظام السياسي اللبناني والمؤيدة له، وزار مرفأ بيروت المتفجر ليقيم بنفسه حجم الأضرار الناجمة في الأرواح والمعدات والمباني، والتحم بالشعب وظل يعانق الناس وتحدث معهم ويستمع لغضبهم متجاهلا «التباعد الاجتماعي» الذي يحرص عليه في فرنسا ضمن وسائل السلامة الأمنية الصحية وعكف على طمأنتهم قائلاً: «لبنان ليس وحيداً».
وقد جازف الرئيس ماكرون في هذه الظروف العصيبة والغضب الجماهيري العارم بالتحامه بالشعب الثائر والاستماع إليه مباشرة، بشجاعة في وقت لم يجرؤ فيه مسؤول لبناني واحد على النزول للشارع والالتحام بالجماهير للاستماع إليهم وطمأنتهم وكان الأجدى بهم أن يقوموا بهذا لامتصاص غضب الشعب والتأكيد على أنهم معه في هذه المحنة التي يجب أن توحد بينهم.. وفي إطار حديثه عن المساعدات الإنسانية الفرنسية العاجلة التي سيتم تقديمها إلى لبنان لمس ماكرون غضب الجماهير اللبنانية من فساد الطبقة السياسية وهو كان على علم مسبق عبر تقارير استخباراتية ودبلوماسية من السفارة الفرنسية ببيروت. قالت له مواطنة لبنانية إن كل مساعدات فرنسا لم ولن تصل للشعب اللبناني وإنما لأيادي الفاسدين، والشعب اللبناني يعاني.. فطمأنها ماكرون قائلاً: «أضمن لكم أنها لن تصل إلى أيدي الفاسدين وسوف نباشر بأنفسنا إرسال المساعدات لتصل للسكان مباشرة وللشعب وعبر الأمم المتحدة». نجح إيمانويل ماكرون في احترام سكان بيروت المنكوبة وفي جمع ممثلي الفئات اللبنانية في مشهد نادر إلى مائدة وحدة وطنية واحدة. لكن هذا الفيض من المشاعر لا بد وأن يرتقي إلى أفعال يقوم بها اللبنانيون أنفسهم ليس على مرجعيات طائفية ودينية وأجندات سياسية خارجية مزقت اللحمة اللبنانية لعقود وأوصلت البلاد إلى حروب أهلية. يعتبر الرئيس الفرنسي أن الدمار الهائل الذي حلّ بمرفأ بيروت، أحد أهم المرافق الاقتصادية في البلاد، يعمق الانهيار الاقتصادي والمالي المتعاظم فيها، حيث حوّل لبنان إلى دولة منكوبة.
وفي سابقة أولى لحاكم دولة يلتحم بالحراك الشعبي ويتعاطف معهم وينتقد بعنف السلطة الحاكمة، خطب في الجموع، ومن الجميّزة قائلا: «صراحةً لست هنا لتقديم الدعم للحكومة أو للنظام بل جئت لمساعدة الشعب اللبناني، أنا هنا لأعبّر عن تضامني معكم وجئت لأوفّر لكم الطعام والأدوية، وجئت لأبحث في موضوع الفساد وأريد مثلكم شعباً حُرّاً ومُستقلّاً»، بل ويذهب بعيدًا حين يتحدّث ماكرون عن ميثاق جديد، وذلك حين طالبه أحد اللبنانيين بدعمهم ضدّ الطبقة السياسيّة، فيما كرر: «لست هنا للتدخل في شؤون البلاد الداخلية لكني أقول لكم إن الفاسدين سوف يدفعون الثمن غالياً». ويبدو أن هذا الغضب الفرنسي عجل بسقوط الحكومة الجديدة وأوضح الرئيس الفرنسي لهم: «سأتحدث إلى جميع القوى السياسية للمطالبة باتفاق جديد، إذ يجب أن يرى اللبنانيون حياتهم تتغير للأفضل». وحث السلطات اللبنانية على سرعة التحرك: «هناك خطر الانهيار. يجب على السلطات اللبنانية أن ترتقي إلى مستوى المسؤولية حقًا، نحن مستعدون لمساعدتهم، لكن ساعدونا لمساعدتكم، اللعنة!». لذا فالتهديد الفرنسي وما قد يترتّب عليه من تبعات على تركيبة السلطة الجديدة القادمة، قد يكون أبرز العوامل التي «أيقظت» الشعور بـ«المسؤولية التاريخية» لدى الطبقات السياسية والشعبية اللبنانية. من الواضح أن لبنان ما بعد الانفجار لن يكون كما كان قبله. وقد لاحظ ماكرون شرخا كبيرا بين الشعب اللبناني والطبقة السياسية الحاكمة، وأن الانفجار كشف وجود مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية بين الشعب والحكام، وسيؤدي الانفجار إلى محاكمة ومحاسبة ليس فقط المسؤولين المتورطين في الحادث، ولكن من تورط في قضايا الفساد. ورأى في الشوارع أن لبنان الثائر بدأ يحاكم المسؤولين عن أخطاء وممارسات أفضت بالبلاد إلى ما هي عليه الآن.
عبر ماكرون عن حبه في المؤتمر الصحافي الذي عقده في بيروت، وقال باللغة العربية: «أحبك يا لبنان».
المفارقة أن الرئيس ماكرون فوجئ خلال جولته في الأشرفيّة، بهتاف اللبنانيّين هُناك باللغة الفرنسيّة: «تحيا فرنسا»، وهي الهتافات التي ترافقت مع دعوات على المنصّات بعودة الانتداب الفرنسي، بديلاً عن النظام اللبناني الحالي بزعم فساده وإفقار البلاد وإفلاس البنوك، وقد شاركت في هذه الدعوة الممثّلة اللبنانيّة كارمن لبس، وهي الحملة التي برّرها البعض بكارثيّة الوضع اللبناني المحلّي بل طالبته فئة من الشعب اللبناني  بعودة الانتداب عبر عريضة على الإنترنت وصل عدد موقعيها إلى 200 ألف، مطالبين بعودة الانتداب الفرنسي.
تحدث الرئيس الفرنسي خلال زيارته القصيرة إلى لبنان بلغة واضحة وحازمة مع القيادة السياسية في البلاد، فلما التقى برؤساء السلطات التنفيذية والأحزاب والتيارات السياسية والفرقاء قال لهم إن «هناك إصلاحات لم تتم في قطاع الطاقة والشراء العام وفي مجال مكافحة الفساد. ويجب إجراء التدقيق في المصرف المركزي وفي القطاع المصرفي، مع الانخراط التام لصندوق النقد الدولي وكافة الأطراف الدولية. وعلى السلطات اللبنانية العمل لكي لا يغرق البلد ولتلبية التطلعات الشرعية التي يعبر عنها الشعب اللبناني في هذه اللحظة بالذات في شوارع بيروت وعلينا التأكد من أن اللبنانيين يستفيدون في حياتهم اليومية من التضامن الذي يستحقونه».
كما طالب السلطات بضرورة إنشاء لجنة تقصي حقائق للبحث عن سبب الانفجار وهل هو بسبب إرهابي أم بسبب الإهمال الحكومي الواضح لتخزين 2750 طناً من مادة نيترات الأمونيوم المتفجرة دون أي التزام بمعايير السلامة، والإهمال المتكرر لطلبات إزالة هذه الشحنة من قبل العديد من الجهات القانونية لست سنوات كاملة في المرفأ رغم التحذيرات الفرنسية المستمرة. فضبابية المشهد واحتمال تورط أطراف لبنانية قوية مثل حزب الله أو حتى خارجية، أدت إلى وجود قناعة لدى اللبنانيين بأهمية هذه المطالبة من أجل ضمان معرفة الحقيقة، ومن أجل إيجاد آليات لمعاقبة الجناة بإشراف دولي.
 
أرملة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري (وسط) تزور قبره مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك وزوجته برناديت في بيروت في 16 فبراير 2005. (غيتي)
 
زمن إعادة البناء ثم التفسيرات
في الوقت الحالي، يحاول رئيس فرنسا «مداواة الجراح». وطلب في لقاء من رئيس الوزراء جان كاستكس مع الوزراء المعنيين سرعة التنسيق، لإرسال المواد الإغاثية إلى بيروت. وتم بناء جسور جوية طبية وغذائية عاجلة تتجاوز 60 طنا واتخذ مبادرات حشد المساعدات الدولية اللازمة، خاصة على المستوى الأوروبي غير المشروطة. ثم سيأتي بعدها وقت إعادة الإعمار ولا شك وقت التفسيرات، حيث حدد الرئيس أن باريس سيكون لها دور ريادي تلعبه في هذا المجال وستقود أعضاء المجتمع الدولي لتسهيل الانتقال السياسي والسلمي الذي يحتاجه لبنان.
 
أنبوب أكسجين للبنان
وفور عودته لباريس عكف إيمانويل ماكرون على جمع نحو 30 دولة و40 منظمة دولية وعلى رأسها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي في زمن قياسي وترأس من مقر إقامته الصيفية  فور- دو- بريجانسون، يوم الأحد الماضي 9 أغسطس (آب)، قمة المانحين الدوليين لدعم ومساندة بيروت والشعب اللبناني التي شارك فيها 15 من قادة الدول ورؤساء الحكومات وعلى رأسهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب رغم فروق التوقيت بين القارتين. وهدف من هذا المؤتمر إلى توحيد إمكانيات الأسرة الدولية من أجل تلبية احتياجات سكان بيروت، في الأيام والأسابيع المقبلة. بالتنسيقٍ من الأمم المتحدة على الأرض، من خلال جمع الإمكانيات المادية التي يمكن للدول المانحة المباشرة فوراً توفيرها. وقد شاركت في هذا المؤتمر الطارئ كل من ألمانيا والمملكة العربية السعودية وأستراليا وبلجيكا والبرازيل وكندا والصين وقبرص والدنمارك ومصر والإمارات العربية المتحدة وإسبانيا والولايات المتحدة الأميركية وفنلندا وفرنسا واليونان والعراق وإيطاليا واليابان والأردن والكويت ولبنان والأمم المتحدة والنرويج وقطر وهولندا والمملكة المتحدة والسويد وسويسرا والاتحاد الأوروبي والمصرف الأوروبي للاستثمار والمصرف الأوروبي للإنشاء والتعمير والبنك الدولي واللجنة الدولية للصليب الأحمر وصندوق النقد الدولي وجامعة الدول العربية.
 
كلمة ماكرون
قال الرئيس ماكرون في كلمته بمؤتمره الطارئ: «إن الشعب اللبناني حرٌ وأبيٌّ وسيد، والمطلوب هو تقديم مساعدة تحت رقابة شديدة من قبل الأمم المتحدة التي سمحت بتحديد الحاجات، مما يجعل تنظيم المساعدات على الأرض ممكناً مع دعم البنك الدولي. فمن المهمّ أن تصل في أسرع وقت ممكن إلى الهيئات العامة والخاصة والمنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني، مع الأخذ بعين الاعتبار حاجاتها التي تم تقييمها».
وقال ماكرون: «نحن مدينون بهذا الالتزام للشعب اللبناني. منذ بضعة أيام، عانت مدينة بيروت الأمرّين. أُصيبت اليوم، في الصميم، مع شعب قوي وذي سيادة، يبكي أمواته ويعبّر عن غضبه ويريد أن يرفع رأسه. أودّ أن أعبّر هنا، باسمنا جميعاً، عن الدعم الذي نقدّمه للعائلات، لأقارب الضحايا ولكل الذين يقومون، في هذه اللحظة بالذات على الأرض، بمعالجة المصابين وبأعمال الإغاثة، ولكل من هم في الخطوط الأمامية لمواجهة الحالات الطارئة ونتائج هذه المأساة. يتوجّب علينا أن نمدّ لهم يد المساعدة في مجالي الإيواء وإعادة البناء على نحو عاجل، علماً أنّه ثمّة احتياجات ملموسة جداً على هذا الصعيد أيضاً، في هذا البلد الذي أُذكّر بأنّه يعاني من أزمة النزوح من جرّاء الحرب في سوريا، شأنه شأن الأردن وتركيا».
كما أحرج الرئيس اللبناني أمام قادة العالم ليضعه أمام الأمر الواقع بخصوص ضرورة اجراء تحقيق دولي سبق ورفض اقتراحه في بيروت، فقال في القمة: «إن عرض المساعدة هذا يتضمن أيضاً دعماً لإجراء تحقيق غير منحاز ومستقل وذا مصداقية حول أسباب كارثة الرابع من شهر أغسطس. هذا هو المطلب الشرعي الذي ينادي به الشعب اللبناني بقوة. إنها مسألة ثقة والإمكانات موجودة ولا بدّ من حشدها. أريد أن أشكر كل من يستجيب لمطالب السلطات اللبنانية».
هذا وقد وجه ماكرون دعوة للمساعدة إلى تركيا ولروسيا أيضاً. لم تتمكن تركيا من المشاركة في المؤتمر، لكنها أعلنت أنها ستقدّم المساعدة.. فيما أعربت إسرائيل عن رغبتها في تقديم المساعدة. وفي هذا السياق قال ماكرون في كلمته بالقمة: «أشير هنا أمام الجميع، إلى أنه على الرغم من أن الظروف الجيوسياسية تجعل الأمور أكثر صعوبةً. ولكن لا بد من تنظيم المساعدة، لأنني أؤمن بأنه ما يتوجب علينا تنظيمه اليوم هو مؤتمر من أجل الوحدة بكل ما في الكلمة من معنى، حيث ينبغي على الجميع، على الرغم من كل الاختلافات في وجهات النظر، تقديم الدعم إلى هذا البلد، إلى لبنان وإلى شعبه».
 
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (إلى اليسار) مع الرئيس اللبناني ميشال عون لدى وصوله إلى مطار بيروت (غيتي)

الأمم المتحدة
وفيما حدّدت الأمم المتحدة وفقاً لتقييمها، في وثيقة تمّ إرسالها لقادة الدول تتعلق باحتياجات الشعب اللبناني خصوصاً في قطاع الطب والصحة والتعليم والغذاء وإعادة التأهيل الحضري، وكلها مجالات حظيت بالأولوية، فيما يتعلّق بالدعم المقدّم من برامج المساعدات الطارئة الدولية، وتلخصت فيما يلي:
أوّلاً، في مجال الصحّة. ذلك أن العديد من المستشفيات والبنى التحتية الطبيّة تضرّرت، وينبغي علينا أن نلبّي الحاجة الملحّة إلى المعدّات والأدوية.
ثانياً، في مجال الغذاء. فقد دمّر الانفجار الاحتياطي الغذائي ويجب أن نؤمّن الغذاء بشكل طارئ.
ثالثاً، في مجال التعليم. فقد دُمّرت العديد من المدارس وتأثّر العديد من الأطفال. يجب أن يحظوا بالرعاية مع عائلاتهم وأن يسلكوا من جديد طريق المدرسة بأسرع وقت ممكن.
رابعاً، في مجال الإسكان. فمئات الآلاف من الأشخاص هم اليوم في الشارع، ويبلغ عددهم، وفقاً لآخر الإحصاءات، أكثر من ثلاثمائة ألف شخص.
 
252.7 مليون يورو لبناء المرفأ وللمتضررين
صدر عن مكتب الرئيس ماكرون بقصر الإليزيه أن فرنسا تلقت من القمة تعهدات بقيمة 252.7 مليون يورو كمساعدات عاجلة غير مشروطة لكن الرقم مرشح للزيادة حيث تمكن من إقناع رئيس وزراء كندا بزيادة دعم بلاده من 5 ملايين دولار إلى 20 مليون دولار، كما حصل من الاتحاد الأوروبي على 60 مليون يورو، ومن دولة قطر على 50 مليون يورو، ومن الكويت 40 مليون دولار. وجاء في البيان الرئاسي الذي حصلت «المجلة» على نسخة منه أن «المساعدة يجب أن تكون سريعة وكافية ومتسقة مع احتياجات الشعب اللبناني»، وأنه يجب «إيصالها مباشرة إلى اللبنانيين بأقصى قدر من الكفاءة والشفافية».
وذكر البيان استعداد المانحين للمساعدة في معافاة لبنان على المدى الطويل في حال استمعت الحكومة إلى التغييرات التي يطالب بها المواطنون. فقد قرّر المشاركون في المؤتمر اتخاذ إجراءات حاسمة لمساعدة بيروت والشعب اللبناني في التغلّب على عواقب الانفجار المأساوي الذي ضرب بيروت. كما اتفقوا على حشد موارد هائلة خلال الأيام والأسابيع المقبلة لتلبية احتياجات بيروت والشعب اللبناني. واتفق المشاركون على ضرورة أن يكون الدعم المقدم ضخماً ومتسقاً مع احتياجات الشعب اللبناني وأن تتولّى الأمم المتحدة تنسيقه وأن يُوجّه مباشرةً إلى الشعب اللبناني بأقصى درجات الشفافية والفعالية. كما أن تقديم الدعم لإجراء تحقيق محايد وذي مصداقية ومستقلّ بشأن الانفجار أمر ضروري ومُتاح فوراً، بناءً على طلب من لبنان.
وقد تمكن ماكرون إلى جانب المساعدات الطارئة، من إقناع المشاركين في المؤتمر ليقفوا على أهبة الاستعداد لدعم الانتعاش الاقتصادي والمالي للبنان، الأمر الذي يتطلب، في إطار الاستراتيجية الرامية إلى إرساء الاستقرار، أن تلتزم السُلطات اللبنانية التزاماً تامّاً بالإصلاحات العاجلة والجوهرية التي ينتظرها الشعب اللبناني.
هذا وقد سبق وأن حشدت فرنسا الجهود الدولية لدفع لبنان إلى إجراء إصلاحات، واستضافت عام 2018 مؤتمر «سيدر» للمانحين الذين وعدوا خلاله بتقديم أكثر من 11 مليار دولار للاستثمار في البنية التحتية في لبنان بشرط تنفيذ الإصلاحات التي تم التعهد بها ولكنها لم تنفذ.
 
الخارجية الفرنسية تعلق على سقوط الحكومة اللبنانية
في اتصال بمكتب وزير الخارجية الفرنسية أعلن أن فرنسا علمت باستقالة الحكومة اللبنانية. وهي تقدّر تماماً خطورة الوضع الذي يجد لبنان نفسه فيه وضرورة الاستجابة بسرعة لتوقعات سكانه. وإلى جانب حالة الطوارئ المرتبطة بانفجار الرابع من أغسطس، والتي جمعت على أثره فرنسا والأمم المتحدة شركاء لبنان الدوليين بمبادرة من رئيس الجمهورية، ومن الضروري الآن أن ترتقي التطلعات التي عبر عنها اللبنانيون في الإصلاح والحكم الى التنفيذ. ومن هذا المنظور، يجب أن تكون الأولوية للتشكيل السريع لحكومة تثبت نفسها للشعب وتتمثل مهمتها في الاستجابة للتحديات الرئيسية للبلاد، ولا سيما إعادة إعمار بيروت والإصلاحات التي بدونها يتجه البلد نحو الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. في هذه اللحظات الصعبة من تاريخها، تقف فرنسا كما كانت دائمًا إلى جانب لبنان.
 
إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي خلال مؤتمر صحافي في بيروت خلال زيارته إلى لبنان غداة انفجار المرفأ(غيتي)

رسائل: دعم وضغط... وإبعاد أنقرة وطهران
حملت زيارة ماكرون إلى لبنان عدة رسائل، الأولى دعم للبنان والثانية ضغط على الحكومة اللبنانية للبدء بالإصلاحات، حيث إن مجرد القيام بالزيارة يمثل دعماً للبنان في وقت يعاني فيه من عزلة عربية ودولية بسبب الانتماء السياسي الحالي لحكومته التي يسيطر عليها حزب الله. فالموقف الفرنسي واضح ويطالب لبنان بالإصلاحات وعدم التضحية بمصلحته لصالح دول ومحاور لا تفيده، فالغربيون والخليجيون يقولون للبنان ابتعد عن إيران ونحن نساعدك لكن بشروط، لأن المساعدات كانت في السابق غير مشروطة وأدت إلى تقوية حزب الله وإثراء الطبقة السياسية الفاسدة.
وفي سياق متصل، تحاول فرنسا لعب وساطة بين لبنان من جهة والدول الغربية ودول الخليج من جهة أخرى، فمنذ اتفاق الطائف عام 1989 كانت المملكة السعودية اللاعب الاقتصادي الأول المساعد للبنان، لكن منذ فترة أصبح هناك تخلٍ عربي عن لبنان بسبب سباحته حول محور إيران، ما جعل دول الخليج تمارس نفس سياسة الولايات المتحدة حيال لبنان، ولذلك تحاول فرنسا تدوير الزوايا ولعب وساطات في هذا الاتجاه، وفي نفس الوقت تبعد لبنان عن المغناطيسية الفارسية والعثمانية، حيث ترتكز السياسة الفرنسية حول فكرة إعلان حياد لبنان وهو ما يضع البلد أمام منعطف، وكأن إنقاذ لبنان اقتصادياً سيصبح مرتبطاً بتمركزه الجيو سياسي وبموقفه من لعبة المحاور في المنطقة.
 
منع تنامي الدور التركي
وما عدا النفوذ الإيراني الواضح، تزداد محاولات تركية للعب دور في لبنان بالاستفادة من الأزمة الاقتصادية فيه. ففي بداية الشهر الجاري ألقت السلطات اللبنانية القبض على عدة أشخاص في طائرة خاصة قادمة من تركيا كان بحوزتهم 4 ملايين دولار، وفي الشهر الماضي أعلن الجيش اللبناني استلام «ذخيرة من عيارات مختلفة مقدمة هبة من السلطات التركية». ولا تزال قضية مقاضاة إعلامي لبناني معروف بسبب وصف إردوغان بـ«العثماني الخبيث» تثير الجدل.
تؤكد هذه المؤشرات وغيرها، من نشاط جمعيات مساعدات تركية في شمال لبنان، أن إحدى غايات فرنسا من إنقاذ لبنان هي منع تنامي الدور التركي فيه، خصوصاً مع التوترات الحالية بين باريس وأنقرة بشأن ليبيا، والخشية من الطموحات التركية في شرق المتوسط للتنقيب عن النفط والغاز. إذ تخشى فرنسا بالفعل من تنامي دور إردوغان في لبنان، لا يمكن الإنكار بأن هناك فئة من التركمان في شمال لبنان لها صلات مع تركيا، محسوبة على الإخوان المسلمين ولها صلات بالسلطان العثماني الجديد متحمسة لهكذا دور لكنه لا يزال دوراً محدوداً، غير أن خشية فرنسا هي أكثر من إيران بسبب سيطرة حزب الله على الوضع في لبنان فيما لا تزال تركيا بعيدة عن التجذر في لبنان، لديها رغبة جامحة للامتداد على طول شرق المتوسط.
 
الخوف من حرب أهلية جديدة
تخشى فرنسا أيضا من نشوب حرب أهلية جديدة في لبنان لهذا سارعت للتدخل حتى لا يتكرر سيناريو عام 75 فما يحدث على الأرض قد يعتبر نذيرا لحرب أهلية أخرى في لبنان، سيكون من واجب لجنة التحقيق الدولية في الانفجار وضع آليات من أجل معاقبة المذنبين، وعلى أثر النتائج التي ستظهر سيتحدد المشهد اللبناني فإذا كان المتورط خارجيا سيتوحد الشارع اللبناني، أما في حال تورط أطراف داخلية مثل حزب الله أو غيره فمن الممكن أن يجر ذلك إلى «حرب أهلية جديدة»، حيث سترفض هذه الجهات الحكم الصادر، وهو ما قد يقود إلى المواجهة المسلحة. وكان الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله قد رفض في خطاب له تدويل الصراع، وقال: «إذا كانت مؤسسة الجيش اللبناني مؤسسة موثوقة لكل اللبنانيين ولكل الزعامات السياسية تفضلوا كلفوا الجيش اللبناني.. اعملوا تحقيق مشترك»، نافيا في الوقت نفسه تسبب حزب الله في هذا الانفجار. كما طالب بإجراء «تحقيق دولي» لكشف ملابساته فيما لا تثق به فرنسا التي تعتبره منظمة إرهابية سبق وأن اغتال سفيرها في بيروت خلال الحرب الأهلية في الثمانينات.

 
 
 
 
 
font change